فقه الموت - الجزء الثانى
فما أعظم الموت، وما أشد سكراته.. وما أعظم هول ما بعده.
ولو لم يكن بين يدي العبد كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت بمجردها، لكان جديراً بأن ينغص عليه عيشه، ويتكدر عليه سروره.
والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأكبر مجالس اللهو، فانتظر أن يدخل عليه جندي فيضربه بخمس خشبات لتكدرت عليه لذته، وفسد عليه عيشه، وهو في كل نَفَس يدخل عليه ملك الموت وهو عنه غافل.
فما لهذا سبب إلا الجهل والغرور.
والمشروع عند الموت من صورة المحتضر هو الهدوء والسكينة، ومن لسانه أن يكون ناطقاً بالشهادة، ومن قلبه أن يكون حَسَن الظن بالله تعالى.
ويستحب أن يذكر للمحتضر محاسن أعماله عند موته، لكي يحسن ظنه بربه.
ثم يُغسَّل الميت ويصلَّى عليه، ثم يُدفن، ويبقى في قبره منتظراً يوم البعث، ويظل في قبره منعماً أو معذباً حسب عمله، ثم يبعث وينتقل إلى دار القرار في الجنة أو النار.
كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)} [الروم: 14].
وليس معنى الموت انتهاء الحياة وانتهاء المشاكل، بل معناه انتقال الإنسان من حياة صغيرة قصيرة حقيرة فانية إلى حياة أبدية طويلة، إما في سعادة، أو في شقاء. فمعناه نهاية الحياة والأحوال الفانية، وبداية الحياة والأحوال الأبدية.
فالله كتب على جميع الكائنات الموت والفناء، ولكن الإنسان خُلق للبقاء، لكنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة، ومن دار إلى دار، حتى يستقر في دار المقام في الجنة أو النار.
والإنسان إذا مات وفارق الحياة لايستطيع أن يأخذ معه من الأموال شيئاً، ولو أخذ كل ذهب الدنيا معه لكان كالتراب بالنسبة لنعيم الجنة.
فكل ما في الدنيا لايساوي ثواب حسنة واحدة يوم القيامة، والإنسان إذا مات يذهب بالأعمال إلى الآخرة، وبعد الموت إما أن تنتهي المشكلة ويدخل الجنة، أو تبدأ المشكلة ويدخل النار.
فالناس لا بدَّ لهم من السجن:
فمن دخل السجن في الدنيا، وامتثل أوامر الله إلى أن تنتهي مدة سجنه بالموت أدخله الله الجنة، وأطلق شهواته فيها، فالدنيا بصغرها وضيقها كالسجن للمؤمن الذي ينتظر الخروج منها إلى الجنة، وهي كالجنة بالنسبة للكافر الذي سينتقل منها إلى السجن المؤبد في نار جهنم كما قال النبي (: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» أخرجه مسلم (1).
ومن أطلق شهواته في الدنيا، ولم يمتثل أوامر الله، عاقبه الله في السجن يوم القيامه، وقيد شهواته وجوارحه، وعذبه في نار جهنم.
فالناس رجلان: إما خارج من السجن.. وإما ذاهب إلى السجن.
وحياة الإنسان في الدنيا قصيرة، ولها بداية ولها نهاية، وحياة الإنسان في الآخرة مؤبدة لها بداية ولا نهاية لها.
وقد فرغ الله إلى كل عبد من خمس:
من عمله.. وأجله.. ورزقه.. وأثره.. ومضجعه.
ومهما عاش الإنسان فإنه سيموت، ومهما أحب من الأشياء فإنه سيفارقها، ومهما عمل من الأعمال فإنه سيلاقيها ويحاسب عليها.
وقد خلق الله الإنسان، وجعله محدود العمر، محدود المعرفة، محدود الرؤية، محدود القدرة.
وكل يوم، وكل ليلة، وكل لحظة تمر بالإنسان فهو يزداد من الدنيا بعداً ومن الآخرة قرباً، فوا عجباً لهذا الإنسان.. إن على أَثَره طالباً لا يفوته، وقد نُصب له علم لا يجوزه، فما أسرع ما يبلغ العلم، وما أوشك أن يلحقه الطالب.
وقد أخفى الله عزَّ وجلَّ علم الساعة، ومعرفة الآجال؛ رحمة بالعباد.
فلو عرف الإنسان مقدار عمره، فإن كان قصير العمر لم يهنأ بالعيش، وإن كان طويل العمر فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي، ويقول إذا قرب الوقت أحدثت التوبة.
وهذا مذهب لا يرتضيه المخلوق فكيف يرتضيه الخالق؟.
فلو أن عبداً من عبيدك عمل على أن يسخطك أعواماً، ثم يرضيك ساعة واحدة إذا تيقن أنه صائر إليك لم تقبل منه، ولم يفز لديك بما يفوز به مَنْ همه رضاك في كل أوقاته.
وكذا سنة الله عزَّ وجلَّ أن العبد إذا عاين الانتقال إلى الله تعالى لم تنفعه التوبة كما قال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)}... [النساء: 17].
وأوحش ما يكون الناس في ثلاثة مواطن:
يوم يولد الإنسان فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه فيصرخ.
ويوم يموت، فيرى قوماً لم يكن عاينهم من قبل.
ويوم يبعث، فيرى نفسه في محشر عظيم.
والأجل أجلان:
أجل مطلق لا يعلمه إلا الله، فهذا لا يتبدل ولا يتغير.
وأجل مقيد، وهو ما في صحف الملائكة، فإن الله أمر الملك أن يكتب للعبد أجلاً، وقال إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا، لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر.
فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر كما قال سبحانه: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}... [المنافقون: 11].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأنْ يُنْسَأ لَهُ فِي أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه (1).
والأجل قسمان:
أحدهما: أجل كل عبد الذي ينقص به عمره.
الثاني: أجل القيامة العامة.
فأجل الموت قد يعلمه الله لمن شاء من عباده كالملائكة الذين يكتبون رزق العبد وأجله وعمله كما قال (: «إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأجَلُهُ، وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ» متفق عليه (1).
أما أجل القيامة المسمى عنده فلا يعلمه إلا الله عز وجل كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)} [الأنعام: 2].
فوقت الساعة لا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا غيرهما من المخلوقات.
والله يكتب للعبد أجلاً في صحف الملائكة، فإذا وصل العبد رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب.
والله عزَّ وجلَّ قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدر مقادير الخلق حين خلقهم وأوجدهم، ثم يقدر في ليلة القدر ما يكون في ذلك العام.
وكذلك يقدر الله خلق كل إنسان في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة كذلك، ثم يكون مضغة كذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ويبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات:
بكتب رزقه.. وأجله.. وعمله.. وشقي أو سعيد.
وإذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظمها.
ثم إذا ولد قُدِّر مع ولادته كل سنة ما يلقاه في تلك السنة، وهو ما يقدر ليلة القدر.
ونظير هذا: عرض أعمال العباد على الله، فيعرض عمل الأسبوع يوم الإثنين والخميس كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «تُعْرَضُ أعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ، يَوْمَ الإثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، إِلا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا، أوِ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا» أخرجه مسلم (1).
ويعرض عمل النهار في آخره، وعمل الليل في آخره، ويرفع عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار.
فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض الأسبوعي في الإثنين والخميس، والعرض فيه أخص من العرض السنوي في شعبان، ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله، وعرض على الله، وطويت الصحف، وهذا عرض آخر، ثم تعرض الخلائق كلها على الله يوم القيامة كما قال سبحانه: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}... [الكهف: 48].
وتعرض جهنم على الكفار كما قال سبحانه: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} [الكهف: 100].
ومن الناس من أحب الموت.. ومنهم من كرهه، إما لضعف محبته لله.. وإما لكونها مشوبة بحب شيء من الدنيا.. أو لأنه يرى ذنوبه فيحب أن يبقى ليتوب.. ومنهم من يرى نفسه في ابتداء مقام المحبة فيكره عجلة الموت قبل أن يستعد للقاء الله تعالى.. فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال المحبة.
والإحياء والإماتة أمران مكروران في كل لحظة، معروضتان لحس الإنسان وعقله، وسر الحياة والموت لا يعلمه إلا الله الذي خلق الموت والحياة، ولذلك وصف إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ربه بالصفة التي لا يشاركه فيها أحد، ولا يستطيعها أحد كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258].
فلما قال الكافر (أنا أحيي وأميت) عَدَل إبراهيم عن هذه السنة الكونية الخفية إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية، وعدل عن طريقة العرض المجرد إلى طريقة التحدي، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويجادل في الله، ليريه أن الرب وحده هو مصرف هذا الكون كله، وهو رب الناس المشرع لهم فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} وتلك حقيقة مكرورة مرئية يومية، معلومة لكل أحد.
فماذا حصل؟.
{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} فالتحدي قائم، والأمر ظاهر، ولا سبيل إلى سوء الفهم أو الجدال أو المراء.
وكان التسليم أولى، والإيمان أجدر، ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق أمسك بالذي كفر، ولم يهده الله إلى الحق؛ لأنه لم يلتمس الهداية، ولم يرغب في الحق، وظل ظالماً: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)} [البقرة: 258].
وهذا مثل للضلال والعناد يتزود به الدعاة إلى الله في مواجهة المنكرين.
والإحياء والإماتة، وطلوع الشمس من المشرق آيتان عظيمتان معروضتان للبصائر والأبصار بلا تكلف، يسهل الاهتداء بهما في مسألة الإيمان على أي مخلوق، وإذا كان عمر الإنسان محدوداً، والأجل مكتوباً، فلتنظر نفس ما قدمت لغد؟، ولتنظر نفس ماذا تريد؟.
أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان، وأن تحصر همها كله في هذه الأرض؟
أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى، وإلى حياة أكبر من هذه الدنيا؟.
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} [آل عمران: 145].
وشتان بين حياة وحياة، وشتان بين اهتمام وإهمال.
<-السـابق :: فقه الموت - الجزء الاول
فقه الموت - الجزء الثالث :: التـــالى->
==================================
الذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثواب الدنيا وحدها، إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام والبهائم، ثم يموت خاسراً في موعده المضروب بأجله المكتوب.
