المؤلف : الشاطبي
خطبة الكتاب الحمد لله المحمود على كل حال الذي بحمده يستفتح كل أمر ذي بال خالق الخلق لما شاء وميسرهم على وفق علمه وإرادته لا على وفق أغراضهم لما سر وساء ومصرفهم بمقتضى القبضتين فمنهم شقي وسعيد وهداهم النجدين فمنهم قريب وبعيد ومسويهم على قبول الإلهامين ففاجر وتقي كما قدر أرزاقهم بالعدل على حكم الطرفين ففقير وغني كل منهم جار على ذلك الأسلوب فلا يعدوه فلو تمالؤوا على أن يسدوا ذلك الفتق لم يسدوه أو يردوا ذلك الحكم السابق لم ينسخوه ولم يردوه فلا إطلاق لهم على تقييده ولا انفصال { ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال }
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبي الرحمة وكاشف الغمة الذي نسخت شريعته كل شريعة وشملت دعوته كل أمة فلم يبق لأحد حجة دون حجته ولا استقام لعاقل طريق سوى لا حب محجته وجمعت تحت حكمتها كل معنى مؤتلف فلا يسمع بعد وضعها خلاف مخالف ولا قول مختلف فالسالك سبيلها معدود في الفرقة الناجية والناكب عنها مصدود إلى الفرق المقصرة أو الفرق الغالية صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه المنيرة واقتفوا آثاره اللائحة وأنواره الواضحة وضوح الظهيرة وفرقوا بصوارم أيديهم وألسنتهم بين كل نفس فاجرة ومبرورة وبين كل حجة بالغة وحجة مبيرة وعلى التابعين لهم على ذلك السبيل سائر المنتمين إلى ذلك القبيل وسلم تسليما كثيرا
أما بعد : فإني أذكرك أيها الصديق الأوفى والخالصة الأصفى في مقدمة ينبغي تقديمها قبل الشروع في المقصود وهي معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم
في معنى قول صلى الله عليه و سلم بدىء الإسلام غريبا
وهي معنى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ بدىء الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوبى للغرباء قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون عند فساد الناس ] وفي رواية قيل : [ ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : النزاع من القبائل ] وهذا مجمل ولكنه مبين في الرواية الأخرى وجاء من طريق آخر [ بدىء الإسلام غريبا ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبا كما بدىء فطوبى للغرباء حين يفسد الناس ] وفي رواية لابن وهب قال عليه الصلاة و السلام : [ طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله حين يترك ويعملون بالسنة حين تطفى ] وفي رواية : [ إن الإسلام بدىء غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوبى للغرباء قالوا : يا رسول الله كيف يكون غريبا ؟ قال : كما يقال للرجل في حي كذا وكذا إنه لغريب ] وفي رواية : [ أنه سئل عن الغرباء قال : الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي ] وجملة المعنى فيه من جهة وصف الغربة ما ظهر بالعيان والمشاهدة في أول الإسلام وآخره وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل وفي جاهلية جهلاء لا تعرف من الحق رسما ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكما بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها وما استحسنه أسلافها من الآراء المنحرفة والنحل المخترعة والمذاهب المبتدعة فحين قام فيهم صلى الله عليه و سلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر وغيروا في وجه صوابه بالإفك ونسبوا إليه إذ خالفهم في الشرعة ونابذهم في النحلة كل محال ورموه بأنواع البهتان فتارة يرمونه بالكذب وهو الصادق المصدوق الذي لم يجربوا عليه قط خبرا بخلاف مخبره وآونة يتهمونه بالسحر وفي علمهم أنه لم يكن من أهله ولا ممن يدعيه وكرة يقولون : إنه مجنون مع تحققهم بكمال عقله وبراءته من مس الشيطان وخبلة وإذا دعاهم إلى عبادة المعبود بحق وحده لا شريك له قالوا : { أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب } مع الإقرار بمقتضى هذه الدعوة الصادقة : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } وإذا أنذرهم بطشة يوم القيامة أنكروا ما يشاهدون من الأدلة على إمكانه وقالوا : { أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد } وإذا خوفهم نقمة الله قالوا : { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } اعتراضا على صحة ما أخبرهم به مما هو كائن لا محالة وإذا جاءهم بآية خارقة افترقوا في الضلالة على فرق واخترقوا فيها بمجرد العناد ما لا يقبله أهل التهدي إلى التفرقة بين الحق والباطل كل ذلك منهم إلى التأسي بهم والموافقة لهم على ما ينتحلون إذ رأوا خلاف المخالف لهم في باطلهم ردا لما هم عليه ونبذا لما شدوا عليه يد الظنة واعتقدوا إذ لم يتمسكوا بدليل أن الخلاف يوهن الثقة ويقبح جهة الاستحسان وخصوصا حين اجتهدوا في الانتصار بعلم فلم يجدوا أكثر من تقليد الآباء ولذلك أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام في محاجة قومه : { ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } فحادوا كما ترى عن الجواب القاطع المورد مورد السؤال إلى الاستمساك بتقليد الآباء وقال الله تعالى : { أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون * بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } فرجعوا عن جواب ما ألزموا إلى التقليد فقال تعالى : { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } فأجابوا بمجرد الإنكار ركونا إلى ما ذكروا من التقليد لا بجواب السؤال
فكذلك كانوا مع النبي صلى الله عليه و سلم فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم لأنه خرج عن معتادهم وأتى بخلاف ما كانوا عليه من كفرهم وضلالهم حتى أرادوا أن يستنزلوه على وجه السياسة في زعمهم ليوقعوا بينهم وبين المؤالفة والموافقة ولو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال أو على بعض الوجوه ويقنعوا منه بذلك ليقف لهم بتلك الموافقة واهي بنائهم فأبى عليه الصلاة و السلام إلا الثبوت على محض الحق والمحافظة على خالص الصواب وأنزل الله : { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون } إلى آخر السورة فنصبوا له عند ذلك حرب العدواة ورموه بسهام القطيعة وصار أهل السلم كلهم حربا عليه عاد الولي الحميم عليه كالعذاب الأليم فأقربهم إليه نسبا كان أبعد الناس عن موالاته كأبي جهل وغيره وألصقهم به رحما كانوا أقسى قلوبا عليه فأي غربة توازي هذه الغربة ؟ ومع ذلك فلم يكله الله إلى نفسه ولا سلطهم على النيل من أذاه إلا نيل المصلوفين بل حفظه وعصمه وتولاه بالرعاية والكلاء حتى بلغ رسالة ربه
ثم ما زالت الشريعة في أثناء نزولها وعلى توالي تقريرها تبعد بين أهلها وبين غيرهم وتضع الحدود بين حقها وبين ما ابتدعوا ولكن على وجه من الحكمة عجيب وهو التأليف بين أحكامها وبين أكابرهم في أصل الدين الأول الأصيل ففي العرب نسبتهم إلى أبيهم إبراهيم عليه السلام وفي غيرهم لأنبيائهم المبعوثين فيهم كقوله تعالى بعد ذكر كثير من الأنبياء : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وقوله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين }
وما زال عليه الصلاة و السلام يدعو لها فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد على حكم الاختفاء خوفا من عادية الكفار زمان ظهورهم على دعوة الإسلام فلما اطلعوا على المخالفة أنفوا وقاموا وقعدوا فمن أهل الإسلام من لجأ إلى قبيلة فحموه على إغماض أو على دفع العار في الإخفار ومنهم من فر من الإذاية وخوف الغرة هجرة إلى الله وحبا في الإسلام ومنهم من لم يكن له وزر يحميه ولا ملجأ يركن إليه فلقي منهم من الشدة والغلطة والعذاب أو القتل ما هو معلوم حتى زل منهم من زل فرجع أمره بسبب الرجوع إلى الموافقة وبقي منهم من بقي صابرا محتسبا إلى أن أنزل الله تعالى الرخصة في النطق بكلمة الكفر على حكم الموافقة ظاهرا ليحصل بينهم وبين الناطق الموافقة وتزول المخالفة فنزل إليها من نزل على حكم التقية ريثما يتنفس من كربه ويتروح من خناقه وقلبه مطمئن بالإيمان وهذه غربة أيضا ظاهرة وإنما كان هذا جهلا منهم بمواقع الحكمة وأن ما جائهم به نبيهم صلى الله عليه و سلم هو الحق ضد ما هم عليه فمن جهل شيئا عاداه فلو علموا لحصل الوفاق ولم يسمع الخلاف ولكن سابق القدر حتم على الخلق ما هم عليه قال الله تعالى : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك }
ثم استمر تزيد الإسلام واستقام طريقه على مدة حياة النبي صلى الله عليه و سلم ومن بعد موته وأكثر قرن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة واصغوا إلى البدع المضلة كبدعة القدر وبدعة الخوارج وهي التي نبه عليها الحديث بقوله : [ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ] يعني لا يتفقهون فيه بل يأخذونه على الظاهر : كما بينه حديث ابن عمر الآتي بحول الله وهذا كله في آخر عهد الصحابة
ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق صلى الله عليه و سلم في قوله :
[ افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ] وفي الحديث الآخر :
[ لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ ] وهذا أعم من الأول فإن الأول عند كثير من أهل العلم خاص بأهل الأهواء وهذا الثاني عام في المخالفات ويدل على ذلك من الحديث قوله : [ حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم ]
وكل صاحب مخالفة فمن شأنه أن يدعو غيره إليها ويخص سؤاله بل سواه عليها إذ التأسي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلة وبسببه تقع في المخالف المخالفة وتحصل من الموافق المؤالفة ومنه تنشأ العدواة والبغضاء للمختلفين
كان الإسلام في أوله وجدته مقاوما بل ظاهرا وأهله غالبون وسوادهم أعظم الأسودة فخلا من وصف الغربة بكثرة الأهل والأولياء الناصرين فلم يكن لغيرهم ممن لم يسلك سبيلهم أو سلكه ولكنه ابتدع فيه صولة يعظم موقعها ولا قوة يضعف دونها حزب الله المفلحون فصار على استقامة وجرى على اجتماع واتساق فالشاذ مقهور مضطهد إلى أن أخذ اجتماعه في الافتراق الموعود وقوته إلى الضعف المنتظر والشاذ عنه تقوى صولته ويكثر سواده واقتضى سر التأسي المطالبة بالموافقة ولا شك أن الغالب أغلب فتكالبت على سواد السنة البدع والأهواء فتفرق أكثرهم شيعا وهذه سنة الله في الخلق : إن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل لقوله تعالى : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } وقوله تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } ولينجز الله ما وعد به نبيه صلى الله عليه و سلم من عود وصف الغربة إليه فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وتصير السنة بدعة والبدعة سنة فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف كما كان أولا يقام على أهل البدعة طمعا من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة فلا تجتمع الفرق كلها على كثرتها على مخالفة السنة عادة وسمعا بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء استدعاء إلى موافقتهم لا يزالون في جهاد ونزاع ومدافعة وقراع آناء الليل والنهار وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل ويثيبهم الثواب العظيم
فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالفة بالموافقة جار مع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان فمن وافق فهو عند المطالب المصيب على أي حال كان ومن خالف فهو المخطىء المصاب ومن وافق فهو المحمود السعيد ومن خالف فهو المذموم المطرود ومن وافق فقد سلك سبيل الهداية ومن خالف فقد تاه في طرق الضلالة والغواية
وإنما قدمت هذه المقدمة لمعنى أذكره وذلك أني ولله الحمد لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ووجه شطر العلم طلبي أنظر في عقلياته وشرعياته وأصوله وفروعه لم أقتصر منه على علم دون علم ولا أفردت عن أنواعه نوعا دون آخر حسبما اقتضاه الزمان والمكان وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة وأقدمت في ميادينه إقدام الجريء حتى كدت أتلف في بعض أعماقه أو أنقطع في رفقتي التي بالأنس بها تجاسرت على ما قدر لي غائبا عن مقال القائل وعذل العاذل ومعرضا عن صد الصاد ولوم اللائم إلى أن من علي الرب الكريم الرؤوف الرحيم فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسابي وألقى في نفسي القاصرة أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول ولا أبقيا لغيرهما مجالا يعتد فيه وإن الدين قد كمل والسعادة الكبرى فيما وضع والطلبة فيما شرع وما سوى ذلك فضلال وبهتان وإفك وخسران وأن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى محصل لكليتي الخير دنيا وأخرى وما سواهما فأحلام وخيالات وأوهام وقام لي على صحة ذلك البرهان الذي لا شبهة تطرق حول حماه ولا ترتمي نحو مرماه : { ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } والحمد لله والشكر كثيرا كما هو أهله فمن هنالك قويت نفسي على المشي في طريقه بمقدار ما يسر الله فيه فابتدأت بأصول الدين عملا واعتقادا ثم بفروعه المبينة على تلك الأصول وفي خلال ذلك أبين ما هو من السنن أو من البدع كما أبين ما هو من الجائز وما هو من الممتنع وأعرض ذلك على علم الأصول الدينية والفقهية ثم أطالب نفسي بالمشي مع للجماعة التي سماها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسواد الأعظم في الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه وترك البدع التي نص عليها العلماء أنها بدع وأعمال مختلفة
وكنت في اثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها فلما أردت الاستقامة على الطريق وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد ولم يكن ذلك بدعا في الأزمنة المتقدمة فكيف في زماننا هذا فقد روي عن السلف الصالح من التنبيه على ذلك كثير كما [ روي عن أبي الدرداء أنه قال : لو خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم عليكم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة ] قال الأوزاعي : فكيف لو كان اليوم ؟ قال عيسى بن يونس : فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان ؟
وعن أم الدرداء قالت : دخل أبو الدراداء وهو غضبان فقلت : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا
وعن أنس بن مالك قال : ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم غير قولكم : لا إله إلا الله قلنا : بلى يا أبا حمزة ؟ قال : قد صليتم حتى تغرب الشمس أفكانت تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ وعن أنس قال : لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا قال : ووضع يده على خده ثم قال : إلا هذه الصلاة ثم قال : أما والله على ذلك لمن عاش في النكر ولم يدرك ذلك السلف الصالح فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله من ذلك وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح يسأل عن سبلهم ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم ليعوض أجرا عظيما وكذلك فكونوا إن شاء الله
وعن ميمون بن مهران قال : لو أن رجلا أنشر فيكم من السلف ما عرف غير هذه القبلة
وعن سهل بن مالك عن أبيه قال : ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة إلى ما أشبه هذا من الآثار الدالة على أن المحدثات تدخل في المشروعات وأن ذلك قد كان قبل زماننا وإنما تتكاثر على توالي الدهور إلى الآن
فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد ولا سيما إذا ادعى أهلها أم ما هم عليه هو السنة لا سواها إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذا بالله من ذلك إلا أني أوافق المعتاد وأعد من المؤالفين لا من المخالفين فرأيت أن الهلاك في أتباع السنة هو النجاة وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور فقامت علي القيامة وتواترت علي الملامة وفوق إلي العتاب سهامه ونسبت إلى البدعة والضلالة وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجا لوجدت غير أن ضيق العطن والبعد عن أهل الفطن رقى بي مرتقى صعبا وضيق علي مجالا رحبا وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات أولى من اتباع الواضحات وإن خالفت السلف الأول
وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكب ويسألون عنها يوم القيامة فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه كما يعزى إلى بعض الناس بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء
وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب وقد سئل ( أصبغ ) عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال : هو بدعة ولا ينبغي العمل به وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة قيل له : فدعاؤه للغزاة والمرابطين ؟ قال : ما أرى به بأسا عند الحاجة إليه وأما أن يكون شيئا يصمد له في خطبته دائما فإني أكره ذلك ونص أيضا عز الدين بن عبد السلام : على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة
وتارة أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة وذكرهم فيه محدث لم يكن عليه من تقدم
وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه وإن كان شاذا في المذهب الملتزم أو في غيره وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب ( الموافقات )
وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم
وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة بناء منهم على أن الجماعة التي أمر بأتباعها وهي الناجية ما عليه العموم ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان وسيأتي بيان ذلك بحول الله وكذبوا علي في جميع ذلك أو وهموا والحمد لله على كل حال
فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه إذ حكى عن نفسه فقال : عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين والعارفين والمنكرين فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقا أو مخالفا دعاني إلى متابعته على ما يقوله وتصديق قوله والشهادة له فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان ـ سماني موافقا وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله ـ سماني مخالفا وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجيا وإن قرأت عليه حديثا في التوحيد سماني مشبها وإن كان في الرؤية سماني سالميا وإن كان في الإيمان سماني مرجئيا وإن كان في الأعمال سماني قدريا وإن كان في المعرفة سماني كراميا وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبيا وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيا وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهريا وإن أجبت بغيرهما سماني باطنيا وإن أجبت بتأويل سماني أشعريا وإن جحدتهما سماني معتزليا وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شفعويا وإن كان في القنوت سماني حنفيا وإن كان في القرآن سماني حنبليا وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار ـ إذ ليس في الحكم والحديث محاباة ـ قالوا : طعن في تزكيتهم ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرؤون علي من أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يشتهون من هذه الأسامي ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى ولن يغنوا عني من الله شيئا وإني مستمسك بالكتاب والسنة وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم
هذا تمام الحكاية فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع فقلما تجد عالما مشهورا أو فاضلا مذكورا إلا وقد نبذ بهذه الأمور أو بعضها لأن الهوى قد يداخل المخالف بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة إنه غير صاحبها ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله حتى ينسب هذه المناسب
وقد نقل عن السيد العباد بعد الصحابة ( أويس ) القرني أنه قال : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقا نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا ويجدون في ذلك أعوانا من الفاسقين حتى ـ والله لقد رموني بالعظائم وأيم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه
فمن هذا الباب يرجع الإسلام غريبا كما بدأ لأن المؤالف فيه على وصفه الأول قليل فصار المخالف هو الكثير فاندرست رسوم السنة حتى مدت البدع أعناقها فأشكل مرماها على الجمهور فظهر مصداق الحديث الصحيح
ولما وقع علي من الإنكار ما وقع مع ما هدى الله إليه وله الحمد لم أزل أتبع البدع التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم وحذر منها وبين أنها ضلالة وخروج عن الجادة وأشار العلماء إلى تمييزها والتعريف بجملة منها لعلي أجتنبها فيما استطعت وأبحث عن السنن التي كادت تطفىء نورها تلك المحدثات لعلي أجلو بالعمل سناها وأعد يوم القيامة فيمن أحياها إذ ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنن ما هو في مقابلتها حسبما جاء عن السلف في ذلك فعن ابن عباس قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدعة وتموت السنن وفي بعض الأخبار : لا يحدث رجل بدعة إلا ترك من السنة ما هو خير منها وعن لقمان بن أبي إدريس الخولاني أنه كان يقول : ما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع بها عنهم سنة وعن حسان بن عطية قال : ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة إلى غير ذلك مما جاء في هذا المعنى وهو مشاهد معلوم حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وجاء من الترغيب في إحياء السنن ما جاء فقد خرج ابن وهب حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا يرضاها الله رسوله فإن عليه إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئا ] وأخرجه الترمذي باختلاف في بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى وقال فيه : حديث حسن
وفي الترمذي [ عن أنس قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم :
يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ثم قال لي : يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة ] حديث حسن
فرجوت بالنظر في هذا الموضع الانتظام في سلك من أحيا سنة وأمات بدعة وعلى طول العهد ودوام النظر اجتمع لي في البدع والسنن أصول قررت أحكامها الشريعة وفروع طالت أفنانها لكنها تنتظمها تلك الأصول وقلما توجد على الترتيب الذي سنح في الخاطر فمالت إلى بثها النفس ورأت أنه من الأكيد الطلب لما فيه من رفع الالتباس الناشىء بين السنن والبدع لأنه لما كثرت البدع وعم ضررها واستطار شررها ودام الإكباب على العمل بها والسكوت من المتأخرين عن الإنكار لها وخلفت بعدهم خلوف جهلوا أو غفلوا عن القيام بفرض القيام فيها صارت كأنها سنن مقررات وشرائع من صاحب الشرع محررات فاختلط المشروع بغيره فعاد الراجع إلى محض السنة كالخارج عنها كما تقدم فالتبس بعضها ببعض فتأكد الوجوب بالنسبة إلى من عنده فيها علم وقلما صنف فيها على الخصوص تصنيف وما صنف فيها فغير كاف في هذه المواقف مع أن الداخل في هذا الأمر اليوم فاقد المساعد عديم المعين فالموالي لم يخلد به إلى الأرض ويلقي له باليد إلى العجز عن بث الحق بعد رسوخ العوائد في القلوب والمعادي يريسه بالأردبيس ويروم أخذه بالعذاب البئيس لأنه يرد عوائده الراسخة في القلوب المتداولة في الأعمال دينا يتعبد به وشريعة يسلك عليها لا حجة له إلا عمل الآباء والأجداد مع بعض الأشياخ العالمين كانوا من أهل النظر في هذه الأمور أم لا ولم يلتفتوا إلى أنهم عند موافقتهم للآباء والأشياخ مخالفون للسلف الصالح فالمعترض لمثل هذا الأمر ينحو نحو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في العمل حيث قال : ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله قد فني عليه الكبير وكبر عليه الصغير وفصح عليه الأعجمي وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره
وكذلك ما نحن بصدد الكلام عليه غير أنه أمر لا سبيل إلى إهماله ولا يسع أحدا ممن له منة إلا الأخذ بالحزم والعزم في بثه بعد تحصيله على كماله وإن كره المخالف فكراهيته لا حجة فيها على الحق إلا يرفع منارة ولا تكشف وتجلى أنواره فقد خرج أبو الطاهر السلفي بسنده [ إلى أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له :
يا أبا هريرة علم الناس القرآن وتعلمه فإنك إن مت وأنت كذلك زارت الملائكة قبرك كما يزار البيت العتيق وعلم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك ]
قال أبو عبد الله بن القطان : وقد جمع الله له ذلك كله من إفراء كتاب الله والتحديث بالسنة أحب الناس أم كرهوا وترك الحدث حتى إنه كان لا يتأول شيئا مما روى تتميما للسلامة من الخطأ
على أن أبا العرب التميمي حكى عن ابن فروخ أنه كتب إلى مالك بن أنس : إن بلدنا كثير البدع وإنه ألف كلاما في الرد عليهم فكتب إليه مالك يقول له : إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل فتهلك لا يرد عليهم إلا من كان ضابطا عارفا بما يقول لهم لا يقدرون أن يعرجوا عليه فهذا لا بأس به وأما غير ذلك فإني أخاف أن يكلمهم فيخطىء فيمضوا على خطئه أو يظفروا منه بشيء فيطغوا ويزدادوا تماديا على ذلك
وهذا الكلام يقضي لمثلي بالإحجام دون الإقدام وشياع هذا النكر وفشوا العمل به وتظاهر أصحابه يقضي لمن له بهذا المقام منة بالإقدام دون الإحجام لأن البدع قد عمت وجرت أفراسها من غير مغير ملء أعنتها
وحكى ابن وضاح عن غير واحد : أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات : اعلم يا أخي أن ما حملني على الكتب إليك ما أنكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس وحسن حالك مما أظهرت من السنة وعيبك لأهل البدع وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة وقواك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم واذلهم الله بذلك وصاروا ببدعتهم مستترين فأبشر يا أخي بثواب الله واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ ! وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ ومن أحيا شيئا من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وضم بين إصبعيه وقال أيما داع دعا إلى هذه فاتبع عليه كان له مثل أجر من تبعه إلى يوم القيامة ] فمن يدرك يا أخي هذا بشيء من عمله ؟ ! وذكر أيضا : إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا لله يذب عنها وينطق بعلامتها فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله [ فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فأوصاه وقال :
لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من كذا وكذا ] وأعظم القول فيه فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب إلى يوم القيامة كما جاء الأثر فاعمل على بصيرة ونية حسنة فيرد الله بك المبتدع والمفتون الزائغ الحائر فتكون خلفا من نبيك صلى الله عليه و سلم فأحي كتاب الله وسنة نبيه فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه
انتهى ما قصدت إيراده من كلام أسد رحمه الله وهو مما يقوي جانب الإقدام مع ما روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه خطب الناس فكان من جملة كلامه في خطبته أن قال : والله إني لولا أن أنعش سنة قد أميتت أو أن أميت بدعة قد أحييت لكرهت أن أعيش فيكم فواقا
وخرج ابن وضاح في كتاب القطعان وحديث الأوزاعي أنه بلغه عن الحسن أنه قال : لن يزال لله نصحاء في الأرض من عباده يعرضون أعمال العباد على كتاب الله فإذا وافقوه حمدوا الله وإذا خالفوه عرفوا بكتاب الله ضلالة من ضل وهدى من اهتدى فأولئك خلفاء الله
وفيه عن سفيان قال : اسلكوا سبيل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهله فوقع الترديد بين النظرين
ثم إني أخذت في ذلك مع بعض الأخوان الذين أحللتهم من قلبي محل السويداء وقاموا لي في عامة أدواء نفسي مقام الدواء فرأوا أنه من العمل الذي لا شبهة في طلب الشرع نشره ولا إشكال في أنه بحسب الوقت من أوجب الواجبات فاستخرت الله تعالى في وضع كتاب يشتمل على بيان البدع وأحكامها وما يتعلق بها من المسائل أصولا وفروعا وسميته بـ الإعتصام والله أسأل أن يجعله عملا خالصا ويجعل ظل الفائدة به ممدودا لا قالصا والأجر على العناء فيه كاملا لا ناقصا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وينحصر الكلام فيه بحسب الغرض المقصود في جملة أبواب وفي كل باب منها فصول اقتضاها بسط المسائل المنحصرة فيه وما انجر معها من الفروع المتعلقة به
الباب الأول في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظا وأصل مادة بدع للاختراع على غير مثال سابق ومنه قول الله تعالى : { بديع السموات والأرض } أي مخترعها من غير مثال سابق متقدم وقوله تعالى : { قل ما كنت بدعا من الرسل } أي ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل ويقال : ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق وهذا أمر بديع يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع وهيئتها هي البدعة وقد يسمى العلم المعمول على ذلك الوجه بدعة فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة وهو إطلاق أخص منه في اللغة حسبما يذكر بحول الله
ثبت في علم الأصول أن الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثة : حكم يقتضيه معنى الأمر كان للإيجاب أو الندب وحكم يقتضيه معنى النهي كان للكراهة أو التحريم وحكم يقتضيه معنى التخيير وهو الإباحة فأفعال العباد وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة : مطلوب فعله ومطلوب تركة ومأذون في فعله وتركه والمطلوب تركه لم يطلب تركه إلا لكونه مخالفا للقسمين الأخيرين لكنه على ضربين :
أحدهما : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع مجرد النظر عن غير ذلك وهو إن كان محرما سمي فعلا معصية وإثما وسمي فاعله عاصيا وآثما وإلا لم يسم بذلك ودخل في حكم العفو حسبما هو مبين في غير هذا الموضع ولا يسمى بحسب الفعل جائزا ولا مباحا لأن الجمع بين الجواز والنهي جمع بين متنافيين
والثاني : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود وتعيين الكيفيات والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع الدوام ونحو ذلك
وهذا هو الابتداع والبدعة ويسمى فاعله مبتدعا فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة وإنما يخصها بالعبادات وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول : البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم
ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم ـ فمنها ما له أصل في الشريعة ومنها ما ليس له أصل فيها ـ خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عما رسمه الشارع وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين وسائر العلوم الخادمة للشريعة فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع إذ الأمر بإعراب القرآن منقول وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنة فحقيقتها إذا أنها فقه التعبد بالألفاظ الشرعية الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤذي
وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس
وكذلك أصول الدين وهو علم الكلام إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن والسنة أو ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به كما كان الفقه تقريرا لأدلتها في الفروع العبادية
( فإن قيل ) : فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع
( فالجواب ) : أن له أصلا في الشرع ففي الحديث ما يدل عليه ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص فالشرع بجملته يدل على اعتباره وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة وسيأتي بسطها بحول الله
فعلى القول بإثباتها أصلا شرعيا لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل تحت أدلته التي ليست بمأخوذة من جزئي واحد فليست ببدعة البتة
وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات إذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال كما يأتي بيانه إن شاء الله
ويلزم من ذلك أن يكون كتب ا لمصحف وجمع القرآن قبيحا وهو باطل بالإجماع فليس أذا ببدعة
ويلزم أن يكون له دليل شرعي وليس إلا هذا النوع من الاستدلال وهو المأخوذ من جملة الشريعة
وإذا ثبت جزئي في المصالح المرسلة ثبت مطلق المصالح المرسلة
فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة بدعة أصلا
ومن سماه بدعة فإما على المجاز كما سمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيام الناس في ليالي رمضان بدعة وإما جهلا بمواقع السنة والبدعة فلا يكون قول من قال ذلك معتدا به ولا معتمدا عليه
وقوله في الحد تضاهي الشرعية يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك بل هي مضادة لها من أوجه متعددة
منها : وضع الحدود كالناذر للصيام قائما لا يقعد ضاحيا لا يستظل والاختصاص في الانقطاع للعبادة والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة
ومنها : التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه و سلم عيدا وما أشبه ذلك
ومنها : التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة كالتزام صيام يرم النصف من شعبان وقيام ليلته
وثم أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة ـ لأنها تصير من باب الأفعال العادية
وأيضا فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة حتى يكون ملبسا بها على الغير أو تكون هي مما تلتبس عليه بالسنة إذ الإنسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعا ولا يدفع به ضررا ولا يجيبه غيره إليه
ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير
فأنت ترى العرب الجاهلية في تغيير ملة إبراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما أحدثوا احتجاجا منهم كقولهم في أصل الإشراك { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } وكترك الحمس الوقوف بعرفة لقولهم : لا نخرج من الحرم اعتدادا بحرمته وطواف من طاف منهم بالبيت عريانا قائلين : لا نطوف بثياب عصينا الله فيها وما أشبه ذلك مما وجهوه ليصيروه بالتوجيه كالمشروع فما ظنك بمن عد أو عد نفسه من خواص أهل الملة ؟ فهم أحرى بذلك وهم المخطئون وظنهم الإصابة وإذا تبين هذا ظهر أن مضاهاة الأمور المشروعة ضرورية الأخذ في أجزاء الحد
وقوله : يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها
وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك لأن الله تعالى يقول : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف فرأى من نفسه أنه لا بد لما أطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة وأحوال مرتبطة مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة
وأيضا فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة فإذا جدد لها أمر لا تعهده حصل بها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول ولذلك قالوا : ( لكل جديد لذة ) بحكم هذا المعنى كمن قال : كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور
وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه : فيوشك قائل أن يقول ما هم بمتبعي فيتبعوني وقد قرأتك القرآن فلا يتتبعني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة
وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة وقدر مخصوص مما يشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة
وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن قبل فإنها لا تسمى بدعا على إحدى الطريقتين
وأما الحد على الطريقة الأخرى فقد تبين معناه إلا قوله : يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية
ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته لأن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات فإن تعلقت بالعبادات فإنما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتم المراتب في الآخرة في ظنه وإن تعلقت بالعادات فكذلك لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها
فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق المنخول أتم منه بغير المنخول
وكذلك البناءات المشيدة المختلفة التمتع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب
ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر وقد أباحت الشريعة التوسع في التصرفات فيعد المبتدع هذا من ذلك
وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله
فصل في الحد وفي الحد أيضا معنى آخر مما ينظر فيه وهو أن البدعة من حيث قيل فيها : أنها طريقة في الدين مخترعة ـ إلى آخره ـ يدخل في عموم لفظها البدعة التركية كما يدخل فيه البدعة غير التركية فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريما للمتروك أو غير تحريم فإن الفعل ـ مثلا ـ يكون حلالا بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه أو يقصد تركه قصدا
فبهذا الترك إما أن يكون لأمر يعتبر مثله شرعا أو لا فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب بتركه كالذي يحرم على نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك فلا مانع هنا من الترك : بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فإن الترك هنا مطلوب وإن قلنا بإباحة التداوي فالترك مباح
فهذا راجع إلى العزم على الحمية من المضرات وأصله قوله عليه الصلاة و السلام : [ يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ] ـ إلى أن قال ـ : [ ومن لم يستطع فعليه بالصوم ] الذي يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت
وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين وكتارك المتشابه حذرا من الوقوع في الحرام واستبراء للدين والعرض
وإن كان الترك لغير ذلك فإما أن يكون تدينا أو لا فإن لم يكن تدينا فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك ولا يسمى هذا الترك بدعة إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة : إن البدعة تدخل في العادات وأما على الطريقة الأولى فلا يدخل لكن هذا التارك يصير عاصيا بتركه أو باعتقاده التحريم فيما أحل الله
وأما إن كان الترك تدينا فهو الابتداع في الدين على كلتا الطريقتين إذ قد فرضنا الفعل جائزا شرعا فصار الترك المقصود معارضة للشارع في شرع التحليل وفي مثله نزل قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } فنهى أولا عن تحريم الحلال ثم جاءت الآية تشعر بأن ذلك اعتداء لا يحبه الله
وسيأتي للآية تقرير إن شاء الله
لأن بعض الصحابة هم أن يحرم على نفسه النوم بالليل وآخر الأكل بالنهار وآخر إتيان النساء وبعضهم هم بالاختصاء مبالغة في ترك شأن النساء وفي أمثال ذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ من رغب عن سنتي فليس مني ]
فإذا كل من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو خارج عن سنة النبي صلى الله عليه و سلم والعامل بغير السنة تدينا هو المبتدع بعينه
فإن قيل : فتارك المطلوبات الشرعية ندبا أو وجوبا هل يسمى مبتدعا أم لا ؟
فالجواب : أن التارك للمطلوبات على ضربين :
أحدهما : أن يتركها لغير التدين إما كسلا أو تضييعا أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية فهذا الضرب راجع إلى المخالفة للأمر فإن كان في واجب فمعصية وإن كان في ندب فليس بمعصية إذا كان الترك جزئيا وإن كليا فمعصية حسبما تبين في الأصول
والثاني : أن يتركها تدينا فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع الله ومثاله أهل الإباحة القائلين بإسقاط التكاليف إذا بلغ السالك عندهم المبلغ الذي حدوه
فإذا قوله في الحد : طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يشمل البدعة التركية كما يشمل غيرها لأن الطريقة الشرعية أيضا تنقسم إلى ترك وغيره
وسواء علينا قلنا : إن الترك فعل أم قلنا : إنه نفي الفعل الطريقتين المذكورتين في أصول الفقه
وكما يشمل الحد الترك يشمل أيضا ضد ذلك
وهو ثلاثة أقسام :
قسم الاعتقاد وقسم القول وقسم الفعل فالجميع أربعة أقسام
وبالجملة فكل ما يتعلق به الخطاب الشرعي يتعلق به الابتداع
الباب الثاني في ذم البدع وسوء منقلب أصحابها لا خفاء أن البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها لأن اتباعها خروج عن الصراط المستقيم ورمي في عماية وبيان ذلك من جهة النظر والنقل الشرعي العام
أما النظر فمن وجوه :
أحدهما : أنه قد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالم من أول الدنيا إلى اليوم أن العقول غير مستقلة بمصالحها استجلابا لها أو مفاسدها استدفاعا لها لأنها إما دنيوية أو أخروية
فأما الدنيوية فلا يستقل باستدراكها على التفصيل البتة لا في ابتداء وضعها أولا ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها إما في السوابق وإما في اللواحق لأن وضعها أولا لم يكن إلا بتعليم الله تعالى
لأن آدم عليه السلام لما أنزل إلى الأرض علم كيف يستجلب مصالح دنياه إذ لم يكن ذلك من معلومة أولا إلا على قول من قال : إن ذلك داخل تحت مقتضى قول الله تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها } وعند ذلك يكون تعليما غير عقلي ثم توارثته ذريته كذلك في الجملة لكن فرعت العقول من أصولها تفريعا تتوهم استقلالها به
ودخل في الأصول الدواخل حسبما أظهرت ذلك أزمنة الفترات إذ لم تجر مصالح الفترات على استقامة لوجود الفتن والهرج وظهور أوجه الفساد
فلولا أن من الله على الخلق ببعثة الأنبياء لم تستقم لهم حياة ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين
وأما المصالح الأخروية فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع أسبابها وهي العبادات مثلا فإن العقل لا يشعر بها على الجملة فضلا عن العلم بها على التفصيل
ومن جهة تصور الدار الأخرى وكونها آتية فلا بد وأنها دار جزاء على الأعمال فإن الذي يدرك العقل من ذلك مجرد الإمكان أن يشعر بها
ولا يغترن ذو الحجى بأحوال الفلاسفة المدعين لإدراك الأحوال الأخروية بمجرد العقل قبل النظر في الشرع فإن دعواهم بألسنتهم في المسألة بخلاف ما عليه الأمر في نفسه لأن الشرائع لم تزل واردة على بني آدم من جهة الرسل والأنبياء أيضا لم يزالوا موجودين في العالم وهم أكثر وكل ذلك من لدن آدم عليه السلام إلى أن انتهت بهذه الشريعة المحمدية
غير أن الشريعة كانت إذا أخذت في الدروس بعث الله نبيا من أنبيائه يبين للناس ما خلقوا لأجله وهو التعبد لله فلا بد أن يبقى من الشريعة المفروضة ما بين زمان أخذها في الاندراس وبين إنزال الشريعة بعدها ـ بعض الأصول المعلومة
فأتى الفلاسفة إلى تلك الأصول فتلقفوها أو تلقفوا منها فأرادوا أن يخرجوه على مقتضى عقولهم وجعلوا ذلك عقليا لا شرعيا وليس الأمر كما زعموا
فالعقل غير مستقل البتة ولا ينبني على غير أصل وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق ولا يمكن في أحوال الآخرة قبلهم أصل مسلم إلا من طريق الوحي
ولهذا المعنى بسط سيأتي إن شاء الله
فعلى الجملة العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي فالابتداع مضاد لهذا الأصل لأنه ليس له مستند شرعي بالفرض فلا يبقى إلا ما ادعوه من العقل فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بها ما رام تحصيله من جهتها فصارت كالعبث
هذا إن قلنا : إن الشرائع جاءت لمصالح العباد
وأما على القول الآخر فأحرى أن لا يكون صاحب البدعة على ثقة منها لأنها إذ ذاك مجرد تعبد وإلزام من جهة الآمر للمأمور والعقل بمعزل عن هذه الخطة حسبما تبين في علم الأصول وناهيك من نحلة ينتحلها صاحبها في أرفع مطالبة لا ثقة بها ويلقي من يدها ما هو على ثقة منه
والثاني : أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان لأن الله تعالى قال فيها : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }
وفي حديث العرباض بن سارية :
[ وعظنا رسول الله صلى الله عليه و سلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب فقلنا : يا رسول الله إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا ؟ قال : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الراشدين من بعدي ] الحديث
وثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة
فإذا كان كذلك فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حالة أو مقالة : إن الشريعة لم تتم وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولا استدرك عليها وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم
قال ابن الماجشون : سمعت مالكا يقول : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة زعم أن محمدا صلى الله عليه و سلم خان الرسالة لأن الله يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم } فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا
والثالث : أن المبتدع معاند للشرع ومشاق له لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه خاصة وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد وأخبر أن الخير فيها وأن الشر في تعديها ـ إلى غير ذلك لأن الله يعلم ونحن لا نعلم وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين فالمبتدع راد لهذا كله فإنه يزعم أن ثم طرقا أخر ليس ما حصره الشارع بمحصور ولا ما عينه بمتعين كأن الشارع يعلم ونحن أيضا نعلم بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع
وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين
وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذ كتب له عدي بن أرطأة يستشيره في بعض القدرية فكتب إليه :
أما بعد فإني أوصيك يتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه صلى الله عليه و سلم وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته فعليك بلزوم السنة فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم فإنهم على علم وقفوا وببصر نافذ قد كفوا وهم كانوا على كشف الأمور أقوى وبفضل كانوا فيه أحرى فلئن قلتم : أمر حدث بعدهم ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم ورغب بنفسه عنهم إنهم لهم السابقون فقد تكلموا منه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي فما دونهم مقصرا وما فوقهم محسر لقد قصر عنهم آخرون فغلوا وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم
ثم ختم الكتاب بحكم مسألته
فقوله فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها فهو مقصود الاستشهاد