أما الذين يدركون نعمة الإيمان فيحيون حياة الإنسان الذي كرمه الله، واستخلفه، وأعلى مكانه، فيرتفعون عن مدارج الحيوان، ويشكرون الله على تلك النعمة، وينهضون بتبعات الإيمان، ثم يموت هذا الإيمان رابحاً مطمئناً في موعده المضروب، وأجله المكتوب.
وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت وهي لا تملكه، إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه اختيار الدنيا أو الآخرة، وتنال في الآخرة جزاء ما تختار.
والله عزَّ وجلَّ وحده هو الذي يحيي ويميت، فبيده إعطاء الحياة، وبيده استرداد ما أعطى، وكل شيء بأجل مسمى.
وللناس آجال لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم، أو في ميادين طلب الرزق، أو ميادين الغزو، وعنده الجزاء بعد ذلك، هذا اعتقاد المؤمن.
أما الكفار فلفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون، لا يرون إلا الأسباب الظاهرة؛ بسبب انقطاعهم عن الله، وعن قدره الجاري في الحياة.
فعلة القتل أو الموت أو الحياة كلها بيد الله سبحانه، والموتى والقتلى إنما يلبون النداء، وهو استيفاء الأجل، ونداء المضجع.
وقدر الله وسنته في الحياة والموت كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}... [آل عمران: 156].
وقال سبحانه: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)} [النساء: 78].
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل، فهذه ليست نهاية المطاف، بل هناك حياة أخرى، ونعيم أعلى خير مما فيه أهل الدنيا: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157)} [آل عمران: 157].
وكل الخلق بعد الموت راجعون إلى الله، محشورون إليه على كل حال، سواء ماتوا على فرشهم، أو ماتوا وهم يضربون في الأرض، أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان، وما لهم مصير سوى هذا المصير، والتفاوت إنما يكون في النية والعمل الصالح، أما النهاية فواحدة، موت أو قتل، في الموعد المسمى.
وهناك إما مغفرة من الله ورحمة... أو غضب من الله وعذاب.
وبهذا اليقين تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة، وحقيقة قدر الله، وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر.
وإلى ما وراء القدر من حكمة.. وما وراء الابتلاء من جزاء: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}... [المنافقون: 11].
والله جل جلاله هو القاهر فوق عباده، وهم تحت سيطرته وقهره، فهم ضعاف في قبضة هذا السلطان، لا قوة لهم ولا ناصر، وكل نَفَس من أنفاسهم بقدر.
خلقهم الله لعبادته، وأرسل إليهم رسلاً يحفظونهم، ورسلاً آخرين يدعونهم إلى الله، ورسلاً آخرين يقبضون أرواحهم، وكل يؤدي رسالته حسب أمر ربه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)} [الأنعام: 61].
وسَيُرد الخلق كلهم بعد الموت إلى ربهم ومولاهم الذي أنشأهم وأطلقهم للحياة ما شاء، ثم مردهم إليه عندما يشاء، ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب.
فهو وحده يحكم.. وهو وحده يحاسب.. وهو لا يبطئ في الحكم.. ولا يمهل في الجزاء: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)} [الأنعام: 62].
فلا بدَّ للناس أن يستيقنوا أن الله محاسبهم ومجازيهم على أساس شريعته هو لا شريعة غيره، وأنهم إن لم ينظموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم وفق شريعة الله في الدنيا، فإن هذا سيكون من أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله عزَّ وجلَّ.
وأنهم سيحاسبون على أنهم لم يتخذوا إلهاً في الأرض، ولكنهم اتخذوا من دونه أرباباً متفرقة، وأشركوا مع الله غيره من خلقه.
والأمر كله لله، وسنة الله ماضية لا تتخلف، وأَجَله الذي أَجَّله لا يستعجل لكل حي، ولكل فرد، ولكل أمة: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)}... [يونس: 49].
والآجال كالأرزاق كلها بيد الله، والأسباب والأمراض ستار وراءه قدرة الله.
والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي، هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود.. وقد ينتهي بالهلاك المعنوي، هلاك الهزيمة والضياع.. وهو ما يقع للأمم إما لفترة تعود بعدها للحياة.. وإما دائماً فتضمحل، وتنمحي شخصيتها، وتنتهي إلى اندثارها كأمة، وإن بقيت كأفراد.
وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل مصادفة ولا ظلماً.
فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا، والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها.
والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها، والرسول يدعوها لما يحييها، لا بمجرد الاعتقاد فقط، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة، والحياة وفق المنهج الذي شرعه الله لها، والشريعة التي أنزلها، وإلا جاءها الأجل وفق سنة الله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)} [الأنفال: 24 - 25].
والحياة والموت حادثان يقعان في كل لحظة، وليس إلا الله وحده يملك الحياة والموت: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)} [المؤمنون: 80].
فالبشر كلهم أعجز وأقل من بث الحياة في حشرة واحدة، وأعجز من سلبها عن حي من الأحياء، فالذي يملك ويهب الحياة هو الذي يعرف سرها، ويملك أن يهبها ويستردها.
والبشر قد يكونون سبباً لإزهاق الروح، لكن تجريد الحي من حياته بيد الله وحده، والذي يملك اختلاف الليل والنهار هو الله وحده، وهو سنة كونية كسنة الموت والحياة.. هذه في النفوس والأجساد.. وتلك في الكون والأفلاك.
وكما يسلب الحياة من الحي فيعتم ويهمد، كذلك هو يسلب الضوء من الأرض فتعتم وتسكن.
فسبحان الخالق المالك الذي يملك وحده تصريف هذا الكون الهائل، وهذه الأحياء المبثوثة من نبات وحيوان، وطير وإنسان.
وقد وكل الله عزَّ وجلَّ ملك الموت بقبض جميع الأرواح كما قال سبحانه: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} [السجدة: 11].
ولملك الموت أعوان من الملائكة كما قال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)}... [الأنفال: 50 - 51].
إن أمر النشأة الأولى ونهايتها، أمر الحياة والموت، كل ذلك بيد الله وحده، وهو أمر مألوف وواقع في حياة الناس، فكيف لا يصدقون أن الله خلقهم.
إن ضغط هذه الحقيقة على الفطرة أضخم وأثقل من أن يقف له الكيان البشري، أو يجادل فيه: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)} [الواقعة: 57 - 59].
إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يُوْدِع الرجل ما يُمْني رحم المرأة، ثم ينقطع عمله وعملها، وتأخذ يد القدرة الإلهية في العمل وحدها في هذا الماء المهين، تعمل وحدها في خلقه وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه، حتى يكون خلقاً آخر، حتى يكون بشراً سوياً له سمع وبصر، وقلب وروح، وعقل وإدراك، ورأس ولسان، وأيد وأقدام.
يأكل ويشرب.. ويضحك ويبكي.. ويقوم ويقعد.. وينام ويستيقظ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} [المؤمنون: 12 - 16].
هذه هي البداية، أما النهاية فهي الموت الذي ينتهي إليه كل حي، إنه قدر الله، ومن ثم لا يفلت منه أحد، وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بدَّ أن تتكامل: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)} [الواقعة: 60 - 62].
والله الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة، قدّر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا، فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [العنكبوت: 20].
والله سبحانه القادر على كل شيء، وله القدرة المطلقة التي لا تتقيد بقيد، وهذه حقيقة يطبعها القرآن في قلب المؤمن، فيعرفها ويتأثر بمدلولها، ويعلم أنه حين يركن إلى ربه، فإنما يركن إلى قادر يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)}... [الحج: 6 - 7].
فعلى الإنسان أن يستعد للموت ويكثر من ذكره، والاستعداد للموت يكون المحرمات.
وعلى المسلم أن يتذكر دائماً أن الموت فيه فراق العمل والحرث للآخرة، لا على أنه فراق للأهل والأحباب ولذات الدنيا، فهذه نظرة قاصرة تزيده حسرة وألماً.
أما النظرة الأولى: فتبعثه ليستعد ويزيد في عمل الآخرة، والإقبال على الله.
والمسلم لا يتمنى الموت، إن كان محسناً لعله أن يزداد إحساناً، وإن كان مسيئاً لعله أن يتوب.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدٌ مِنْكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّياً لِلْمَوْتِ فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ أحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي» متفق عليه (1).
وحياة الإنسان خطوات إلى الآخرة، وأنفاس معدودة منصرمة، كل نَفَس منها يقابله آلاف الآلاف من السنين في دار البقاء.
والعبد منساق بزمنه إلى دار النعيم أو إلى دار الجحيم، وبقاؤه في الدنيا كساعة من النهار، فما أولى العاقل أن لا يصرف منها نَفَساً، إلا في أحب الأمور إلى الله، فلو صرفه فيما يحبه وترك الأحب لكان مفرطاً، فكيف إذا صرفه فيما لا ينفعه؟ وكيف إذا صرفه فيما يمقته عليه ربه؟.
وسيُسأل كل إنسان عما قدم وأخر.. وعن كل طاعة عملها.. وعن كل معصية فعلها.. وعن كل فاحشة اقترفها.
وسيرجع الناس إلى ربهم يوم القيامة، وسيحاسبهم على كل ما عملوه.. وكل ما أسروه وأعلنوه.. وكل ما جمعوه وفرقوه.. وكل ما حفظوه وضيعوه كما قال سبحانه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26].
=======================
فقه البعث والحشر - الجزء الاول
فقه البعث والحشر
قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)} [يس: 51 - 53].
وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)} [يونس: 45].
وقال الله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)}... [التغابن: 7].
ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، وهي نفخة الفزع والموت، ثم ينفخ النفخة الثانية، وهي نفخة البعث والنشور كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68].
فإذا نفخ في الصور نفخة البعث خرج الناس من الأجداث والقبور ينسلون إلى ربهم، ويسرعون للحضور بين يديه، الأولون والآخرون، والإنس والجن، ليحاسبوا على أعمالهم، ثم يساقون حسب أعمالهم، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فسبحان الله ما أعظم هذا المَلَك، إسرافيل بنفخة واحدة منه يصعق أهل السماء وأهل الأرض إلا من شاء الله، وبنفخة أخرى يحيا جميع الخلق، ويخرجون من قبورهم قيام ينظرون.
وإذا كانت هذه قوة نفخته، فكيف بقوة بدنه؟.. وكيف تكون قوة خالقه الذي خلقه وَأَمَره؟.
وما أعظم ما يقرع سمع سكان القبور من شدة نفخ الصور، فإذا صيحة واحدة تنفرج بها القبور عن رؤوس الموتى، فيثورون دفعة واحدة.
فَتَوَهَّم نفسك معهم، وقد وَثَبْتَ متغير الوجه، مُغْبَرَّ البدن، مضطرب الفؤاد،
مبهوتاً من شدة الصعقة، شاخص العين نحو النداء، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي طال فيها بلاؤهم، وقد أزعجهم الفزع والرعب، فضلاً عما هم فيه من الهموم والغموم، وشدة الانتظار لعاقبة الأمر.
وبهذه النفخة يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم يلبث الخلق بعد النفخة الأولى أربعين سنة، أو شهراً، أو يوماً.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أرْبَعُونَ» قَالُوا: يَا أبَا هُرَيْرَةَ! أرْبَعُونَ يَوْمًا؟ قَالَ: أبَيْتُ، قَالُوا: أرْبَعُونَ شَهْرًا؟ قَالَ: أبَيْتُ؟ قَالُوا: أرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أبَيْتُ «ثُمَّ يُنْزِلُ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ».
ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} [الزمر: 68].
ثم انظر كيف يساقون بعد البعث والنشور حفاة عراة غرلاً إلى أرض المحشر، أرض بيضاء، وقاع صفصف، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، لا ترى فيها ربوة يختفي الإنسان وراءها، ولا وهدة ينخفض عن الأعين فيها، بل هي صعيد واحد لا تفاوت فيه، يساقون إليه زمراً، فسبحان من جمع الخلائق على اختلاف أصنافهم من أقطار الأرض إلى أرض المحشر، لا يتخلف منهم أحد: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)}... [الكهف: 47].
فأحضر قلبك، وانظر إلى صورتك وأنت واقف هناك عارياً ذليلاً، متحيراً بهوتاً، وجلاً خائفاً، منتظراً لما سوف يجري عليك وعلى غيرك من القضاء بالسعادة، أو الشقاوة الأبدية.
يستقبلك يوم عظيم شأنه.. ترى فيه السماء قد انفطرت.. والكواكب من هوله انتثرت.. والنجوم قد انكدرت.. والشمس قد كورت.. والجبال قد سيرت.. والبحار قد سجرت.. والجحيم قد سعرت.. والجنة قد أزلفت.. يوم تبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات.. يوم تحمل فيه الأرض والجبال فتدك دكة واحدة.. يوم ترجّ فيه الأرض رجّاً.. وتبسّ الجبال بسّاً.. يوم يكون فيه الناس كالفراش المبثوث.. يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت.. وتضع كل ذات حمل حملها: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 2].
يومٌ لا يُسأل أحد عن ذنبه من إنس ولا جان، ولا يُسأل فيه عن ذنوبهم المجرمون، بل يؤخذ فيه بالنواصي والأقدام: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30].
يوم تعلم فيه كل نفس ما قدمت وأخرت.
والناس بعد هذه الأهوال يساقون إلى الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم.
فتأمل حالك أمامه.. وما يحل بك من الفزع إذا رأيت الصراط ودقته.. ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته.. والناس يتعاوون فيها ويبكون.. ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها.. وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك.. واضطراب قلبك.. وتزلزل قدمك.. وثقل ظهرك بالأوزار والذنوب.
فكيف حالك عند عبور الصراط.. وأنت ترى الخلائق بين يديك يزلون ويتعثرون.. وتتناولهم زبانية النار بالكلاليب والخطاطيف.. وأنت تراهم ينتكسون على وجوههم في النار.. وتعلو أرجلهم.. والنار تغلي بهم.. تشوي وجوههم.. وتحرق أجسادهم.. وتقطع أمعاءهم.
فيا له من منظر ما أفظعه.. ومرتقى ما أصعبه.. ومجاز ما أضيقه.. وهول ما أفزعه.
فانظر إلى حالك وأنت تعبر الصراط وتزحف عليه.. وأنت مثقل الظهر بأوزارك.. تلتفت يميناً وشمالاً إلى الخلق وهم يتهافتون في النار.
والزعقات بالويل والثبور قد ارتفعت إليك من قعر جهنم، لكثرة من زل عن الصراط من الخلائق.
فكيف بك لو زلت قدمك.. ووقَعْتَ في قعر جهنم.. ووقع بك ما كنت تخافه.. وأنت تنادي يا ليتني قدمت لحياتي.. يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً... يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً.. يا ليتني كنت تراباً.. يا ليتني كنت نسياً منسياً.
فكيف ترى أيها العبد عقلك الآن.. وهذه الأخطار بين يديك.. فإن كنت غير مؤمن بذلك فما أطول مقامك مع الكفار في دركات جهنم؟.
وإن كنت مؤمناً وعنه غافلاً فما أعظم خسرانك وطغيانك؟.
وتأمل في أحوال الخلائق وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا، فبينما هم في كربها وأهوالها ينتظرون حقيقة أنبائها، وشفاعة شفعائها، إذا أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات لهب، وأظلت عليهم نار ذات لهب، وسمعوا لها زفيراً وشهيقاً.
فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، وجاءت الزبانية بمقامع من حديد، لتأخذ كل مجرم إلى العذاب الشديد، فينكسونه في قعر جهنم ويقولون له: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)} [الدخان: 49].
وأسكن أهل النار داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، يوقد فيها السعير، ويسقى فيها الحميم، يحشرون إليها عمياً وبكماً وصماً.
ويكبون فيها على وجوههم، مغلولين مقرنين في الأصفاد.
النار من فوقهم ومن تحتهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم.. تغلي بهم النار كغلي القدور، ولهم مقامع من حديد تهشم بها جباههم.. فيتفجر الصديد من أفواههم.. وتتقطع من العطش أكبادهم.. وتسقط من الإحراق لحومهم وشعورهم.
كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)} [النساء: 56].
وهم في تلك الأهوال والمواقف صمُّ بكمٌ عميٌ.. يبكون ويصيحون.. وهم يمشون في النار على وجوههم.. لا يسمعون ولا يبصرون ولا يتكلمون.. قد غُلَّت أيديهم إلى أعناقهم.. وجُمع بين نواصيهم وأقدامهم.
طعامهم الزقوم، والصديد، والضريع.. وشرابهم الحميم والغساق وفرشهم من نار.. ولباسهم من نار: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} [الحج: 19 - 22].
فما أعظم هذه الأحوال والأهوال، وما أشد حسرات أهل النار.
فهل نقبل هذا الإنذار، ونستعد لذلك الموقف الرهيب؟.
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}... [مريم: 39].
وهذه الدار التي عَرَفْت همومها وغمومها وشدة عذابها، تقابلها دار أخرى، وهي دار النعيم، ودار السلام، دار المتقين.
ومن لم يدخل هذه الدار استقر لا محالة في الدار الأخرى.
وقد وعد الله تبارك وتعالى أهل طاعته وعبادته بدخول الجنة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} [النساء: 57].
فتفكر في أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم.
في وجوههم نضرة النعيم.. يسقون من رحيق مختوم.. ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق.. يحلون فيها أساور من ذهب ولؤلؤ ولباسهم فيها حرير.
متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل والماء واللبن، محفوفة بالغلمان والولدان كما قال سبحانه: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)}... [الإنسان: 19].
يطوف عليهم في تلك الجنان ولدان مخلدون بأكواب وأباريق، وكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين، وجنانهم مزينة بالحور العين للتنعم والاستمتاع.. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان.. كأنهن الياقوت والمرجان... كأمثال اللؤلؤ المكنون.. خيرات حسان.. يمشين في درجات الجنان.. عليهن من الحرير الأبيض وفاخر اللباس ما تتحير فيه الأبصار.. مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ والمرجان.
عطرات آمنات من الهرم والبؤس.. حور مقصورات في الخيام.. قاصرات الطرف عين.
يطوف على أهل الجنة ويخدمهم ولدان مخلدون كأمثال اللؤلؤ المكنون.. وأهلها جالسون على منابر الياقوت الأحمر.. في خيام واسعة من اللؤلؤ... وغرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها.. وبسطهم من العبقري الأخضر.
وهم في الجنة خالدون.. في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. ينظرون فيها إلى وجه الرب الملك الكريم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22 - 23].
فهم عباد مكرمون.. وفيما اشتهت أنفسهم خالدون.. لا يخافون فيها ولا يحزنون.. وهم من ريب المنون آمنون.. فهم فيها يتنعمون.. ويأكلون من ألوان الطعام.. ويشربون من أنهار الخمر والعسل والماء واللبن.
ويسكنون في جنة أرضها المسك والكافور.. وبناؤها لبنة من فضة، ولبنة من ذهب.. وحصباؤها اللؤلؤ والمرجان.. وترابها الزعفران والدر والياقوت.. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)} [الغاشية: 8 - 16].
فيا له من نعيم ما أكمله.. ويا له من سرور ما أعظمه.. ويا له من خير ما أدومه.. فليسعد بذلك ويهنأ به من آمن بالله رباً.. وبالإسلام ديناً.. وبمحمد (رسولاً: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} [البقرة: 25].
يا حسرة على العباد.. كيف يفرطون في هذا النعيم المقيم والملك الكبير؟.
إن الواحد من أهل الجنة عنده من القصور والمساكن، والغرف المزينة المزخرفة، والخيام الفخمة الواسعة، ما لا يدركه الوصف ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه اللذيذة والرياض الزاهرة، والأنهار الجارية، ما يأخذ القلوب، ويفرح النفوس، ويبهر العقول.
وعنده من الزوجات اللاتي هن في غاية الجمال والحسن والإحسان، الجامعات لجمال الظاهر والباطن، الخيرات الحسان، ما يملأ القلب سروراً ولذة وحبوراً.
وحوله من الولدان المخلدين، والخدم المؤبدين، ما به تحصل الراحة والطمأنينة، وتتم لذة العيش، وتكمل الغبطة.