والرابع : أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع لأن الشارع وضع الشرائع وألزم الخلق الجري على سننها وصار هو المنفرد بذلك لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تزل الشرائع ولم يبق الخلاف بين الناس ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام
هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا حيث شرع مع الشارع وفتح للاختلاف بابا ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع وكفى بذلك
والخامس : أنه ابتاع للهوى لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين ألا ترى قول الله تعالى : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب }
فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده وهو الحق والهوى وعزل العقل مجردا إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك وقال : { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه }
فجعل الأمر محصورا بين أمرين اتباع الذكر واتباع الهوى وقال : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله }
وهي مثل ما قبلها وتأملوا هذه الآية فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه فلا أحد أضل منه
وهذا شأن الميتدع فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله وهدى الله هو القرآن وما بينته الشريعة وبينته الآية أن اتباع الهوى على ضربين :
أحدهما : أن يكون تابعا للأمر والنهي فليس بمذموم ولا صاحبه بضال كيف وقد قدم الهدى فاستنار به في طريق هواه وهو شأن المؤمن التقي
والآخر : أن يكون هواه هو المقدم بالقصد الأول كان الأمر والنهي تابعين بالسنة إليه أو غير تابعين وهو المذموم
والمبتدع قدم هوى نفسه على هدى الله فكان أضل الناس وهو يظن أنه على هدى
وقد انجر هنا معنى يتأكد التنبيه عليه وهو أن الآية المذكورة عينت للاتباع في الأحكام الشرعية طريقين :
أحدهما : الشريعة ولا مرية في أنها علم وحق وهدى والآخر : الهوى وهو المذموم لأنه لم يذكر في القرآن إلا في سياق الذم ولم يجعل ثم طريقا ثالثا ومن تتبع الآيات ألفى ذلك كذلك
ثم العلم الذي أحيل عليه والحق الذي حمد إنما هو القرآن وما نزل من عند الله كقوله تعالى : { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } وقال بعد ذلك : { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم } وقال : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين } وهذا كله لاتباع أهوائهم في التشريع بغير هدى من الله وقال : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب }
وهو اتباع الهوى في التشريع إذ حقيقته افتراء على الله وقال : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله } أي لا يهديه دون الله شيء وذلك بالشرع لا بغيره وهو الهدى
وإذا ثبت هذا وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد فكأنه ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلا من تحت نظر الهوى فهو إذا اتباع الهوى بعينه في تشريع الأحكام
ودع النظر العقلي في المعقولات المحضة فلا كلام فيه هنا وإن كان أهله قد زلوا أيضا بالابتداع فإنما زلوا من حيث ورود الخطاب ومن حيث التشريع ولذلك عذر الجميع قبل إرسال الرسل أعني في خطئهم في التشريعات والعقليات حتى جاءت الرسل فلم يبق لأحد حجة يستقيم إليها { رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ولله الحجة البالغة
فهذه قاعدة ينبغي أن تكون من بال الناظر في هذا المقام وإن كانت أصولية فهذه نكتتها مستنبطة من كتاب الله انتهى
فصل في النقل الوجه الأول وأما النقل فمن وجوه :
أحدهما : ما جاء في القرآن الكريم مما يدل على ذم من ابتدع في دين الله في الجملة
فمن ذلك قول الله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } فهذه الآية أعظم الشواهد وقد جاء في الحديث تفسيرها فصح [ من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } قال : فإذا رأيتهم فاعرفيهم ]
وصح عنها أنها قالت : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ]
وهذا التفسير مبهم ولكنه جاء في رواية عن عائشة أيضا قالت : [ تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } الآية ـ قال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم ] وهذا أبين لأنه جعل علامة الزيغ الجدال في القرآن وهذا الجدال مقيد باتباع المتشابه
فإذا الذم إنما لحق من جادل فيه بترك المحكم ـ وهو أم الكتاب ومعظمه ـ والتمسك بمتشابهه ولكنه بعد مفتقر إلى تفسير أظهر فجاء [ عن أبي غالب واسمه حزور قال : كنت بالشام فبعث المهلب سبعين رأسا من الخوارج فنصبوا على درج دمشق فكنت على ظهر بيت لي فمر أبو أمامة فنزلت فاتبعته فلما وقف عليهم دمعت عيناه وقال : سبحان الله ! ما يصنع السلطان ببني آدم ! ـ قالها ثلاثا ـ كلاب جهنم كلاب جهنم شر قتلى تحت ظل السماء ـ ثلاث مرات ـ خير قتلى من قتلوه طوبى لمن قتلهم أو قتلوه ثم التفت إلي فقال : أبا غالب إنك بأرض هم بها كثير فاعاذك الله منهم قلت : رأيتك بكيت حين رأيتهم قال : بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام هل تقرأ سورة آل عمران ؟ قلت نعم : فقرأ : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } حتى بلغ : { وما يعلم تأويله إلا الله } وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ بهم ثم قرأ : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } إلى قوله { ففي رحمة الله هم فيها خالدون } قلت : هم هؤلاء يا أبا أمامة ؟ قال : نعم قلت من قبلك تقول أو شيء سمعت من النبي صلى الله عليه و سلم ؟ قال : إني إذا لجريء بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم لا مرة ولا مرتين ـ حتى عد سبعا ـ ثم قال :
إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة وإن هذه الأمة تزيد عليها فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم قلت : يا أبا أمامة ألا ترى ما فعلوا ؟ قال : { عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } ] خرجه إسماعيل القاضي وغيره
وفي رواية قال : قال [ ألا ترى ما فيه السواد الأعظم ] وذلك في أول خلافة عبد الملك والقتل يومئذ ظاهر قال : عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وخرجه الترمذي مختصرا وقال فيه : حديث حسن وخرجه الطحاوي أيضا باختلاف في بعض الألفاظ وفيه فقيل له : يا أبا أمامة تقول لهم هذا القول ثم تبكي ! ـ يعني قوله : شر قتلى ـ إلى آخره ـ قال : رحمة لهم إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه ثم تلا : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } حتى ختمها ثم قال : هم هؤلاء ثم تلا هذه الآية : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } حتى ختمها ثم قال : هم هؤلاء
وذكر الآجري عن طاوس قال : ذكر لابن عباس الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن فقال يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه وقرأ : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به }
فقد ظهر بهذا التفسير أنهم أهل البدع لأن أبا أمامة رضي الله عنه جعل الخوارج داخلين في عموم الآية وأنها تتنزل عليهم وهم من أهل البدع عند العلماء إما على أنهم خرجوا ببدعتهم عن أهل الإسلام وإما على أنهم من أهل الإسلام لم يخرجوا عنهم على اختلاف العلماء فيهم
وجعل هذه الطائفة ممن في قلوبهم زيغ فزيغ بهم وهذا الوصف موجود في أهل البدع كلهم مع أن لفظ الآية عام وفي غيرهم ممن كان على صفاتهم
ألا ترى أن صدر هذه السورة غنما نزل في نصارى نجران ومناظرتهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم في اعتقادهم في عيسى عليه السلام حيث تأولوا عليه أنه الإله أو أنه ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة بأوجه متشابهة وتركوا ما هو الواضح في عبوديته حسبما نقله أهل السير ! ثم تأوله العلماء من السلف الصالح على قضايا دخل أصحابها تحت حكم اللفظ كالخوارج فهي ظاهرة في العموم
ثم تلا أبو أمامة الآية الأخرى وهي قوله سبحانه : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } إلى قوله : { ففي رحمة الله هم فيها خالدون } وفسرها بمعنى ما فسر به الآية الأخرى فهي الوعيد والتهديد لمن تلك صفته ونهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم
ونقل عبيد عن حميد بن مهران قال : سألت الحسن كيف يصنع أهل هذه الأهواء الخبيثة بهذه الآية في آل عمران : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } قال : نبذوها ورب الكعبة وراء ظهورهم
وعن أبي أمامة أيضا قال : هم الحرورية
وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية : { يوم تبيض وجوه } إلى قوله : { بما كنتم تكفرون } قال مالك : فاي كلام أبين من هذا ؟ فرأيته يتأولها لأهل الأهواء ورواه ابن القاسم وزاد : قال لي مالك : إنما هذه الآية لأهل القبلة وما ذكره في الآية قد نقل عن غير واحد كالذي تقدم للحسن
وعن قتادة في قوله تعالى : { كالذين تفرقوا واختلفوا } يعني أهل البدع
وعن ابن عباس في قوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } قال : تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة
ومن الآيات قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا عليه وهو السنة والسبل هي سبل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع وليس المراد سبل المعاصي لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات
ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب قال : حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال :
[ خط لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما خطا طويلا وخط لنا سليمان خطا طويلا وخط عن يمينه وعن يساره فقال : هذا سبيل الله ثم خط لنا خطوطا عن يمينه ويساره وقال : هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا هذه الآية : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } ـ يعني الخطوط ـ { فتفرق بكم عن سبيله } ]
وعن عمر بن سلمة الهمداني قال : كنا جلوسا في حلقة ابن مسعود في المسجد وهو بطحاء قبل أن يحصب فقال له عبيد الله بن عمر بن الخطاب وكان أتى غازيا : ما الصراط المستقيم يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : هو ورب الكعبة الذي ثبت عليه أبوك حتى دخل الجنة ثم حلف على ذلك ثلاث أيمان ولاء ثم خط في البطحاء خطا بيده وخط بجنبيه خطوطا وقال : ترككم نبيكم صلى الله عليه و سلم على طرفه وطرفه الآخر في الجنة فمن ثبت عليه دخل الجنة ومن أخذ في هذه الخطوط هلك
وفي رواية : يا أبا عبد الرحمن ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في أدناه وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد وعن يساره جواد ؟ وعليها رجال يدعون من مر بهم : هلم لك فمن أخذ منهم في تلك الطرق انتهت به إلى النار ومن استقام إلى الطريق الأعظم أنتهى به إلى الجنة ثم تلا ابن مسعود : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } الآية كلها
وعن مجاهد في قوله : { ولا تتبعوا السبل } قال : البدع والشبهات
وعن عبد الرحمن بن مهدي : قد سئل مالك بن أنس عن السنة قال : هي ما لا إسم له غير السنة تلا : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }
قال بكر بن العلاء : يريد ـ إن شاء الله ـ حديث ابن مسعود [ أن النبي صلى الله عليه و سلم خط له خطا ] وذكر الحديث
فهذا التفسير يدل على شمول الآية لجميع طرق البدع لا تحتص ببدعة دون أخرى
ومن الآيات قول الله تعالى : { وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين } فالسبيل القصد هو طريق الحق وما سواه جار عن الحق أي عادل عنه وهي طرق البدع والضلالات أعاذنا الله من سلوكها بفضله وكفى بالجائر أن يحذر منه فالمساق يدل على التحذير والنهي
وذكر ابن وضاح قال : سئل عاصم بن بهدلة وقيل له : أبا بكر هل رأيت قول الله تعالى : { وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين } قال : حدثنا أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال : [ خط عبد الله خطا مستقيما وخط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن شماله فقال : خط رسول الله صلى الله عليه و سلم هكذا فقال للخط المستقيم : هذا سبيل الله وللخطوط التي عن يمينه وشماله : هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعوإليه ] والسبيل مشتركة قال الله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } إلى آخرها
عن التستري : قصد السبيل طريق السنة ومنها جائر والتقصير وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر وكلاهما من أوصاف البدع
وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقرؤها و منكم جائر قالوا : يعني هذه الأمة فكأن هذه الآية مع الآية قبلها يتواردان على معنى واحد
ومنها قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون }
هذه الآية قد جاء تفسيرها في الحديث من طريق عائشة رضي الله عنها قالت : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا عائشة { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } من هم ؟ قلت : الله وسوله أعلم قال هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة يا عائشة إن لكل ذنب توبة ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ليس لهم توبة وأنا بريء منهم وهم مني برآء ] ؟
قال ابن عطية : هذه الآية نعم أهل الأهواء والبدع الشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد ويريد ـ والله أعلم ـ بأهل التعمق في الفروع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في فصل ذم الرأي من كتاب العلم له وسيأتي ذكره بحول الله
وحكى ابن بطال في شرح البخاري عن أبي حنيفة أنه قال : لقيت عطاء بن أبي رباح بمكة فسألته عن شيء فقال : من أين أنت ؟ قلت : من أهل الكوفة قال : أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ؟ قلت : نعم قال : من أي الأصناف أنت قلت : ممن لا يسب السلف ويؤمن بالقدر ولا يكفر أحدا بذنب فقال عطاء : عرفت فالزم
وعن الحسن قال : خرج علينا عثمان بن عفان رضي الله عنه يوما يخطبنا فقطعوا عليه كلامه فتراموا بالبطحاء حتى جعلت ما أبصر أديم السماء قال : وسمعنا صوتا من بعض حجر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم فقيل : هذا صوت أم المؤمنين قال : فسمعتها وهي تقول : ألا إن نبيكم قد برىء ممن فرق دينه واحتزب وتلت : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء }
قال القاضي إسماعيل : أحسبه يعني بقوله : أم المؤمنين أم سلمة وأن ذلك قد ذكر في يعض الحديث وقد كانت عائشة في ذلك الوقت حاجة
وعن أبي هريرة أنها نزلت في هذه الأمة وعن أبي أمامة هم الخوارج
قال القاضي ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم فهو داخل في هذه الآية لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعا
ومنها قوله تعالى : { ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون }
قرىء فارقوا دينهم وفسر عن أبي هريرة أنهم الخوارج ورواه أبو أمامة مرفوعا
وقيل : هم أصحاب الأهواء والبدع قالوا : روته عائشة رضي الله عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وذلك لأن هذا شأن من ابتدع حسبما قاله إسماعيل القاضي وكما تقدم في الآي الأخر
ومنها قوله تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون }
فعن ابن عباس أن لبسكم شيعا هو الأهوء المختلفة ويكون على هذا قوله : { ويذيق بعضكم بأس بعض } تكفير البعض للبعض حتى يتقاتلوا كما جرى للخوارج حين خرجوا على أهل السنة والجماعة وقيل معنى { أو يلبسكم شيعا } ما فيه إلباس من الاختلاف