وفوق ذلك كله الفوز برضى الرب الرحيم، وسماع كلامه، ولذة قربه، والابتهاج برضاه، والخلود الدائم، وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين. كما قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}... [التوبة: 72].
فيا له من نعيم ما أتمه وما أكمله، ويا له من مُلك ما أوسعه؟
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)} [الإنسان: 20 - 22].
فهذه حال العباد يوم القيامة، وهذه مساكنهم، وهم بحسب أعمالهم إليها راجعون: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16].
إن التكاثر في الأموال والأولاد واتباع الشهوات شغل أهل الدنيا، وألهاهم عن الله والدار الآخرة، حتى حضرهم الموت وهم غافلون عما به فوزهم وفلاحهم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)} [التكاثر: 1 - 8].
========
أقسام الكلم الطيب
حول الموقع
اتصل بنا
موضوعات مفضلة
الرئيسية
بحوث ومقالات | المقالات
زاد المـــعـــــــــاد
فقه الدنيا والآخرة
فقه البعث والحشر - الجزء الثانى
يا حسرة من شغله التكاثر عن ربه إذا عاين تكاثره هباءً منثوراً.. وعلم أن دنياه التي كاثر بها إنما كانت خداعاً وغروراً.. ووجد عاقبة تكاثره عليه لا له.. وخسر هنالك تكاثره.. وبدا له من الله ما لم يكن في حسابه.
وصار تكاثره الذي شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه، فعذب بتكاثره في دنياه، ثم عذب به في البرزخ، ثم يعذب به في يوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران: 30].
فلم يفز مِنْ تكاثره إلا بأن صار من الأقلِّين، ولم يحظ به من علوه به في الدنيا إلا بأن صار مع الأسفلين.
فيا له من تكاثر ما أقله.. ومن غنى جالب لكل فقر.. وخير تُوُصِّل به إلى كل شر، يقول صاحبه إذا انكشف عنه غطاؤه.. يا ليتني قدمت لحياتي، وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتي: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}... [المؤمنون: 99 - 100].
فهذا المفرط سأل ربه الرجعة ليستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه، وسلطانه وقوته، وأملاكه وأسبابه، فيقال له كلا، لا سبيل لك إلى الرجعى؛ لأن الله يعلم أنه لو رجع فإن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحاً لو أجيب، وإنما ذلك شيء يقوله بلسانه لا بقلبه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)}... [الأنعام: 28].
وكل أحد من مسلم وكافر سوف يسأل عن نعيمه الذي كان فيه في الدنيا هل ناله من حلال أم حرام؟ فإذا تخلص من هذا السؤال سئل سؤالاً آخر: هل شكر الله تعالى عليه فاستعان به على طاعته أم على معصيته؟.
فالأول سؤال عن كسبه، والثاني سؤال عن محل مصرفه.
والنفوس الشريفة العلوية إنما تكاثر بما يدوم نفعه، وما تزكو به وتكمل، وتصير مفلحة، فلا تحب أن يكثرها غيرها في ذلك، وينافسها في هذه المكاثرة، ويسابقها إليها.
فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد، وضده تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم من المراكب والمساكن، والمطاعم والمشارب ونحوها، فهذا تكاثر مُلْهٍ عن الله والدار الآخرة، وهو صائر إلى غاية القلة.
فعاقبة هذا التكاثر قِلّ وفقر، وحرمان وأحزان.
إن أمر البعث هو دائماً مشكلة العقيدة عند كثير من الأقوام، منذ أن أرسل الله رسله للناس يأمرونهم بعبادة الله وحده، ويخوفونهم حساب الله يوم البعث والحساب.
فالمشركون من قريش أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)} [النحل: 38].
فهم يقرون بوجود الله، ولكنهم ينفون عنه بعثه الموتى من القبور، يرون هذا البعث أمراً عسيراً بعد الموت والبلى، وتفرق الأوصال والأشلاء.
وغفلوا عن الخلق الأول مَنْ خلقه؟: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)} [ق: 15].
وغفلوا عن قدرة الرب؟
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)} [يس: 81].
فما أجهل الإنسان بنفسه؟ وما أجهله بربه؟ {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: 77 - 79].
والله سبحانه هو القوي العزيز الذي لا يعجزه شيء، وجميع ما في الكون تحت قهره وأمره: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}... [يس: 82 - 83].
وحكمة الله في البعث:
أن هذه الدنيا لا يبلغ أمر فيها تمامه، فالناس يختلفون حول الحق والباطل.. والهدى والضلال... والخير والشر.
وقد لا يفصل بينهم فيما يختلفون فيه في هذه الأرض، ولا يحل بهم عذابه الفاصل في هذه الدار، حتى يتم الجزاء في الآخرة، ويبلغ كل أمر تمامه هناك، أهل الجنة في كمال النعيم.. وأهل النار في كمال العذاب، وللأمر حكمته: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)} [النحل: 39].
والأمر بعد ذلك هين كغيره على الله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40].
وقد جعل الله الدنيا دار تكميل الإيمان والأعمال، والآخرة دار تكميل الشهوات واللذات، ومن لم يأت بالإيمان، والأعمال الصالحة دخل النار المشتملة على كمال العذاب والآلام: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}... [النساء: 13 - 14].
والدور التي يمر بها العبد أربع:
الدار الأولى: بطن الأم، وحكمة بقائه هنا تكميل الأعضاء الداخلية والخارجية.
الثانية: دار الدنيا، وحكمة بقائه هنا تكميل الإيمان والأعمال الصالحة.
الثالثة: دار البرزخ، وحكمة بقائه هنا انتظار يوم القيامة، وهو بحسب حاله، المؤمن في نعيم، والكافر في عذاب.
الرابعة: دار القرار في الجنة أو النار، وهذه آخر منازله.
وقد جعل الله لكل دار أحكاماً تخصها، وركب هذا الإنسان من بدن وروح، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبعاً لها، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعاً لها، وجعل أحكام يوم القيامة من النعيم والعذاب على الأبدان والأرواح معاً.
والبعث: هو إحياء الموتى حين ينفخ في الصور النفخة الثانية، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً غير مختونين، ويبعث كل عبد على ما مات عليه، فيبعثون ويحشرون للحساب والجزاء كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)}... [يس: 51 - 53].
وأول من ينشق عنه القبر محمد - صلى الله عليه وسلم -.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأوَّلُ شَافِعٍ وَأوَّلُ مُشَفَّعٍ» أخرجه مسلم (1).
وجميع الخلائق تحشر إلى ربها يوم القيامة كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 93 - 95].
ويحشر الناس يوم القيامة على أرض بارزة بيضاء، ليس فيها عَلَم لأحد كما قال سبحانه: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ
مِنْهُمْ أَحَدًا (47)}... [الكهف: 47].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يُّحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أرْضٍ بَيْضَاءَ، عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ، لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لأحَدٍ» متفق عليه (1).
ويحشر الناس جميعاً يوم القيامة حفاة عراة غرلاً.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يُّحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ فقَالَ (: «يَا عَائِشَةُ! الأمْرُ أشَدُّ مِنْ أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» متفق عليه (2).
ويحشر المؤمنون إلى ربهم وإلى الجنة وفداً مكرمين في موكب كريم.
قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} [مريم: 85].
وقال الله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)} [الزمر: 73].
ويحشر الكفار والمشركون على وجوههم عمياً وبكماً وصماً إلى النار.
قال الله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا} [الإسراء: 97 - 98].
وقال الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)}... [الصافات: 22 - 23].
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يُّحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فقَالَ: «ألَيْسَ الَّذِي أمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، قَادِرًا عَلَى أنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» متفق عليه (3).
ويساقون إلى جهنم عطاشاً زرقا: قال الله تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)}... [مريم: 85 - 86].
وقال الله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)}... [طه: 102].
فالحشر الأول لجميع الخلق من القبور إلى الموقف، والحشر الثاني من الموقف إلى الجنة أو النار.
فعند الحشر الأول الكفار يسمعون ويبصرون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشر الكفار عمياً وبكماً وصماً.
فلكل موقف حال يليق به.
ويحشر الله يوم القيامة الدواب والبهائم والوحوش والطيور، ثم يحصل القصاص بين الدواب، فيقتص للشاة الجماء من القرناء نَطَحَتْها، فإذا اقتص لبعضها من بعض قيل لها كوني تراباً.
قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)} [الأنعام: 38].
ويجمع الله الخلائق بعد بعثهم في ساحة واحدة في عرصات القيامة، وذلك لفصل القضاء، حفاة عراة غرلاً، فتدنو الشمس في ذلك اليوم، ويذهب العرق سبعين ذراعاً، ويعرق الناس على قدر أعمالهم.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تُدْنَى الشَّمْسُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ».
قَالَ سُلَيْمُ بنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ! مَا أدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أمَسَافَةَ الأرْضِ، أمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ.
قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا».
قَالَ وَأشَارَ رَسُولُ اللهِ (بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. أخرجه مسلم (1).
وإذا حُشر الناس إلى ربهم يوم القيامة، وبلغ العناء منهم مبلغاً عظيماً لشدة الهول، وعظمة الكرب، وصعوبة الموقف، رغبوا إلى ربهم في أن يحكم بينهم، فإذا طال موقفهم، وعظم كربهم، ذهبوا إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند ربهم ليفصل بينهم، ثم يجيء الله جل جلاله لفصل القضاء بين عباده كما قال سبحانه: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)} [الفجر: 21 - 23].
وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ في القرآن المبدأ والمعاد.. والقيامتين الصغرى والكبرى.. والعالمين الأكبر وهو عالم الآخرة.. والأصغر وهو عالم الدنيا.. والدارين الجنة دار السعداء، والنار دار الأشقياء.. وفصَّل سبحانه في كتابه خلق الإنسان، وكيف يقضي حياته، وبيَّن أحواله عند وفاته، ويوم معاده.
والله سبحانه يعيد جسد الإنسان بعينه الذي أطاع وعصى، فينعمه ويعذبه بحسب عمله، كما ينعم الروح التي آمنت بعينها، ويعذب التي كفرت بعينها.
وهو سبحانه العليم بما تنقصه الأرض من لحوم البشر وعظامهم وأشعارهم، والقادر على جمعها وتحصيلها بعد تفرقها، وتأليفها خلقاً جديداً، ثم بعثها يوم القيامة.