وقال مجاهد وأبو العالية : إن الآية لأمة محمد صلى الله عليه و سلم قال أبو العالية : هن أربع ظهر اثنتان بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم بخمس وعشرين سنة فألبسوا شيعا وأذيق بعضكم بأس بعض وبقيت اثنتان فهما ولا بد واقعتان الخسف من تحت أرجلكم والمسخ من فوقكم وهذا كله صريح في أن اختلاف الأهواء مكروه غير محبوب ومذموم غير محمود
وفيما نقل عن مجاهد في قول الله : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } قال في المختلفين : إنهم أهل الباطل { إلا من رحم ربك } قال : فإن أهل الحق ليس فيهم اختلاف
وروي عن مطرف بن الشخير أنه قال : لو كانت الأهواء واحدا لقال القائل : لعل الحق فيه فلما تشعبت وتفرقت عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق
وعن عكرمة { ولا يزالون مختلفين } يعني في الأهواء { إلا من رحم ربك } هم أهل السنة
ونقل أبو بكر ثابت الخطيب عن منصور بن عبد الله بن الرحمن قال : كنت جالسا عند الحسن ورجل خلفي قاعد فجعل يأمرني أن أسأله عن قول الله : { ولا يزالون مختلفين } قال : نعم لا يزالون مختلفين على أديان شتى إلا من رحم ربك فمن رحم غير مختلف
وروى ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أن أهل الرحمة لا يختلفون
ولهذه الآية بسط يأتي بعد إن شاء الله
وفي البخاري عن عمرو عن مصعب قال : سألت أبي عن قوله تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } هم الحرورية ؟ قال : لا : هم اليهود والنصارى أما اليهود فكذبوا محمدا صلى الله عليه و سلم وأما النصارى فكذبوا بالجنة وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب والحرورية { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } وكان شعبه يسميهم الفاسقين
وفي تفسير سعيد بن منصور عن مصعب بن سعد قال : قلت لأبي : { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } أهم الحرورية ؟ قال : لا ! أولئك أصحاب الصوامع ولكن الحرورية الذين قال الله فيهم : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم }
وخرج عبد بن حميد في تفسيره هذا المعنى بلفظ آخر عن مصعب بن سعد فأتى على هذه الآية : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } إلى قوله : { يحسنون صنعا } قلت : أهم الحرورية ؟ قال : لا ! هم اليهود والنصارى أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه و سلم وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب ولكن الحرورية : { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض }
فالأول : لأنهم خرجوا عن طريق الحق بشهادة رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنهم تأولوا التأويلات الفاسدة وكذا فعل المبتدعة وهو بابهم الذي دخلوا فيه
والثاني : لأنهم تصرفوا في أحكام القرآن والسنة هذا التصرف
فأهل حروراء وغيرهم من الخوارج قطعوا قوله تعالى : { إن الحكم إلا لله } عن قوله : { يحكم به ذوا عدل } وغيرهما
وكذا فعل سائر المبتدعة حسبما يأتيك بحول الله
ومنه روى عمرو بن مهاجر قال : بلغ عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن غيلان القدري يقول في القدر فيعث إليه فحجبه أياما ثم أدخله عليه فقال يا غيلان ! ما هذا الذي بلغني عنك ؟ قال عمرو بن مهاجر : فأشرت إليه ألا يقول شيئا قال فقال : نعم يا أمير المؤمنين : إن الله عز و جل يقول { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا } { إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا } قال عمر إقرأ إلى آخر السورة : { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما * يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما } ثم قال : ما تقول يا غيلان ؟ قال أقول : قد كنت أعمى فبصرتني وأصم فأسمعتني وضالا فهديتني فقال عمر : اللهم إن كان عبدك غيلان صادقا وإلا فاصلبه ! قال فأمسك عن الكلام في القدر فولاه عمر بن عبد العزيز دار الضرب بدمشق فلما مات عمر بن عبد العزيز وأفضت الخلافة إلى هشام تكلم في القدر فبعث إليه هشام فقطع يده فمر به رجل والذباب على يده فقال : يا غيلان ! هذا قضاء وقدر قال : كذبت لعمر الله ما هذا قضاء ولا قدر فبعث إليه هشام فصلبه
والثالث : لأن الحرورية جردوا السيوف على عباد الله وهو غاية الفساد في الأرض وذلك كثير من أهل البدع شائع وسائرهم يفسدون بوجوه من إيقاع العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام
وهذه الأوصاف الثلاثة تقتضيها الفرقة التي نبه عليها الكتاب والسنة كقوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } وقوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } وأشباه ذلك
وفي الحديث : إن الأمة تتفرق على بضع وسبعين فرقة
وهذا التفسير في الرواية الأولى لمصعب بن سعد أيضا فقد وافق أباه على المعنى المذكور
ثم فسر سعد بن أبي وقاص في رواية سعيد بن منصور : أن ذلك بسبب الزيغ الحاصل فيهم : وذلك قوله تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } وهو راجع إلى آية أل عمران في قوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } الآية فإنه أدخل رضي الله عنه الحرورية في الآيتين بالمعنى وهو الزيغ في إحداهما والأوصاف المذكورة في الأخرى لأنها فيهم موجودة فآية الرعد تشمل بلفظها لأن اللفظ فيها يقتضي العموم لغة وإن حملناها على الكفار خصوصا فهي تعطي أيضا فيهم حكما من جهة ترتيب الجزاء على الأوصاف المذكورة حسبما هو مبين في الأصول وكذلك آية الصف لأنها خاصة بقوم موسى عليه السلام ومن هنا كان شبعة يسميهم الفاسقين ـ أعني الحرورية ـ لأن معنى الآية واقع عليهم وقد جاء فيها : { والله لا يهدي القوم الفاسقين } والزيغ أيضا كان موجودا فيهم فدخلوا في معنى قوله : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } ومن هنا يفهم أنها لا تختص من أهل البدعة بالحرورية بل تعم كل من اتصف بتلك الأوصاف التي أصلها الزيغ وهو الميل عن الحق ابتاعا للهوى وإنما فسرها سعد رضي الله عنه بالحرورية لأنه إنما سئل عنهم على الخصوص والله أعلم لأنهم أول من ابتدع في دين الله فلا يقتضي ذلك تخصيصا
وأما المسؤال عنها أولا وهي آية الكهف فإن سعدا نفى أن تشمل الحرورية
وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسر الأخسرين أعمالا بالحرورية أيضا فروى عبد بن حميد عن ابن الطفيل قال : قام ابن الكواء إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ! من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ؟ قال : منهم أهل حروراء وهو أيضا منقول في تفسير سفيان الثوري وفي جامع ابن وهب أنه سأله عن الآية فقال له : ارق إلي أخبرك ـ وكان على المنبر ـ فرقى إليه درجتين فتناوله بعصا كانت في يده فجعل يضربه بها ثم قال له علي : أنت وأصحابك وخرج عبد بن حميد أيضا عن محمد بن جبير بن مطعم قال : أخبرني رجل من بني أود أن عليا خطب الناس بالعراق وهو يسمع فصاح به ابن الكواء من أقصى المسجد فقال : يا أمير المؤمنين ! من الأخسرين أعمالا ؟ قال : أنت فقتل ابن الكواء يوم الخوارج ونقل بعض أهل التفسير أن ابن الكواء سأله فقال : أنتم أهل حروراء وأهل الرياء والذين يحبطون الصنيعة بالمنة فالرواية الأولى تدل على أن أهل حروراء بعض من شملته الآية
ولما قال سبحانه في وصفهم : { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا } وصفهم بالضلال مع ظن الاهتداء دل على أنهم المبتدعون في أعمالهم عموما كانوا من أهل الكتاب أولا من حيث قال النبي : [ كل بدعة ضلالة ] وسيأتي شرح ذلك بعون الله فقد يجتمع التفسيران في الآية : تفسير سعد بأنهم اليهود والنصارى وتفسير علي بأنهم أهل البدعة لأنهم قد اتفقوا على الابتداع ولذلك فسر كفر النصارى بأنهم تأولوا في الجنة غير ما هي عليه وهو التأويل بالرأي فاجتمعت الآيات الثلاث على ذم البدعة وأشعر كلام سعد ين أبي وقاص بأن كل آية اقتضت وصفا من أوصاف المبتدعة فهم مقصدون بما فيها من الذم والخزي وسوء الجزاء إما بعموم اللفظ وإما بمعنى الوصف
وروى ابن وهب [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بكتاب في كتف فقال :
كفى بقوم حمقا ـ أو قال ضلالا ـ أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى غير نبيهم أو كتاب إلى غير كتابهم فنزلت : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } ]
وخرج عبد الحميد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ من رغب عن سنتي فليس مني ثم تلا هذه الآية : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } إلى آخر الآية ]
وخرج هو وغيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قول الله : { علمت نفس ما قدمت وأخرت } قال : ما قدمت من عمل خيرأو شر وما أخرت من سنة يعمل بها من بعده وهذا التفسير قد يحتاج إلى تفسير فروي عن عبد الله قال : ما قدمت من خير وما أخرت من سنة صالحة يعمل بها من بعدها فغن له مثل أجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وما أخرت من سنة سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا : أخرجه ابن مبارك وغيره
وجاء عن سفيان بن عيينة و أبي قلابة وغيرهما أنهم قالوا : كل صاحب بدعة أو فرية ذليل واستدلوا بقول الله تعالى : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين }
وخرج ابن وهب عن مجاهد في قول الله : { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم } يقول : ما قدموا من خير وآثارهم التي أورثوا الناس بعدهم من الضلالة
وخرج أيضا عن ابن عون عن محمد بن سيرين أنه قال : إني أرى أسرع الناس ردة أصحاب الأهواء : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره }
وذكر الآجري عن أبي الجوزاء أنه ذكر أصحاب الأهواء فقال : والذي نفس أبي الجوزاء بيده لأن تمتلىء داري قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني رجل منهم ولقد دخلوا في هذه الآية : { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله } إلى قوله : { إن الله عليم بذات الصدور }
والآيات المصرحة والمشيرة إلى ذمهم والنهي عن ملابسة أحوالهم كثيرة فلنقتصر على ما ذكرنا ففيه ـ إن شاء الله ـ الموعظة لمن اتعظ والشفاء لما في الصدور
فصل الوجه الثاني من النقل ما جاء في الأحاديث المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهي كثيرة تكاد تفوت الحصر إلا أنا نذكر منها ما تيسر مما يدل على الباقي ونتحرى في ذلك ـ بحول الله ـ ما هو أقرب إلى الصحة
فمن ذلك ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ] وفي رواية ل مسلم : [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] وهذا الحديث عده العلماء ثلث الإسلام لأنه جمع وجه المخالفة لأمره عليه السلام ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية
وخرج مسلم عن جابر بن عبد الله [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول في خطبته :
أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ]
وفي رواية قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول : من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وخير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة ]
وفي رواية لل نسائي [ وكل محدثة بدعة وكل بدعة في النار ]
وذكر أن عمر رضي الله عنه كان يخطب بهذه الخطبة وعن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا : أنه كان يقول :
إنما هما اثنتان ـ الكلام والهدى ـ فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدى هدى محمد ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها إن كل محدثة بدعة وفي لفظ غير أنكم ستحدثون ويحدث لكم فكل محدثة ضلالة وكل ضلالة في النار كان ابن مسعود يخطب بهذا كل خميس
وفي رواية أخرى عنه : إنما هما اثنتان ـ الهدى والكلام ـ فأفضل الكلام ـ أو أصدق الكلام ـ كلام الله وأحسن الهدى هدى الله بل محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة ألا لا يتطاولن عليكم الأمر فتقسوا قلوبكم ولا يلهينكم الأمل فإن كل ما هو آت قريب ألا إن بعيدا ما ليس آتيا
وفي رواية أخرى عنه : أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها و { إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين }
وروى ابن ماجة مرفوعا عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها وإن كل محدثة بدعة وإن كل بدعة ضلالة ] والمشهور أنه موقوف على ابن مسعود
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا ]
وفي الصحيح أيضا عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال :
[ من سن سنة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من أتبعه غير منقوص من أجورهم شيء ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيء ] خرجه الترمذي
وروى الترمذي أيضا وصححه وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية قال :
[ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل : يا رسول الله ؟ كأن هذا موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة لولاة الأمر وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعيش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل ضلالة ] وروى على وجوه من طرق
وفي الصحيح [ عن حذيفة أنه قال : يا رسول الله ! هل بعد هذا الخير شر ؟ قال : نعم قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هديي قال فقلت : هل بعد ذلك الشر من شر ؟ قال : نعم دعاة على نار جهنم من أجابهم قذفوه فيها قلت : يا رسول الله صفهم لنا قال نعم هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت : فما تأمرني إن أدركت ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت : فإن لم يكن إمام ولا جماعة ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدرك الموت وأنت على ذلك ] وخرجه البخاري على نحو آخر
وفي حديث الصحيفة :
[ المدينة حرم ما بين عير إلى ثور من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ] وهذا الحديث في سياق العموم فيشمل كل حدث أحدث فيها مما ينافي الشرع والبدع من أقبح الحدث وقد استدل به مالك في مسألة تأتي في موضعها بحول الله وهو وإن كان مختصا بالمدينة فغيرها أيضا يدخل في المعنى
وفي الموطأ من حديث أبي هريرة :
[ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى المقبرة : فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ] الحديث ـ إلى أن قال فيه [ فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم ! ألا هلم ! فيقال : أنهم قد بدلوا بعدك فأقول : فسحقا ! فسحقا ! فسحقا ] حمله جماعة من العلماء على أنهم أهل البدع وحمله آخرون على المرتدين عن الاسلام والذي يدل على الأول ما خرجه خثيمة بن سليمان عن يزيد الرقاشي قال : سألت أنس بن مالك فقلت : إن ها هنا قوما يشهدون علينا بالكفر والشرك ويكذبون بالحوض والشفاعة فهل سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك شيئا ؟ قال : نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
[ بين العبد والكفر ـ أو الشرك ـ ترك الصلاة فإذا تركها فقد أشرك وحوضي كما بين أيلة إلى مكة أباريقه كنجوم السماء ـ أو قال : كعدد نجوم السماء ـ له ميزابان من الجنة كلما نضب أمداه من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا وسيرده أقوام ذابلة شفاههم فلا يطعمون منه قطرة واحدة من كذب به اليوم لم يصب منه الشراب يومئذ ] فهذا الحديث على أنهم من أهل القبلة فنسبتهم أهل الإسلام إلى الكفر من أوصاف الخوارج والتكذيب بالحوض من أوصاف أهل الاعتزال وغيرهم مع ما في حديث الموطأ من قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا هلم ] لأنه عرفهم بالغرة والتحجيل الذي جعله من خصائص أمته وإلا فلو لم يكونوا من الأمة لم يعرفهم بالعلامة المذكورة
وصح من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال :
[ قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالموعظة فقال : إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا { كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين } قال ـ أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ـ وإنه يستدعى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول كما قال العبد الصالح : { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فيقال هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ]
ويحتمل هذا الحديث أن يراد به أهل البدع كحديث الموطأ ويحتمل أن يراد به من ارتد بعد النبي صلى الله عليه و سلم
وفي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ] حسن صحيح
وفي الحديث روايات أخرى سيأتي ذكرها والكلام عليها إن شاء الله ولكن الفرق فيها عند أكثر العلماء فرق أهل البدع وفي الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم قال :
[ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ] وهو آت على وجوه كثيرة في البخاري وغيره
وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :
[ من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله عز و جل شرع لنبيكم صلى الله عليه و سلم سنن الهدى وأنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه و سلم لضللتم ] الحديث
فتأملوا كيف جعل ترك السنة ضلالة ! وفي رواية :
[ لو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه و سلم لكفرتم ] وهو أشد في التحذير
وفيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ إني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ـ وفي رواية فيه الهدى ـ من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل وفي رواية : من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة ]
ومما جاء في هذا الباب أيضا ما خرج ابن وضاح ونحوه لابن وهب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ سيكون في أمتي دجالون كذابون يأتونكم ببدع من الحديث لم تسمعوه أنتم ولا آباؤهم فإياكم إياهم لا يفتنونكم ]
وفي الترمذي أنه عليه الصلاة و السلام قال :
[ من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل أجر من عمل بها من غير أن يتقص ذلك من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا ] حديث حسن
ولابن وضاح وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها :
[ من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الاسلام ]
وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ إن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة فلا تحدث في دين الله حدثا برأيك ]
وعنه عليه الصلاة و السلام أنه قال :
[ من اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني ]
وخرج الطحاوي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ ستة ألعنهم لعنهم الله وكل نبي مجاب : الزائد في دين الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت يذل به من أعز الله ويعز به من أذل الله والتارك لسنتي والمستحل لحرم الله والمستحل من عترتي ما حرم الله ]
وفي رواية أبي بكر بن ثابت الخطيب : [ ستة لعنهم الله ولعنتهم ] وفيه : [ والراغب عن سنتي إلى بدع ]
وفي الطحاوي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ إن لكل عابد شرة ولكل شرة فترة فإما إلى سنة وإما إلى بدعة ـ فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك ]
وفي معجم البغوي عن مجاهد قال : دخلت أنا وأبو يحيى بن جعدة على رجل من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ذكروا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم مولاة لبني عبد المطلب فقالوا : إنها قامت الليل وصامت النهار فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
لكني أنام وأصلي وأصوم وأفطر فمن اقتدى بي فهو مني ومن رغب عن سنتي فليس مني إن لكل عامل شرة ثم فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ]
وعن أبي وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي وإمام ضلالة وممثل من المسلمين ]
وفي منتقى حديث خثيمة عن سليمان عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فيحدثون البدعة قال عبد الله بن مسعود : فكيف أصنع إذا أدركتهم ؟ قال : تسألني يا ابن أم عبد الله كيف تصنع ؟ لا طاعة لمن عصى الله ]
وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ من أكل طيبا وعمل في سنة وأمن الناس بوائقة دخل الجنة فقال رجل : يا رسول الله إن هذا اليوم في الناس لكثير قال : وسيكون في قرون بعدي ] حديث غريب
وفي كتاب الطحاوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ كيف بكم وبزمان ـ أو قال : يوشك أن يأتي زمان ـ يغربل الناس فيه غربلة وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم اختلفوا فصارت هكذا ـ وشبك بين أصابعه ـ قالوا : وكيف بنا يا رسول الله ؟ قال : تأخذون بما تعرفون وتذرون ما تنكرون وتقبلون على أمر خاصتكم ـ وتذرون أمر عامتكم ]
وخرج ابن وهب مرسلا [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إياكم والشعاب قالوا : وما الشعاب يا رسول الله ؟ قال الأهواء ]
وخرج أيضا :
[ إن الله ليدخل العبد الجنة بالسنة يتمسك بها ] وفي كتاب السنة للآجري من طريق الوليد بن مسلم عن معاذ بن جبل قال : قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ إذا حدث في أمتي البدع وشتم أصحابي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ]
قال عبد الله بن الحسن : فقلت للوليد بن مسلم : ما إظهار العلم ؟ قال : إظهار السنة والأحاديث كثيرة
وليعلم الموفق أن بعض ما ذكر من الأحاديث يقصر عن رتبة الصحيح وإنما أتى بها عملا بما أصله المحدثون في أحاديث الترغيب والترهيب وإذ قد ثبت ذم البدع وأهلها بالدليل القاطع القرآني والدليل السني الصحيح فما زيد من غيره فلا حرج في الإتيان به إن شاء الله
فصل الوجه الثالث من النقل ما جاء عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في ذم البدع وأهلها وهو كثير
فما جاء عن الصحابة ما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال : أيها الناس ! قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا وصفق بإحدى يديه على الأخرى ثم قال : إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم ـ أن يقول قائل : لا نجد حدين في كتاب الله فقد رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجمنا ـ إلى آخر الحديث
وفي الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا يعيدا ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا
وروى عنه من طريق آخر أنه كان يدخل المسجد فيقف على الخلق فيقول : يا معشر القراء اسلكوا الطريق فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا وفي رواية ابن المبارك : فو الله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا الحديث
وعنه أيضا : أخوف ما أخاف على الناس اثنتان : أن يؤثروا ما يرون على ما يعملون وأن يضلوا وهم لا يشعرون قال سفيان : وهو صاحب البدعة
وعنه أيضا : أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه : هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور ؟ قالوا : يا أبا عبد الله ما نرى بينهما من النور إلا قليلا قال : والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا : تركت السنة
وعنه أنه قال : أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة وليطئن نساءكم وهن حيض ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل لا تخطئون طريقهم ولا تخطىء بكم وحتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس ؟ لقد ضل من كان قبلنا إنما قال الله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } لا تصلون إلا ثلاثا
وتقول الأخرى : إنما المؤمنون بالله كإيمان الملائكة ما فيها كافر ولا منافق حق على الله أن يحشرهما مع الدجال
وهذا المعنى موافق لما ثبت من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ] فإن السنة جاءت مفسرة للكتاب فمن أخذ بالكتاب من غير معرفة بالسنة زل عن الكتاب كما زل عن السنة
فلذلك يقول القائل : لقد ضل من كان قبلنا إلى آخره
وهذه الآثار عن حذيفة من تخريج ابن وضاح
وخرج أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : اتبعوا آثارنا ولا تبتدعوا فقد كفيتم
وخرج عنه ابن وهب أيضا انه قال : عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه بذهاب أهله عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إلى ما عنده وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم بالعتيق
وعنه أيضا : ليس عام إلا والذي بعده شر منه لا أقول : عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب علمائكم وخياركم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم
وقال أيضا : كيف أنتم إذا ألبستم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري على الناس يحدثونها سنة وإذا غيرت قيل : هذا منكر
وقال أيضا : أيها الناس ! لا تبتدعوا ولا تنطوا ولا تعمقوا وعليكم بالعتيق خذوا ما تعرفون ودعوا ما تنكرون
وعنه أيضا : القصد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة
وقد روي معناه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم :
[ عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة ]
وعنه أيضا خرجه قاسم بن أصبغ أنه قال : [ أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام ضال يضل الناس بغير ما أنزل الله ومصور ورجل قتل نبيا أو قتله نبي ]
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعمل به إلا عملت به إني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ
خرج ابن المبارك عن عمر بن الخطاب : أن يزيد بن أبي سفيان يأكل ألوان الطعام فقال عمر لمولى له ـ يقال له يرفأ ـ إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه فأعلمني فلما حضر عشاؤه أعلمه فأتاه عمر فسلم عليه فاستأذن فأذن له فدخل فقرب عشاؤه فجاء بثريد لحم فأكل عمر معه منها ثم قرب شواء فبسط يزيد يده وكف عمر يده ثم قال : والله يا يزيد بن أبي سفيان أطعام بعد طعام ؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم
وعن ابن عمر : صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر
وخرج الآجري عن السائب بن يزيد قال : أتى عمر بن الخطاب فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلا يسأل عن تأويل القرآن فقال : اللهم أمكني منه قال : فبينما عمر ذات يوم يغدي الناس إذ جاءه عليه ثياب وعمامة فتغدى حتى إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين { والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا } فقال عمر : أنت هو ؟ فقام غليه محسرا عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته فقال : والذي نفسي بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلاده ثم ليقم خطيبا ثم ليقل : إن صبيغا طلب العلم فأخطأ فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك وكان سيد قومه
وخرج ابن المبارك وغيره عن أبي بن كعب أنه قال : عليكم بالسبيل والسنة فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله فيعذبه الله أبدا وما على الأرض من عبد على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إلا حط الله عنه خطاياه كما تحات عن الشجرة ورقها فإن اقتصادا في سبيل الله وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل الله وسنة وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا واقتصادا أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم
وخرج ابن وضاح عن ابن عباس قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن
وعنه أنه قال : عليكم بالاستفاضة والأثر وإياكم والبدع
وخرج ابن وهب عنه أيضا قال : من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز و جل
وخرج أبو داود وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال يوما : إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيه القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر فيوشك قائل أن يقول ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق
قال الراوي : قلت لمعاذ : وما يدريني يرحمك الله إن الحكيم قد يقول كلمة ضلالة وإن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : بلى ! اجتنب من كلام الحكيم غير المشتهرات التي يقال فيها : ما هذه ؟ ولا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا
وفي رواية مكان المشتهرات المشتبهات وفسر بأنه ما تشابه عليك من قول حتى يقال : ما أراد بهذه الكلمة ؟ ويريد ـ والله أعلم ـ ما لم يشتمل ظاهره على مقتضى السنة حتى تنكره القلوب ويقول الناس : ما هذه ؟ وذلك راجع إلى ما يحذر من زلة العالم حسبما يأتي بحول الله
ومما جاء عمن بعد الصحابة رضي الله عنهم ما ذكر ابن وضاح عن الحسن قال : صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعدا
وخرج ابن وهب عن أبي إدريس الخولاني أنه قال : لأن أرى في المسجد نارا لا أستطيع إطفاءها أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا أستطيع تغييرها
وعن الفضيل بن عياض : اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين
وعن الحسن : لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك ما تتبعه عليه فتهلك أو تخالفه فيمرض قلبك
وعنه أيضا في قول الله تعالى : { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } قال : كتب الله صيام رمضان على أهل الإسلام كما كتبه على من كان قبلهم فأما اليهود فرفضوه وأما النصارى فشق عليهم فزادوا فيه عشرا وآخروه إلى أخف ما يكون عليهم فيه الصوم من الأزمنة فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث قال : عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة
وعن أبي قلابة : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون قال أيوب : وكان ـ والله ـ من الفقهاء ذوي الألباب
وعنه أيضا : أنه كان يقول : إن أهل الأهواء أهل ضلالة ولا أرى مصيرهم إلا إلى النار
وعن الحسن : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك
وعن أيوب السخياني أنه كان يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا
وعن أبي قلابة : ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف
وكان أيوب يسمي أصحاب البدع خوارج ويقول : إن الخوارج اختلفوا في الإسم واجتمعوا على السيف
وخرج ابن وهب عن سفيان قال : كان رجل فقيه يقول : ما أحب أني هديت الناس كلهم وأضللت رجلا واحدا
وخرج عنه أنه كان يقول : لا يستقيم قول إلا بعمل ولا قول وعمل إلا بنية ولا قول ولا عمل ولا نية إلا موافقا للسنة
وذكر الآجري أن ابن سيرين كان يرى أسرع الناس ردة أهل الأهواء
وعن إبراهيم : ولا تكلموهم إني أخاف أن ترتد قلوبكم