بل مع كل نَفَس سائق يسوقها إلى المحشر، وشهيد يشهد عليها بما عملت كما قال سبحانه: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)} [ق: 20].
===========
فقه البعث والحشر - الجزء الثالث
براهين المعاد في القرآن تقرر ثلاثة أصول:
أحدها: تقرير كمال علم الرب كما قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)} [يس: 77 - 79].
الثاني: تقرير كمال قدرة الرب كما قال سبحانه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}... [يس: 81 - 82].
الثالث: كمال حكمة الرب كما قال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21].
ولكن الكفار لا يؤمنون بالرب.. ولا يؤمنون بالدين الحق.. ولا يؤمنون بالبعث.. ولذلك اختلط عليهم الأمر، فهم في أمر مريج آل بهم إلى الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة.
فما أجهلهم بربهم.. وما أسفه عقولهم.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 5 - 8].
وقد وكل الله تعالى إ بكل إنسان قريناً من الملائكة يكتب عمله، فإذا كان يوم القيامة قال الملك: يا رب هذا هو الشخص الذي وُكِّلت به، وهذا عمله الذي أحصيته عليه في الدنيا، كما قال سبحانه: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)}... [ق: 23 - 26].
يا حسرة على العباد كم ضيعوا من الأوقات في غير طاعة الله.. ويا خيبة الكفار في ذلك اليوم العصيب.
فسبحان الرب الملك العظيم، العزيز الجبار، الغني الحليم، الذي له الخلق والأمر، وله التصريف والتدبير في الكون كله، في السماء والأرض، وفي الدنيا والآخرة.
خلق الملائكة المقسِّمات أَمْر الله الذي أُمِرت به بين خلقه كما قال سبحانه: {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)}... [الذاريات: 4].
ومن أعظم المقسمات لأوامر الرب في خلقه:
جبريل: الذي يَقْسِم الوحي بأمر ربه إلى الرسل، ويقسم العذاب وأنواع العقوبات على من خالف الرسل.
وميكائيل: الذي يقسم القطر والبرد والثلج والنبات والأرزاق بأمر الله.
وإسرافيل: الذي يقسم الأرواح على أبدانها عند النفخ في الصور بأمر الله.
وملك الموت: الذي يقسم المنايا بين الخلق بأمر الله.
وكل حركة في السموات والأرض من حركات الأفلاك، والنجوم، والشمس، والقمر، والرياح، والسحاب، والنبات، والحيوان، فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسموات والأرض كما قال سبحانه عنهم: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)} [النازعات: 5].
وذلك كله يدل على كمال قدرة الرب.. وكمال علمه.. وكمال حكمته.. وكمال عنايته بخلقه.. وكمال رحمته لهم.
وإبداء الخلق وإعادته دليل ظاهر مكرور يدل على المبدأ والمعاد، الذي نزلت به كتبه سبحانه، وأخبرت به جميع رسله.
وذلك مشهود في الدنيا عياناً:
في إبداء الليل والنهار وإعادتهما.. وفي إبداء الزمان وإعادته الذي هو حاصل بسير الشمس والقمر.. وفي إبداء النور وإعادته في القمر.. وإبداء النبات والحيوان وإعادتهما.. وإبداء فصول السنة وإعادتها.. وإبداء ما يحدث في تلك الفصول وإعادته.
أو ليس القادر على ذلك كله بقادر على أن يحيي الموتى يوم القيامة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} [الأحقاف: 33].
=========
فقه الحساب
قال الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}... [البقرة: 284].
وقال الله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26].
إن الله تبارك وتعالى يحاسب الخلائق في الآخرة، ويجازيهم على ما عملوا من خير أو شر في الدنيا: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)}... [الأنعام: 160].
والشياطين يهيِّجون الكفار إلى المعاصي، فهم مسلَّطون عليهم بسبب كفرهم، وهم ممهلون إلى أجل قريب، وكل شيء من أعمالهم محسوب عليهم ومعدود كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)} [مريم: 83 - 84].
فيا ويل من يعدّ الله عليه ذنوبه، وأعماله، وأنفاسه، ويتتبعها، ليحاسَبَ الحساب العسير عليها.
إن الذي يحس أن رئيسه في الأرض يتتبع أعماله وأخطاءه يفزع ويخاف، ويعيش في قلق وحسبان، فكيف بالله المنتقم الجبار؟.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [التوبة: 105].
وكل إنسان محاسب على عمله وحده، وكل نفس لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، وكلٌّ سوف يحمل حِمْلَه وحده، لا يعينه عليه أحد، ومن يتطهر فإنما يتطهر لنفسه، وهو الكاسب وحده دون سواه، والأمر كله صائر إلى الله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)} [فاطر: 18].
إن شعور كل فرد بأنه مجزي بعمله، لا يؤاخَذ بكسب غيره، ولا يتخلص هو من كسبه، عامل قوي في يقظته لمحاسبة نفسه قبل أن تحاسَب، مع التخلي عن كل أمل خادع في أن ينفعه أحد بشيء، أو أن يحمل أحد عنه شيئاً.
كما أنه عامل مطمئن، فلا يقلق الفرد خيفة أن يؤخذ بجريرة غيره، ما دام قد أدى واجبه في النصح للجماعة.
كذلك لن ينفعه صلاح الجماعة إذا كان هو بذاته غير صالح، وكل يحمل أثقاله ويمضي في طريقه حتى يقف أمام الميزان: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)}... [الأنبياء: 47].
وإلى الله المصير، فهو المحاسب والمجازي، فلا يذهب عمل صالح، ولا يفلت عمل سيئ، ولا يوكل الحكم إلى غير الله ممن يميلون أو ينسون أو يهملون.
إن كل شيء يقع في هذا الوجود إنما يقع وفق مشيئة الله، وهذا حق.
ولكن من مشيئة الله أن جعل للإنسان قدرة على اختيار الهدى أو اختيار الضلال، وكلفه اختيار الهدى، وأمره به، ورضيه له كما قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}... [الحجرات: 7 - 8].
فالله عزَّ وجلَّ خلق الإنسان قابلاً لهذا وهذا، فكل إنسان قابل للهدى والضلال، والخير والشر، ولا يتجه إلى هذا أو هذا إلا بمشيئة الله كما قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 27 - 29].
وحساب العباد كلهم سيقع على ما اختاروا في الدنيا من الحق أو الباطل كلهم: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} [الغاشية: 25 - 26].
وقال سبحانه في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (1).
والله جل جلاله القوي القادر، القهار الجبار، الكبير المتعال، يَفْرَغ يوم القيامة لحساب هذين الخلقين الضعيفين: الجن والإنس، وفي وعيد وانتقام كما قال سبحانه: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)}... [الرحمن: 31].
يا لَلْهول المرعب المزلزل، الذي لا يثبت له إنس ولا جان، ولا تقف له الجبال الرواسي.
والله سبحانه ليس مشغولاً فيفرغ، ولا يشغله شأن عن شأن في خلقه وتدبيره.
فهذا الوجود كله أنشأه الله بكلمة واحدة (كن) فيكون على ما أراد.
وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر كما قال سبحانه: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 50].
فكيف تكون حال الثقلين، والله يفرغ لهما وحدهما، ليتولاهما بالحساب والانتقام من كل مجرم، والإكرام لكل مؤمن.
{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 48 - 49].
ولا يستطيع أحد أن يفر من الله، فكل الكون ملكه، وكل أحد في قبضته، وكل عبد ناصيته بيده، وكل أحد سيقف للحساب، وينال جزاء عمله.
وأنى للإنس والجن أن يَنْفُذُوا، أو يهربوا من ملك الله: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)}... [الرحمن: 33].
وفي يوم القيامة مواقف شتى:
منها ما يُسأل فيه العباد.. ومنها ما لا يُسألون فيه عن شيء.. ومنها ما تجادل فيه كل نفس عن نفسها.. وما يلقى به التبعة على شركائها.. ومنها ما لا يسمح فيه بكلمة ولا جدال ولا خصام.
فهو يوم طويل مديد.. وكل موقف من مواقفه هائل مشهود.
وهنا موقف لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} [الرحمن: 37 - 39].
وذلك حين تُعرف صفة كل فرد وعمله، فيؤخذ كلٌّ إلى داره: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)} [الرحمن: 41].
أما أهل الجنة فيساقون وفداً مكرمين إليها كما قال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)} [الزمر: 73 - 74].
ويوم القيامة، وبعد الحساب يكون الناس ثلاثة أقسام:
أصحاب الميمنة... وأصحاب المشأمة.. والسابقون المقربون.
قال الله تعالى في أقسام الناس يوم القيامة: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)} [الواقعة: 7 - 11].
أما بيان قدرهم عند الله.. وتفصيل ما أعد الله لهم.. وتعديد أنواعه.. فهو يختلف بحسب عملهم.
فأعلاهم: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 10 - 26].
فهؤلاء عدد محدود، وفريق منتقى، كثرتهم في الأولين، وقلَّتهم في الآخِرِين، وهم في ذلك النعيم الكامل، جزاء ومكافأة على حسن عملهم في الدنيا.
أما أصحاب اليمين فهم فريق آخر في الجنة دون السابقين الأولين، وهم ثلة من الأولين، وثلة من الآخِرِين كما قال سبحانه: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} [الواقعة: 27 - 40].
وأما الفريق الثالث فهم أصحاب الشمال، أصحاب النار كما قال سبحانه: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)} [الواقعة: 41 - 56].
والله عزَّ وجلَّ يدعو عباده المؤمنين إلى التقوى، والنظر فيما أعدوه في الدنيا للآخرة قبل القدوم عليها بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)} [الحشر: 18].
فالتقوى تجعل القلب يقظاً، حساساً، شاعراً بالله في كل حالة، وتجعله خائفاً متحرجاً مستحيياً أن يطَّلع عليه الله في حالة يكرهها.
والتقوى تُذكِّر العبد بربه، وتفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته.
فيمد ببصره في سطورها كلها يتأملها، وينظر رصيد حسابه.
ونظر العبد ماذا قدم لغده كفيل بأن يوقظه إلى مواضع الضعف، ومواضع النقص، ومواضع التقصير في حياته، مهما يكن أسلف من خير، وبذل من جهد، فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً، ونصيبه من البر ضئيلاً.
إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبداً، ولا يكف عن النظر والتقليب.
وكما يدعو الله عباده إلى اليقظة والتذكر، ومحاسبة أنفسهم، كذلك يحذرهم من نسيانه بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)}... [الحشر: 19].
إن الذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته، والقصد من خلقه.
وهذا النسيان لربه مرض في القلب ينشأ عنه نسيانه لنفسه، فلا يدخر لها زاداً للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد.
فأي خسارة تحل بالإنسان إذا تمرغ في الدنيا بما يسخط الله، وغفل عن الآخرة، ورحل إليها بزاد إلى النار؟.
وتُعرض الخلائق كلها على الله يوم القيامة كما قال سبحانه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}... [الحاقة: 18]. ء الثانى :: التـــالى->
=============
الكل مكشوف من الخلق:
فكل إنسان مكشوف الجسد.. مكشوف النفس.. مكشوف القلب.. مكشوف العمل.. مكشوف المصير.. وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار.
وتتعرَّى النفوس تعرِّي الأجساد.. وتبرز الغيوب بروز الشهود.. ويتجرد الإنسان من حيطته، ومن مكره، ومن تدبيره، ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصاً على أن يستره حتى عن نفسه.
وما أقسى الفضيحة على الملأ.. وما أخزاها على عيون الجموع.
أما عين الله فكل خافية مكشوفة لها في كل آن، ويوم القيامة كل شيء بارز في الكون كله، والأرض مدكوكة مسوَّاة لا تَحجب شيئاً، والسماء منشقة واهية لا تحجب شيئاً، والأجساد معراة لا يسترها شيء، والنفوس كذلك ليس من دونها ستر، وليس فيها سر.
ألا إنه لأمر عصيب.. أعصب من دك الأرض والجبال، وأشد من تشقق السماء، وقوف الإنسان عريان الجسد، عريان النفس، عريان المشاعر، عريان الحياة، عريان العمل، ما ظهر منه وما استتر.
إنه يقف أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله من الإنس والجن والملائكة، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)} [الحاقة: 13 - 18].
ألا ما أشد هذه الحال التي سيقف فيها كل إنسان وهو عريان الجسد والقلب، والنية والشعور، عريان من كل ساتر.
كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار؟.. وأمام الحشد الزاخر بلا ستار؟.
ألا إنه لأمر أَمَرّ من كل أَمْر ومن كل مر..
وبعدئذ يعرض مشهد الناجين والمعذبين كأنه حاضر تراه العيون: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)} [الحاقة: 19 - 24].
فهذا مشهد الناجي في ذلك اليوم العصيب، وهو ينطلق في فرحة غامرة بين الجموع الحاشدة، تملأ الفرحة جوانحه، وتغلبه على لسانه فيهتف: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)} [الحاقة: 19].
أما مشهد المعذبين الهالكين فقد ذكره الله بقوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة: 25 - 37].
فهذا مشهد الخاسر الذي عرف أنه مؤاخذ بسيئاته، وأن العذاب مصيره، فيقف في هذا المعرض الحاشد الحافل وقفة المتحسر الكسير الكئيب.
ثم يصدر الأمر من العلي الأعلى، فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل، ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب، كلهم يبتدر هذه النطفة الصغيرة المكروبة المذهولة.
إنه قد خلا قلب هذا الإنسان من الإيمان بالله، والرحمة بالعباد، فلم يعد هذا القلب يصلح إلا لهذه النار، وذلك العذاب، فهو مَسْخٌ من الكائنات لا يساوي الحيوان، بل لا يساوي الجماد.
فكل شيء مؤمن يسبح بحمد ربه موصول بمصدر وجوده، أما هو فمقطوع من الله، مقطوع من الوجود المؤمن بالله.
ثم يعلن الله عن تكملة جزاء ذلك الشقي عن جرمه: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)} [الحاقة: 35 - 37].
وكل نفس عليها من أمر الله رقيب كما قال سبحانه: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} [الطارق: 4].
وما من نفس إلا عليها حافظ يراقبها، ويحصي عليها، ويحفظ عنها، وهو موكل بها بأمر الله، فالنفس مستودع الأسرار والأفكار، وهي التي يناط بها العمل والجزاء.
إن الناس ليسوا متروكين يفعلون كيف شاؤوا بلا رقيب، إنما هو الإحصاء الدقيق المباشر، والحساب المبني على هذا الإحصاء الدقيق المباشر: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق: 18].
فالنفس ليست في خلوة أبداً وإن خلت، فهناك الحافظ الرقيب عليها، حين تنفرد من كل رقيب، وتتخفى عن كل عين، وتأمن من كل طارق.
هناك الحافظ الذي يكشف كل غطاء، وينظر إلى كل مستور.
والحساب يكون على ما يرتكبه الإنسان من المعاصي، سواء كانت بأمر النفس، أو بإغواء الشيطان، ولا يكون الحساب على أمور جبرية لا يملك الإنسان فيها حق الاختيار، فالقهر يُسقط الحساب عن البشر، وإبليس لا يستطيع أن يقهر أحداً على المعصية، ولكنه يغريه ويزين له، فإذا استجاب سقط، وإذا استعان بالله نجا وسلم.
والشيطان لا يستطيع أن يقودك إلى الشر رغماً عنك، ولكن باختيارك يوقعك في إغرائه، واستجابتك له.
فالحساب يتم على أمر اختياري تستطيع أن تفعله أو لا تفعله بإرادة منك، وهنا يكون الحساب عدلاً؛ لأنك أنت الذي اخترت.
وكيد الشيطان ضعيف، لماذا؟.
لأن الله معك يمنعك منه إن استعنت به، ولأن أمر الشيطان عَرْض وإغراء، لا قهر ولا إجبار، ولو كانت نفسك قوية لاستطعت أن تتغلب عليه.
وإبليس لا يستطيع أن يرغم أحداً على عمل، ولا يملك الحجة الصحيحة للإقناع بالإثم.
ولكن المسألة أنه يملك النفس الضعيفة، ويستطيع أن يغريك أو يوهمك بشيء كاذب، حتى إذا ارتكبته وجدت النتيجة غير ما قال.
والتهافت على الدنيا يدفعنا إلى أن لا نتنبه لكيد الشيطان، فيغفل الإنسان، فيدخل الشيطان ويغري الإنسان بالمعصية كما قال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}... [فاطر: 6].
وجميع ما في السموات والأرض ملك لله عزَّ وجلَّ، وعبيد له، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
هو الذي خلقهم ورزقهم ودبر أمورهم، ووفقهم لمصالحهم الدينية والدنيوية.
وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه، وقد أمرهم بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرهم، وسيحاسبهم على ما أسروه وما أعلنوه.
فيغفر لمن يشاء ممن أتى بأسباب المغفرة، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره كما قال سبحانه: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)} [البقرة: 284].
والله تبارك وتعالى حُكْمه العدل، وقضاؤه القسط، يضع لعباده يوم القيامة الموازين العادلة، التي يبين فيها مثاقيل الذر، وتوزن بها الحسنات والسيئات، فلا تُظلم نفس مسلمة أو كافرة شيئاً، فلا يزاد في سيئاتها، ولا يُنقص من حسناتها كما قال سبحانه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 47].
والله عزَّ وجلَّ سريع الحساب يعلم جميع أعمال العباد، حافظ لها، مثبت لها في الكتاب، عالم بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها، عالم بمستحقها، موصل للعمال جزاءها مهما كانت: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} [الكهف: 49].
فلا يخشى المجرمون أن الله يعذبهم بذنوب لم يعملوها، ولا يحسبون أنه يُضيع من أعمالهم شيء، أو ينسى منها مثقال ذرة، بل كل ذرة من خير أو شر معدودة مكتوبة معروضة على من عملها كما قال سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}... [الزلزلة: 7 - 8].
ويجمع الله عزَّ وجلَّ جميع الخلائق للحساب في ساحة واحدة في عرصات القيامة حفاة عراة غرلاً، فتدنو الشمس منهم في ذلك اليوم كمقدار ميل كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «تُدْنَى الشَّمْسُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ».
قَالَ سُلَيْمُ بنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ! مَا أدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أمَسَافَةَ الأرْضِ، أمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ.
قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا».
قَالَ وَأشَارَ رَسُولُ اللهِ (بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. أخرجه مسلم (1).
ويجيء الله عزَّ وجلّ َيوم القيامة لفصل القضاء، فتشرق الأرض بنور ربها، وتخشع الخلائق لهيبة الله وعظمته وجلاله كما قال سبحانه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)}... [الفجر: 22].
وقال سبحانه: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)} [طه: 108]. وإذا حشر الناس إلى ربهم يوم القيامة، واشتد كربهم لطول العناء والانتظار، وشدة الأهوال، رغبوا إلى ربهم أن يحكم فيهم، فإذا طال موقفهم وعظم كربهم ذهبوا إلى الأنبياء ليشفعوا لهم عند الله ليفصل بينهم.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ» متفق عليه (2).
ثم يفصل الله بين الناس، ويحاسبون على أعمالهم، فتعطى الكتب، وتوضع الموازين، ويحاسب كل فرد، فآخذ كتابه بيمينه إلى الجنة، وآخذ كتابه بشماله إلى النار: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} [الزمر: 75].
========
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟.
قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْواً». قُلْنَا: لا.
قَالَ: «فَإِنَّكُمْ لا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا».
ثُمَّ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ: لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، فَيَذْهَبُ أصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ، وَأصْحَابُ الأوْثَانِ مَعَ أوْثَانِهِمْ، وَأصْحَابُ كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ، حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله، مِنْ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ، وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ.
ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأنَّهَا سَرَابٌ، فَيُقَالُ لِلْيَهُودِ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لله صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي جَهَنَّمَ.
ثُمَّ يُقَالُ لِلنَّصَارَى: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ الله، فَيُقَالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لله صَاحِبَةٌ وَلا وَلَدٌ، فَمَا تُرِيدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنَا، فَيُقَالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَسَاقَطُونَ.
حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله، مِنْ بَرٍّ أوْ فَاجِرٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ وَنَحْنُ أحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ، وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي: لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا.