وعن هشام بن حسان قال : لا يقبل الله من صاحب بدعة صياما ولا صلاة ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا ـ زاد ابن وهب عنه ـ وليأتين على الناس زمان يشتبه فيه الحق والباطل فإذا كان ذلك لم ينفع فيه دعاء إلا كدعاء الغرق
وعن يحيى بن أبي كثير قال : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر
وعن بعض السلف : من جالس صاحب بدعة فزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه
وعن العوام بن حوشب أنه كان يقول لابنه : يا عيسى أصلح قلبك وأقلل مالك وكان يقول : والله لأن أرى عيسى في مجالس أصحاب البرابط والأشربة والباطل أحب إلي من أن أراه يجالس أصحاب الخصومات
قال ابن وضاح : يعني أهل البدع
وقال رجال لـ أبي بكر بن عياش : يا أبا بكر من السني ؟ قال : الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها
وقال يونس بن عبيد : إن الذي تعرض عليه السنة فيقبلها الغريب وأغرب منه صاحبها
وعن يحيى بن أبي عمر الشيباني قال : كان يقال يأبى لصاحب بدعة بتوبة وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى شر منها
وعن أبي العالية : تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ولا تحرفوا يمينا ولا شمالا وعليكم بسنة نبيكم وما كان عليه أصحابه من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء فحدث الحسن بذلك فقال : رحمه الله صدق ونصح
خرجه ابن وضاح وغيره
وكان مالك كثيرا ما ينشد :
( وخيرأمور الدين ما كان سنة ... وشر الأمور المحدثات البدائع )
وعن مقاتل بن حيان قال : أهل هذه الأهواء آفة أمة محمد صلى الله عليه و سلم أنهم يذكرون النبي صلى الله عليه و سلم وأهل بيته فيتصيدون بهذا الذكر الحسن عند الجهال من الناس فيقذفون بهم في المهالك فما أشبههم بمن يسقي الصبر باسم العسل ومن يسقي السهم القاتل باسم الترياق ! فأبصرهم فإنك إن لا تكن أصبحت في بحر الماء فقد أصبحت في بحر الأهواء الذي هو أعمق غورا وأشد اضطرابا وأكثر صواعق وأبعد مذهبا من البحر وما فيه ففلك مطيتك التي تقطع بها سفر الضلال اتباع السنة
وعن ابن المبارك قال : أعلم أي أخي ! إن الموت كرامة لكل مسلم لقي الله على السنة فإنا لله وإنا إليه راجعون فإلى الله نشكو وحشتنا وذهاب الإخوان وقلة الأعوان وظهور البدع وإلى الله نشكو عظيم ما حل بهذه الأمة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع
وكان إبراهيم التيمي يقول : اللهم اعصمني بدينك وبسنة نبيك من الاختلاف في الحق ومن اتباع الهوى ومن سبل الضلالة ومن شبهات الأمور ومن الزيغ والخصومات
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يكتب في كتبه : إني أحذركم ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيدة
ولما بايعه الناس صعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إنه ليس بعد نبيكم نبي ولا بعد كتابكم كتاب ولا بعد سنتكم سنة ولا بعد أمتكم أمة ألا وإن الحلال ما أحل الله في كتابه على لسان نبيه حلال إلى يوم القيامة ألا وإن الحرام ما حرم الله في كتابه على لسان نبيه حرام إلى يوم القيامة ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع ألا وإني لست بقاض ولكني منفذ ألا وإني لست بخازن ولكني أضع حيث أمرت ألا وإني لست بخيركم ولكني أثقلكم حملا ألا ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ثم نزل
وفيه : قال عروة بن أذينة عن أذينة يرثيه بها :
( وأحييت في الإسلام علما وسنة ... ولم تبتدع حكما من الحكم أسحما )
( ففي كل يوم كنت تهدم بدعة ... وتبني لنا من سنة ما تهدما )
ومن كلامه الذي عني به ويحفظه العلماء وكان يعجب مالكا جدا وهو أن قال : سن رسول الله صلى الله عليه و سلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفه من عمل بها مهتد ومن انتصر بها منصور ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى واصلاه جهنم وساءت مصيرا
وبحق وكان يعجبهم فإنه كلام مختصر جمع أصولا حسنة من السنة : منها ما نحن فيه لأن قوله : ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها قطع لمادة الابتداع جملة وقوله : من عمل بها مهتد ـ إلى آخر الكلام ـ مدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها بالدليل الدال على ذلك وهو قول الله سبحانه وتعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } ومنها ما سنه ولاة الأمر من بعد النبي صلى الله عليه و سلم فهو سنة لا بدعة فيه البتة وإن لم يعلم في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه و سلم نص عليه على الخصوص فقد جاء ما يدل عليه في الجملة وذلك نص حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه حيث قال فيه : [ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين والمهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ] فقرن عليه السلام ـ كما ترى ـ سنة الخلفاء الراشدين بسنته وإن من اتباع سنته اتباع سنتهم وإن المحدثات خلاف ذلك ليست منها في شيء لأنهم رضي الله عنهم فيما سنوه إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلام نفسها وإما متبعون لما فهموا من سنته صلى الله عليه و سلم في الجملة والتفصيل على وجه يخفى على غيرهم مثله لا زائد على ذلك وسيأتي بيانه بحول الله
على أن أبا عبد الله الحاكم نقل عن يحيى بن آدم قول السلف الصالح : سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن المعنى فيه أن يعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم مات وهو على تلك السنة وأنه لا يحتاج مع قول النبي صلى الله عليه و سلم إلى قول أحد وما قال صحيح في نفسه فهو مما يحتمله حديث العرباض رضي الله عنه فلا زائد إذا على ما ثبت في السنة النبوية إلا أنه قد يخاف أن تكون منسوخة بسنة أخرى فافتقر العلماء إلى النظر في عمل الخلفاء بعده لعلموا أن ذلك هو الذي مات عليه النبي صلى الله عليه و سلم من غير أن يكون له ناسخ لأنهم كانوا يأخذون بالأحداث فالأحداث من أمره وعلى هذا المعنى بنى مالك بن أنس في احتجاجه بالعمل ورجوعه إليه عند تعارض السنن
ومن الأصول المضمنة في أثر عمر بن عبد العزيز أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم لقوله : الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله وهو أصل مقرر في غير هذا الموضع فقد جمع كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله أصولا حسنة وفوائد مهمة
ومما يعزى ل أبي إلياس الألباني : ثلاث لو كتبن في ظفر لوسعهن وفيهن خير الدنيا والآخرة اتبع لا تبتدع اتضع لا ترتفع ومن ورع لا يتسع ولآثار هنا كثيرة
فصل الوجه الرابع من النقل ما جاء في ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر وإن كان فيما تقدم من النقل كفاية لأن كثيرا من الجهال يعتقدون فيهم أنهم متساهلون في الاتباع وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به فأول شيء بنوا عليه طريقتهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها حتى زعم مذكرهم وحافظ مأخذهم وعمود نحلتهم ( أبو القاسم القشيري ) أنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع فذكر أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم باسم علم سوى الصحبة إذ لا فضيلة فوقها ثم سمي من يليهم التابعين ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين ثم اختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية من الدين الزهاد والعباد قال : ثم ظهرت البدع وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف هذا معنى كلامه فقد عد هذا اللقب مخصوصا باتباع السنة ومباينة البدعة وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم
وفي غرضي إن فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب أن ألخص في طريقة القوم نموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها ؟ وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد صلى الله عليه و سلم وأعظم من ذلك أنهم يتساهلون في اتباع السنة ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا وطربقة القوم بريئة من هذا الخباط بحمد الله
فقد قال الفضيل بن عياض : من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة
وقيل ل إبراهيم بن أدهم : إن الله يقول في كتابه { ادعوني أستجب لكم } ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا ! فقال : ماتت قلوبكم في عشرة أشياء أولها عرفتم الله فلم تؤدوا حقه والثاني : قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به والثالث : ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه و سلم وتركتم سنته والرابع : ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه والخامس : قلتم نحب الجنة وما تعملون لها إلى آخر الحكاية
وقال ذو النون المصري : من علامة حب الله متابعة حبيب الله صلى الله عليه و سلم في أخلاقه وأفعاله وأمره وسنته
وقال : إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء الأول : ضعف النية بعمل الآخرة والثاني : صارت أبدانهم مهيئة لشهواتهم والثالث : غلبهم طول الأمل مع قصر الأجل والرابع : آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله والخامس : اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم صلى الله عليه و سلم والسادس : جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم
وقال لرجل أوصاه : ليكن آثر الأشياء عندك وأحبها إليك أحكام ما افترض الله عليك واتقاء ما نهاك عنه فإن ما تعبدك الله به خير لك مما تختاره لنفسك من أعمال البر التي تجب عليك وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد كالذي يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك وإنما للعبد أن يراعي أبدا ما وجب عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده وينظر إلى ما نهي عنه فيتقيه على أحكام ما ينغبي فإن الذي قطع العباد عن ربهم وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان وأن يبلغوا حقائق الصدق وحجب قلوبهم عن النظر إلى الآخرة تهاونهم بأحكام ما فرض عليهم في قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وألسنتهم وايديهم وأرجلهم وبطونهم وفروجهم ولو وقفوا على هذه الأشياء وأحكموها لأدخل عليهم البر إدخالا تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما رزقهم الله من حسن معونته وفوائد كرامته ولكن أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب وتهانوا بالقليل مما هم فيه من العيوب فحرموا ثواب لذة الصادقين في العاجل
وقال بشر الحافي : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في المنام فقال لي : يا بشر ! تدري لم رفعك الله بين أقرانك ؟ قلت : لا يا رسول الله قال : لاتباعك سنتي وحرمتك للصالحين ونصيحتك لإخوانك ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي هو الذي بلغك منازل الأبرار
وقال يحيى بن معاذ الرازي : اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول فلكل واحد منها ضد فمن سقط عنه وقع في ضده : التوحيد وضده الشرك والسنة وضدها البدعة والطاعة وضدها المعصية
وقال أبو بكر الدقاق وكان من أقران الجنيد : كنت مارا في تيه بني إسرائيل فخطر ببالي أن علم الحقيقة مباين لعلم الشريعة فهتف بي هاتف : كل حقيقة لا تتبعها الشريعة فهي كفر
وقال أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني : من علامات السعادة على العبد تيسير الطاعة عليه وموافقة السنة في أفعاله وصحبته لأهل الصلاح وحسن أخلاقه مع الإخوان وبذل معروفه للخلق واهتمامه للمسلمين ومراعاته لأوقاته
وسئل كيف الطريق إلى الله ؟ فقال : الطرق إلى الله كثيرة وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه اتباع قولا وفعلا وعزما وعقدا ونية لأن الله يقول : { وإن تطيعوه تهتدوا } فقيل له : كيف الطريق إلى السنة ؟ فقال : مجانية البدع واتباع ما أجمع عليه الصدر الأول من علماء الإسلام والتباعد عن مجالس الكلام وأهله ولزوم طريقة الاقتداء وبذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقوله تعالى : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم }
وقال أبو بكر الترمذي : لم يجد أحد تمام الهمة بأوصافها إلا أهل المحبة وإنما أخذوا ذلك باتباع السنة ومجانية البدعة فإن محمد صلى الله عليه و سلم كان أعلى الخلق كلهم همة وأقربهم زلفى
وقال أبو الحسن الوراق : لا يصل العبد إلى الله إلا بالله وبموافقة حبيبه صلى الله عليه و سلم في شرائعه ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء يضل من حيث أنه مهتد وقال : الصدق استقامة الطريق في الدين واتباع السنة في الشرع وقال : علامة محبة الله متابعة حبيبه صلى الله عليه و سلم
ومثله عن إبراهيم القمار قال : علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه
وقال أبو محمد بن عبد الوهاب الثقفي : لا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان صوابا ومن صوابها إلا ما كان خالصا ومن خالصها إلا ما وافق السنة
و إبراهيم بن شيبان القرميسيني صحب أبا عبد الله المغربي وإبراهيم الخواص وكان شديدا على أهل البدع متمسكا بالكتاب والسنة لازما لطريق المشايخ والأئمة حتى قال فيه عبد الله بن منازل : إبراهيم بن شيبان حجة الله على الفقراء وأهل الآداب والمعاملات
وقال أبو بكر بن سعدان وهو من أصحاب الجنيد وغيره : الاعتصام بالله هو الامتناع من الغفلة والمعاصي والبدع والضلالات
وقال أبو عمر الزجاجي وهو من أصحاب الجنيد و الثوري وغيرهما : كان الناس في الجاهلية يتبعون ما تستحسنه عقولهم وطبائعهم فجاء النبي صلى الله عليه و سلم فردهم إلى الشريعة والاتباع فالعقل الصحيح الذي يستحسن ما يستحسنه الشرع ويستقبح ما يستقبحه
وقيل لإسماعيل بن محمد السلمي جد أبي عبد الرحمن السلمي ولقي الجنيد وغيره : ما الذي لا بد للعبد منه ؟ فقال : ملازمة العبودية على السنة ودوام المراقبة
وقال أبو عثمان المغربي التونسي : هي الوقوف مع الحدود لا يقصر فيها ولا يتعداها قال الله تعالى : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه }
وقال أبو يزيد البسطامي : عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئا أشد من العلم ومتابعته ولولا اختلاف العلماء لشقيت واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد التوحيد ومتابعة العلم هي متابعة السنة لا غيرها
وروي عنه أنه قال : قم بنا ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية ـ كان رجلا مقصودا مشهورا بالزهد ـ قال الرواي : فمضينا فلما خرج من نبيه ودخل المسجد رمى ببصاقة تجاه القبلة فانصرف أبو يزيد ولم يسلم عليه وقال : هذا غير مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه و سلم فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه ؟
وهذا أصل أصله أبو يزيد رحمه الله للقوم : وهو أن الولاية لا تحصل لتارك السنة وإن كان ذلك جهلا منه فما ظنك به إذا كان عاملا بالبدعة كفاحا ؟
وقال : هممت أن أسأل الله أن يكفيني مؤنة الأكل ومؤنة النساء ثم قلت : كيف يجوز أن أسأل الله هذا ؟ ولم يسأله رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم أسأله ؟ ثم إن الله سبحانه كفاني مؤنة النساء حتى لا أبالي استقبلتني امرأة أم حائط
وقال : لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتقي في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وآداب الشريعة
وقال سهل التستري : كل فعل يفعله العبد بالاقتداء : طاعة كان أو معصية فهو عيش النفس ـ يعني باتباع الهوى ـ وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء فهو عتاب على النفس ـ يعني لأنه لا هوى له فيه ـ واتباع الهوى هو المذموم ومقصود القوم تركه البتة