قَالَ: فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأوْهُ فِيهَا أوَّلَ مَرَّةٍ. فَيَقُولُ: أنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أنْتَ رَبُّنَا، فَلا يُكَلِّمُهُ إِلا الأنْبِيَاءُ.
فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ؟ فَيَقُولُونَ: السَّاقُ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لله رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقاً وَاحِداً.
ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ». قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الْجَسْرُ؟.
قَالَ: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ، وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عَقِيفة، تَكُونُ بِنَجْدٍ، يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ، وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْباً، فَمَا أنْتُمْ بِأشَدَّ لِي مُنَاشَدَةً فِي الْحَقِّ، قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مَنْ الْمُؤْمِنِ يَوْمَئِذٍ لِلْجَبَّارِ.
وَإِذَا رَأوْا أنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا، فِي إِخْوَانِهِمْ يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ الله تَعَالَى: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأخْرِجُوهُ، وَيُّحَرِّمُ الله صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ.
فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا.
ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا.
ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا».
قَالَ أبُو سَعِيدٍ: فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي فَاقْرَؤُوا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40].
«فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أقْوَاماً قَدِ امْتُحِشُوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ: مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، قَدْ رَأيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ، وَإِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أخْضَرَ، وَمَا كَانَ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ كَانَ أبْيَضَ.
فَيَخْرُجُونَ كَأنَّهُمُ اللُّؤْلُؤُ، فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ أهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ، أدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأيْتُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» متفق عليه
فما أشد تلك الأهوال، وما أعظم ذلك الموقف بين يدي الله: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)} [الانشقاق: 6 - 12].
والحساب يوم القيامة عام لجميع الخلق إلا من استثناهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم سبعون ألفاً من هذه الأمة يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب كما قال النبي (: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ». قَالُوا: مَنْ هُمْ؟ يَا رَسُولَ اللهِ! قال: «هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، وَلا يَتَطَيَّرُونَ وَلا يَكْتَوُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» أخرجه مسلم
والمحاسبون يوم القيامة صنفان:
أحدهما: من يحاسب حساباً يسيراً وهو العرض.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ أحَدٌ يُّحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا هَلَكَ». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، ألَيْسَ قَدْ قَالَ الله تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [ٍٍالانشقاق: 7 - 8]. فَقَالَ رَسُولُ الله (: «إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا عُذِّبَ» متفق عليه
الثاني: من يحاسب حساباً عسيراً، ويُسأل عن كل صغيرة وكبيرة، فإن صدق فبها ونعمت، وإن حاول الكذب أو الكتمان فإنه يختم على فمه، وتستنطق جوارحه كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: 65].
والكفار يحاسبون وتعرض عليهم أعمالهم يوم القيامة توبيخاً لهم، وهم متفاوتون في العذاب، فعقاب من كثرت سيئاته، أعظم من عقاب من قلت سيئاته، ومن له حسنات منهم يخفف عنه العذاب لكنه لا يدخل الجنة.
وأول من يحاسب من الأمم يوم القيامة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأول ما يحاسب عليه المسلم يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله.
وجميع الكفار والمنافقين لا تقبل قُرَبُهم وطاعاتهم، لفقدها شرطها وهو الإيمان كما قال سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)}... [إبراهيم: 18].
وكل إنسان سوف يسأل ويحاسب على الأمانة التي تحملها، وقد حذرنا الله عزَّ وجلَّ من خيانة الأمانة كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)} [الأنفال: 27].
فمن أدى الأمانة استحق من الله الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها استحق من الله العقاب الوبيل، وصار خائناً لله وللرسول ولأمانته.
والأمانة هي الشيء الذي يجب أن يُّحفظ، ثم يؤدى إلى صاحبه.
والأمانة ثلاثة أقسام:
الأول: أمانة العبد مع ربه، وهي ما عُهِد إليه حفظه، والقيام به من الإيمان بالله، والاستقامة على دينه، وتعليم دينه، والدعوة إليه، وامتثال جميع أوامره، واستعمال قلبه وجوارحه فيما ينفعه ويقربه من ربه، وهذه أعظم الأمانات التي يجب أداؤها.
والطاعات كلها من الأمانة، فمن أداها فقد أدى الأمانة، والمعاصي كلها من الخيانة، فمن فعلها فقد خان الأمانة، وخان الله عزَّ وجلَّ.
الثاني: أمانة العبد مع الناس، كرد الودائع إلى أهلها، وإيفاء المكيال والميزان، ونصح الخلق، وعدم غشهم، وحفظ السر، ونحو ذلك مما يجب أداؤه للناس والحكام.
ومنه عدل الأمراء مع الرعية.. وعدل العلماء مع العوام بتعليمهم الأحكام التي تُقوِّي إيمانهم، وتصلح بها عباداتهم، وإرشادهم إلى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وترغيبهم في الخير، وتحذيرهم من الشر.
الثالث: أمانة الإنسان مع نفسه، بأن لا يختار إلا ما هو الأصلح له والأنفع له في الدين والدنيا.
فلا يُقْدِم على عمل يضره في دنياه وآخرته، كأن يتوقى أسباب الأمراض والأوبئة، ويغتنم عمره في اكتساب مرضاة الله بالقيام بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى ربه.
فيغتنم شبابه قبل هرمه.. وصحته قبل سقمه.. وغناه قبل فقره.. وفراغه قبل شغله.. وحياته قبل موته.
=======
فقه درجات الآخرة
قال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} [الأنعام: 132].
وقال الله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)} [الإسراء: 21].
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)} [طه: 75].
لا يدخل أحد الجنة بعمله، ولكن برحمة الله كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ يُدْخِلَ أحَداً عَمَلُهُ الْجَنَّةَ». قَالُوا: وَلا أنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: «لا، وَلا أنَا، إِلا أنْ يَتَغَمَّدَنِي الله بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَلا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ الْمَوْتَ: إِمَّا مُحْسِناً فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدَادَ خَيْراً، وَإِمَّا مُسِيئاً فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ» متفق عليه
وتوزع الدرجات في الآخرة على حسب الحسنات، والسيئات التي يعملها الإنسان في الدنيا.
وتتفاوت درجات الناس في الآخرة كما يتفاوتون في الدنيا.
والناس في الآخرة على أربع درجات:
الفائزون.. والناجون.. والمعذبون.. والهالكون.
ومثال ذلك كأن يستولي ملك من الملوك على إقليم من الأقاليم ليقيم فيه العدل بين أهله.
فهذا الملك العادل له مع أهل هذا الإقليم أربعة أحوال:
فهو لا يقتل منهم إلا الجاحد المعاند في أصل الولاية.
ولا يعذب إلا من قصر في خدمته مع الاعتراف له بالملك.
ولا يخلِّي إلا معترفاً له بالملك ولم يقصر.
ولا يخلع إلا على من أبلى عمره في الخدمة والنصرة.
وكل واحد من هؤلاء الأقسام متفاوت في النعيم والعذاب، وعبور الصراط حسب أعمالهم وأحوالهم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ! سَلِّمْ، سَلِّمْ».
قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الْجِسْرُ؟ قال: «دَحْضٌ مَزِلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلالِيبُ وَحَسَكٌ، تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ، كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» متفق عليه
وأما اختلاف العذاب بالشدة فلا نهاية لأعلاه، وأدناه التعذيب بالمناقشة في الحساب، كما أن الملك قد يعذب بعض المقصرين في الأعمال بالمناقشة في الحساب ثم يعفو، وقد يضرب بالسياط، أو يعذب بغيرها من أنواع العذاب.
وأهل السعادة متفاوتون في النعيم كذلك على حسب أعمالهم في الدنيا.
فالمؤمن إذا أدى الفرائض واجتنب الكبائر، ولم يكن منه إلا صغائر متفرقة لا يصر عليها فيشبه أن يعفى عنه كما قال سبحانه: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31].
وهذا إما أن يُلحق بالمقربين، أو بأصحاب اليمين، وذلك بحسب إيمانه ويقينه، فإن قل أو ضعف دنت منزلته، وإن زاد أو قوي علت منزلته.
والمقربون يتفاوتون بحسب تفاوت معرفتهم بالله تعالى.
ودرجات العارفين في معرفة الله، ومعرفة عظمته، ومعرفة آلائه، ومعرفة دينه لا تنحصر، بل هي متفاوتة؛ لأن بحر المعرفة لا ساحل له، وإنما يغوص فيه الغواصون بقدر قواهم:
فأعلى درجات أصحاب اليمين أدنى درجات المقربين.
فهذا حال من أدى الفرائض واجتنب الكبائر.
أما من ارتكب كبيرة أو كبائر:
فإن تاب توبة نصوحاً قبل موته التحق بمن لم يرتكب تلك الكبيرة؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
وإن مات قبل التوبة فأمره خطير، فربما يكون إصراره على الذنب سبباً لسوء خاتمته، وعذاب الميت من غير توبة يكون بحسب قبح الكبائر، ومدة الإصرار، وتنوع الكبائر.
ثم ينزل البُلْهُ المقلدون الجنة، وينزل العارفون المستبصرون أعلى عليين.
والله قد يعفو عن العاصي وإن كثرت سيئاته الظاهرة، وقد يغضب على المطيع وإن كثرت طاعاته الظاهرة، فإن الاعتماد على التقوى، والتقوى في القلب، وأحوال القلب قد تخفى على صاحبه فكيف على غيره.
وفي الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، وَأقَامَ الصَّلاةَ، وَصَامَ رَمَضَانَ، كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، أوْ جَلَسَ فِي أرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا». فَقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أفَلا نُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أعَدَّهَا اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْض، فَإِذَا سَألْتُمُ اللهَ فَاسْألُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأعْلَى الْجَنَّةِ -أَرَاهُ-فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أنْهَارُ الْجَنَّةِ» أخرجه البخاري
والله عزَّ وجلَّ بمنه وكرمه يرفع المؤمنين من ذرية العبد إلى درجته وإن كانوا دونه في العمل كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)} [الطور: 21].
وأما الناجون: ونعني بالنجاة السلامة، وهم قوم لم يَخْدِموا فَيُخلع عليهم، ولم يُقصروا فيعذبوا.
ويشبه أن يكون هذا حال المجانين، وأولاد الكفار، والذين لم تبلغهم الدعوة ونحوهم.
فلم يكن لهم معرفة ولا جحود، ولا طاعة ولا معصية، ويصلح أن يكونوا أهل الأعراف.
وأما الفائزون فهم العارفون، وهم المقربون السابقون، وهؤلاء الذين لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين كما قال سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} [الواقعة: 10 - 12].
فسبحان الله ماذا ينتظر هؤلاء من المساكن الواسعة، والقصور الفاخرة، وألوان الطعام والشراب، والنعيم المقيم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].
وهم متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم حسب معرفتهم بالله، وحسب أعمالهم الصالحة.
ويتفاوت الناس يوم القيامة في الدرجات والأحوال، والثواب والعقاب، بحسب الأعمال، وبحسب الإيمان والكفر، وبحسب الطاعات والمعاصي، ومن ذلك أن خِفَّة حِمْل العبد على ظهره وثقله إذا قام من قبره، فإنه بحسب خفة وزره وثقله، إن خف خف، وإن ثقل ثقل.
واستظلال العبد بظل العرش يوم القيامة، وبروزه للحر والشمس بحسب أعماله:
فمن استظل في هذه الدار بالإيمان والأعمال الصالحة، استظل يوم القيامة في ظل الرحمن.
ومن كان ضاحياً هنا للشرك والمعاصي ضَحَى هناك وبرز للحر الشديد.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقال: إِنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ، فَأخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» متفق عليه
=================
من طال وقوفه في الصلاة ليلاً ونهاراً، وقام للدين، وتحمل لأجله المشاق، خف عليه الوقوف في ذلك اليوم وسهل عليه.
ومن آثر الراحة والدعة والبطالة طال عليه الوقوف هناك، واشتد عليه.
وثِقَلُ ميزان العبد يوم القيامة بحسب إيمانه وأعماله الصالحة، واتباعه للحق، والصبر عليه، ومجاهدته من أجله.
والمشي على الصراط يوم القيامة يكون في السرعة والبطء حسب سرعة السير على الصراط المستقيم في الدنيا.
فأسرع الناس سيراً هنا أسرعهم سيراً هناك، وأثبتهم هنا أثبتهم هناك كما قال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم: 27].
والخلق في الآخرة متفاوتون بحسب أعمالهم.. فأهل الجنة والثواب وإن اشتركوا في الربح والفلاح ودخول الجنة فإن بينهم من الفرق ما لا يعلمه إلا الله، مع أنهم كلهم قد رضوا بما آتاهم مولاهم، وقنعوا بما حباهم.
وأهل النار والعقاب متفاوتون بحسب أعمالهم، فلا يجعل قليل الشر منهم ككثيره، ولا التابع كالمتبوع، ولا المرؤوس كالرئيس.
فالله يجازي كلاً بحسب عمله، وبما يعلمه من مقصده: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} [الأنعام: 132].
والناس في الآخرة متفاوتون في النعيم والعذاب كما تفاوتوا في الدنيا بالعمل.
فالأرواح الطيبة السفلية في الأرض تكون في الجنة مجاورة للأرواح الطيبة العلوية، وفوق ذلك مجاورة ملك الملوك في داره، وتمتعهم برؤية وجهه، وسماع كلامه، ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم.
أما الأرواح الخبيثة السفلية فلا يمكن أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية في مقام الصدق بين الملأ الأعلى.
فلا يليق بذلك الرفيق الأعلى، والمحل الأسمى، والدرجات العلى، روح سفلية أرضية قد أخلدت إلى الأرض، وعكفت على ما تقتضيه طبائعها مما تشارك فيه الحيوان البهيم.
بل قد تزيد على الحيوان البهيم، فلا فرق بينهما وبين البهائم والحمير والكلاب والبقر إلا بانتصاب القامة، ونطق اللسان، والأكل باليد، وإلا فالقلب والطبع على شاكلة قلوب هذه الحيوانات وطباعها.
بل طباع هذه الحيوانات خير من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير.
ولهذا جعلهم الله شر الدواب كما قال سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)} [الأنفال: 22].
فلا يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق، وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة، يكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35)}... [القلم: 35].
وقال سبحانه: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)}... [السجدة: 18 - 20].
فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء والأعمال إلا بأعلاها وأفضلها، وأحمدها عاقبة.
والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار.
فالنفس الشريفة العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة، ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك وأجلّ.
والنفس الخبيثة بضد ذلك، فكل نفس تميل إلى ما يناسبها ويشاكلها من الأرواح والأعمال.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الأرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» متفق عليه
والناس يوم القيامة صنفان:
سعداء.. وأشقياء.
والسعداء قسمان:
السابقون المقربون.. وأصحاب اليمين.
فهذه درجاتهم في الآخرة كما قال سبحانه: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} [الواقعة: 7 - 12].
فالسابقون في الدنيا إلى الإيمان، هم السابقون إلى الجنان، والسابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون يوم القيامة إلى الجنات فالناس في الآخرة ثلاثة أقسام كما هم عند الموت كذلك ثلاثة أقسام كما قال سبحانه عن الإنسان بعد خروج روحه: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)} [الواقعة: 88 - 96].
فهذه مراتب الناس عند القيامة الصغرى حال القدوم على الله:
مقرب له الروح والريحان، وجنة النعيم.
ومقتصد من أصحاب اليمين له السلامة، فهو سالم غانم.
وظالم بتكذيبه وضلاله فله نزل من حميم، وتصلية جحيم.
ودرجة النبوة.. والصديقية.. والربانية.. ووراثة النبوة.. وخلافة الرسالة.. تلك هي أفضل درجات الأمة في الدنيا والآخرة.
ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل من عَلِمَ بتعليمهم وإرشادهم أو عَلَّم غيره شيئاً من ذلك كان لهم مثل أجره ما دام ذلك جارياً في الأمة على آباد الدهور والأزمان.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}... [النساء: 69 - 70].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» أخرجه مسلم
فكم ينزل بعمل هؤلاء من البركات والهدايات؟.
وكم يُكتب لهم من الأجور والحسنات؟.
تلك والله المكارم والمغانم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 4].
ودخول كفار الإنس والجن النار بعدل الله، ودخول مؤمني الإنس والجن بفضل الله ورحمته، فرحمته سبحانه سبقت غضبه.
والفضل أغلب من العدل، ولهذا لا يدخل النار إلا من عمل أعمال أهل النار،وأما الجنة فيدخلها من آمن وعمل صالحاً، ويدخلها من لم يعمل خيراً قط، بل ينشئ الله لها أقواما يسكنهم إياها من غير عمل عملوه، ويرفع بها درجات العبد من غير سعي منه، بل بما يصل إليه من دعاء المؤمنين، وصلاتهم، وصدقتهم، وأعمال البر التي يهدونها إليه، بخلاف أهل النار، فإن الله لا يعذب فيها أحداً بغير عمل أصلاً.
فمسيء الجن والإنس في النار بعدل الله، وبما كانوا يكسبون.
ومحسنهم في الجنة بفضل الله، وبما كانوا يعملون.
والجميع متفاوتون في الدرجات والكرامات والعقوبات بحسب أعمالهم: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)} [الأنعام: 132].
==========
طبقات الخلق في الآخرة
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: 14 - 16].
وقال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 106 - 107].
الدنيا دار الإيمان والعمل والآخرة دار الثواب والعقاب، والدنيا داء الفناء.. والآخرة دار البقاء.
والإنس والجن يوم القيامة طبقات.. ومنازلهم في الجنة درجات.. وفي النار دركات.
وطبقات المكلفين يوم القيامة ثمان عشرة طبقة:
الطبقة الأولى: طبقة أولي العزم من الرسل.
وهذه الطبقة هي العليا على الإطلاق، فأكرم الخلق على الله، وأخصهم بالزلفى لديه رسله، وهم المصطفون من عباده الذين سَلَّم عليهم في العالمين كما قال سبحانه: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)}... [الصافات: 181].
فالله عزَّ وجلَّ اختص رسله بوحيه، وجعلهم أمناء على رسالته، وواسطة بينه وبين عباده، وخصهم بأنواع كراماته:
فمنهم من اتخذه خليلاً كما قال سبحانه: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)} [النساء: 125].
ومنهم من كلمه تكليماً كما قال سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)} [النساء: 164].
ومنهم من رفعه مكاناً علياً كما قال سبحانه عن: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57].
ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253].
فهؤلاء الرسل أقرب الخلق إليه وسيلة، وأرفعهم عنده درجة، وأحبهم إليه، وأكرمهم عليه، وخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد بفضل الله على أيديهم.
ولم يجعل الله لعباده وصولاً إليه إلا من طريقهم، ولا دخولاً إلى جنته إلا خلفهم، ولم يكرم أحداً من خلقه بكرامة إلا على أيديهم.
وبالرسل عُرف الله، وبهم عُبد وأُطيع، وبهم حصلت محابه تعالى في الأرض من الإيمان والتقوى، والعبادات والطاعات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله.
والأنبياء والرسل درجات، وأعلاهم منزلة أولو العزم من الرسل، وهم المذكورون في قوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)}... [الشورى: 13].
وأفضل أولي العزم سيد الأولين والآخرين محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق، وعليهم تدور الشفاعة، حتى يردوها إلى أفضلهم وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -.
=============
الطبقة الثانية: طبقة من عداهم من الرسل على مراتبهم ودرجاتهم عند ربهم، وقد ذكر الله منهم في القرآن من الأنبياء والرسل خمسةً وعشرين، ومنهم من لم يقص الله علينا أخبارهم، ولا نعلم أسماءهم فنؤمن بهم إجمالاً كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)} [غافر: 78].
الطبقة الثالثة: طبقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والنبي: هو من أوحى الله إليه بشرع سابق ليُعْلِم من حوله من أصحاب ذلك الشرع ويجدده، وهم درجات كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)}... [الإسراء: 55].
والرسول: من أوحى الله إليه بشرع وأمره بإبلاغه إلى من لا يعمله، أو يعلمه ولكنه خالفه.
فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسول.
ولم تخل أمة من رسول يبعثه الله تعالى بشريعة مستقلة إلى قومه، أو نبي يوحي إليه بشريعة مَنْ قبله ليجددها، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
======