وقال : أصولنا سبعة أشياء التمسك بكتاب الله والاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وأكل الحلال وكف الأذى واجتناب الآثام والتوبة وأداء الحقوق وقال : قد أيس الخلق من هذه الخصال الثلاث : ملازمة التوبة ومتابعة السنة وترك أذى الخلق وسئل عن الفتوة فقال : اتباع السنة
وقال أبو سليمان الداراني : ربما تقع في قلبي النكتة من نكتة القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين ـ الكتاب والسنة
وقال أحمد بن أبي الحواري : من عمل عملا بلا اتباع سنة فباطل عمله
وقال أبو حفص الحداد : من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال وسئل عن البدعة فقال : التعدي في الأحكام والتهاون في السنن واتباع الآراء والأهواء وترك الاتباع والاقتداء قال : وما ظهرت حالة عالية إلا من ملازمة أمر صحيح
وسئل حمدون القصار : متى يجوز للرجل أن يتكلم على الناس ؟ فقال : إذا تعين عليه أداء فرض من فرائض الله في عمله أو خاف هلاك إنسان في بدعة يرجو أن ينجيه الله منها
وقال : من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال
وهذه ـ والله أعلم ـ إشارة إلى المثابرة على الاقتداء بهم فإنهم أهل السنة
وقال أبو القاسم الجنيد لرجل ذكر المعرفة وقال : أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله فقال الجنيد : إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الله تعالى وإليه يرجعون فيها قال : ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها
وقال : الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه و سلم
وقال : مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة
وقال : من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة وقال : هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقال أبو عثمان الجبري : الصحبة مع الله تعالى بحسن الأدب ودوام الهيبة والمراقبة والصحبة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم باتباع سنته ولزوم ظاهر العلم والصحبة مع أولياء الله بالاحترام والخدمة إلى آخر ما قال
ولما تغير عليه الحال مزق ابنه أبو بكر قميصا على نفسه ففتح أبو عثمان عينيه وقال خلاف السنة يا بني في
الظاهر علامة رياء في الباطن
وقال : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة قال الله تعالى : { وإن تطيعوه تهتدوا }
قال أبو الحسين النوري : من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربن منه
وقال محمد بن الفضل البلخي : ذهاب الإسلام من أربعة : لا يعملون بما يعلمون ويعملون بما لا يعلمون ولا يتعلمون ويمنعون الناس من التعلم
هذا ما قال وهو وصف صوفيتنا اليوم عياذا بالله
وقال : أعرفهم بالله أشدهم مجاهدة في أوامره وأتبعهم لسنة نبيه
وقال شاة الكرماني : من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشبهات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة وعود نفسه أكل الحلال لم تخطىء له فراسه
وقال أبو سعيد الحراز : كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل
وقال أبو العباس بن عطاء وهو من أقران الجنيد : من ألزم نفسه آداب الله نور الله قلبه بنور المعرفة ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب صلى الله عليه و سلم في أوامره وأفعاله وأخلاقه
وقال أيضا : أعظم الغفلة غفلة العبد عن ربه عز و جل وغفلته عن أوامره وغفلته عن آداب معاملته
وقال إبراهيم الخواص : ليس العالم بكثرة الرواية وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم
وسئل عن العافية فقال : العافية أربعة أشياء دين بلا بدعة وعمل بلا آفة وقلب بلا شغل ونفس بلا شهوة
وقال : الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة
وقال بنان الحمال ـ وسئل عن أصل أحوال الصوفية فقال : الثقة بالمضمون والقيام بالأوامر ومراعاة السر والتخلي من الكونين
وقال أبو حمزة البغدادي : من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة سنة الرسول صلى الله عليه و سلم في أحواله وأفعاله وأقواله
وقال أبو إسحاق الرقاشي : علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه اهـ ودليله قوله تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }
وقال ممشاذ الدينوري : آداب المريد في التزام حرمات المشايخ وحرمة الإخوان والخروج عن الأسباب وحفظ آداب الشرع على نفسه
وسئل أبو علي الروزباري عمن يسمع الملاهي ويقول : هي لي حلال لأني قد وصلت إلى درجة لا يؤثر في اختلاف الأحوال فقال : نعم قد وصل ولكن إلى سقر
وقال أبو محمد عبد الله بن منازل : لم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن ولم يبتل بتضييع السنن أحد إلا يوشك أن يبتلي بالبدع
وقال أبو يعقوب النهرجوري : أفضل الأحوال ما قارن العلم
وقال أبو عمرو بن نجيد : كل حال لا يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه
وقال بندار بن الحسين : صحبة أهل البدع تورث الإعراض عن الحق
وقال أبو بكر الطمستاني : الطريق واضح والكتاب والسنة قائم بين أظهرنا وفضل الصحابة معلوم لسبقهم إلى الهجرة ولصحبتهم فمن صحب منا الكتاب والسنة وتغرب عن نفسه والخلق وهاجر بقلبه إلى الله
فهو الصادق المصيب
وقال أبو القاسم النصراباذي : أصل التصوف ملازمة الكتاب والسنة ـ وترك البدع والأهواء وتعظيم حرمات المشايخ ورؤية أعذار الخلق والمداومة على الأوراد وترك ارتكاب الرخص والتأويلات
وكلامهم في هذا الباب يطول وقد نقلنا عن جملة ممن اشتهر منهم ينيف على الأربعين شيخا جميعهم يشير أو يصرح بأن الابتداع ضلال ـ والسلوك عليه تيه واستعماله رمي في عماية وأنه مناف لطلب النجاة وصاحبه غير محفوظ وموكول إلى نفسه ومطرود عن نيل الحكمة وأن الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة مجموعون على تعظيم الشريعة مقيمون على متابعة السنة غير مخلين بشيء من آدابها أبعد الناس عن البدع وأهلها ولذلك لا نجد منهم من ينسب إلى فرق من الفرق الضالة ولا من يميل إلى خلاف السنة وأكثر من ذكر منهم علماء وفقهاء ومحدثون وممن يؤخذ عنه الدين أصولا وفروعا ومن لم يكن كذلك فلا بد من أن يكون فقهيا في دينه بمقدار كفايته
وهم كانوا أهل الحقائق والمواجد والأذواق والأحوال والأسرار التوحيدية فهم الحجة لنا على كل من ينتسب إلى طريقهم ولا يجري على منهاجهم بل يأتي ببدع محدثات وأهواء متبعات وينسبها إليهم تأويلا عليهم من قول محتمل أو فعل من قضايا الأحوال أو استمساكا بمصلحة شهد الشرع بإلغائها أو ما أشبه ذلك فكثيرا ما ترى المتأخرين ممن يتشبه بهم يرتكب من الأعمال ما أجمع الناس على فساده شرعا ويحتج بحكايات هي قضايا أحوال إن صحت لم يكن فيها حجة لوجوه عدة ويترك من كلامهم وأحوالهم ما هو واضح في الحق الصريح والاتباع الصحيح شأن من اتبع من الأدلة الشرعية ما تشابه بها
ولما كان أهل التصرف في طريقهم بالنسبة إلى إجماعهم على أمر كسائر أهل العلوم في علومهم أتيت من كلامهم بما يقوم منه دليل على مدعي السنة وذم البدعة في طريقتهم حتى يكون دليلا لنا من جهتهم على أهل البدع عموما وعلى المدعين في طريقهم خصوصا وبالله التوفيق
فصل الوجه الخامس من النقل ما جاء منه في ذم الرأي المذموم وهو المبني على غير أسس والمستند إلى غير أصل من كتاب ولا سنة لكنه وجه تشريعي فصار نوعا من الابتداع بل هو الجنس فيها فإن جميع البدع إنما هي رأي على غير أصل ولذلك وصف بوصف الضلال ففي الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
[ إن الله لا ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعا ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون ]
فإذا كذلك فذم الرأي عائد على البدع بالذم لا محالة
وخرج ابن المبارك وغيره عن عوف بن مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يحرمون به ما أحل الله ويحلون به ما حرم ]
قال ابن عبد البر : هذا هو القياس على غير أصل والكلام في الدين بالتخرص والظن ألا ترى إلى قوله في الحديث : يحلون الحرام ويحرمون الحلال ؟ ومعلوم أن الحلال ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله والحرام ما كان في كتاب الله وسنة رسوله تحريمه فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه بغيرعلم وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة فهذا الذي قاس برأيه فضل وأضل ومن رد الفروع في علمه إلى أصولها فلم يقل برأيه
وخرج ابن المبارك حديثا قال : إن من أشراط الساعة ثلاثا وإحداهن : أن يلتمس العلم عند الأصاغر قيل لابن المبارك : من الأصاغر ؟ قال : الذين يقولون برأيهم فأما صغير يروي عن كبير فليس بصغير
وخرج ابن وهب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أصبح أهل الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلتت منهم قال سحنون : يعني البدع
وفي رواية : إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا
وفي رواية ل ابن وهب : أن أصحاب الرأي أعداء السنة أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين يسألوا أن يقولوا : لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياكم
قال أبو بكر بن أبي داود : أهل الرأي هم أهل البدع
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : من أحدث رأيا ليس في كتاب الله ولم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يدر ما هو عليه إذا لقي الله عز و جل
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : قراؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم
وخرج ابن وهب وغيره عن عمر بن الخطاب أنه قال : السنة ما سنه الله ورسوله لا تجعلوا حظ الرأي سنة للأمة
وخرج أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال : لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى أدرك فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني إسرائيل
وعن الشعبي : إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس
وعن الحسن : إنما هلك من كان قبلكم حين شعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا
وعن دراج بن السهم بن أسمح قال : يأتي على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حتى تعقد شحما ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقضا يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن
وقد اختلف العلماء في الرأي المقصود بهذه الأخبار والآثار فقد قالت طائفة : المراد به رأي أهل البدع المخالفين للسنن لكن في الاعتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب أهل الكلام لأنهم استعملوا آراءهم في رد الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم بل وفي رد ظواهر القرآن لغير سبب يوجب الرد ويقتضي التأويل كما قالوا بنفي الرؤية نفيا للظاهر بالمحتملات ونفي عذاب القبر ونفي الميزان والصراط وكذلك ردوا أحاديث الشفاعة والحوض ـ إلى أشياء يطول ذكرها ـ وهي مذكورة في كتب الكلام
وقالت طائفة : إنما الرأي المذموم المعيب الرأي المبتدع وما كان مثله من ضروب البدع فإن حقائق جميع البدع رجوع إلى الرأي وخروج عن الشرع وهذا هو القول الأظهر إذ الأدلة المتقدمة لا تقتضي بالقصد الأول من البدع نوعا دون نوع بل ظاهرها تقتضي العموم في كل بدعة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة كانت من الأصول أو الفروع كما قاله القاضي إسماعيل في قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } بعدما حكى أنها نزلت في الخوارج وكأن القائل بالتخصيص ـ والله أعلم ـ لم يقل به بالقصد الأول بل أتى بمثال مما تتضمنه الاية كالمثال المذكور فإنه موافق لما كان مشتهرا في ذلك الزمان فهو أولى ما يمثل به ويبقى ما عداه مسكوتا عن ذكره عند القائل به ولو سئل عن العموم لقال به وهكذا كل ما تقدم من الأقوال الخاصة ببعض أهل البدع إنما تحصل على التفسير بحسب الحاجة ألا ترى أن الآية الأولى من سورة آل عمران إنما نزلت في قصة نصارى نجران ؟ ثم نزلت على الخوارج حسبما تقدم إلى غير ذلك مما يذكر في التفسير ـ إنما يحملون على ما يشمله الموضع بحسب الحاجة الحاضرة لا بحسب ما يقتضيه اللفظ لغة وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال المفسرين المتقدمين وهو الأولى لمناصبهم في العلم ومراتبهم في فهم الكتاب والسنة ولهذا المعنى تقرير في غير هذا الموضع
وقالت طائفة وهم فيما زعم ابن عبد البر جمهور أهل العلم : الرأي المذكور في هذه الآثار هو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع والنوازع بعضها إلى بعض قياسا دون ردها إلى أصولها والنظر في عللها واعتبارها فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل وفرعت قبل أن تقع وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن قالوا : لأن في الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ومن كتاب الله تعالى ومعانيه واحتجوا على ذلك بأشياء منها : أن عمر رضي الله عنه لعن من سأل عما لم يكن وما جاء من النهي عن الأغلوطات وهي صعاب المسائل وعن كثرة السؤال وأنه كره المسائل وعابها وإن كثيرا من السلف لم يكن يجيب إلا عما نزل من النوازل دون ما لم ينزل
وهذا القول غير مخالف لما قبله لأن من قال به قد منع من الرأي وإن كان غير مذموم لأن الإكثار منه ذريعة إلى الرأي المذموم وهو ترك النظر في السنن اقتصارا على الرأي وإذا كان كذلك اجتمع مع ما قبله فإن من عادة الشرع أنه إذا نهى عن شيء وشدد فيع منع ما حواليه وما دار به ورتع حول حماه ألا ترى إلى قوله عله السلام :
[ الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة ] وكذلك جاء في الشرع أصل سد الذرائع وهو منع الجائز لأنه يجر إلى غير الجائز وبحسب عظم المفسدة في الممنوع يكون اتساع المنع في الذريعة وشدته
وما تقدم من الأدلة يبين ذلك عظم النفسدة في الابتداع فالحرم حول حماه يتسع جدا ولذلك تنصل العلماء من القول بالقياس وإن كان جاريا على الطريقة فامتنع جماعة من الفتيا به قبل نزول المسألة وحكوا في ذلك حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إن تفعلوا تشتت بكم الطرق ها هنا وها هنا ] وصح نهيه عليه الصلام عن كثرة السؤال وقال :
[ إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها ] وأحال بها جماعة على الأمراء فلم يكونوا يفتون حتى يكون الأمير هو الذي يتولى ذلك ويسمونها : صوافي الأمراء
وكان جماعة يفتون على الخروج عن العهدة وأنه رأي ليس بعلم كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذ سئل في الكلالة : أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ثم أجاب
وجاء رجل إلى سعيد بن المسيب فسأله عن شيء فأملاه عليه ثم سأله عن رأيه فأجابه فكتب الرجل فقال رجل من جلساء سعيد : أتكتب يا أبا محمد رأيك ؟ فقال سعيد للرجل : ناولنيها فناوله الصحيفة فخرقها
وسئل القاسم بن محمد عن شيء فأجاب فلما ولى الرجل دعاه فقال له : لا تقل إن القاسم زعم أن هذا هو الحق ولكن إن اضطررت إليه عملت به
وقال مالك بن أنس : قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد تم هذا الأمر واستكمل فإنما ينبغي أن نتبع آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا نتبع الرأي فإنه متى أتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فأتبعته فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته أرى هذا لا يتم
ثم ثبت أنه كان يقول برأيه ولكن كثيرا ما كان يقول بعد أن يجتهد رأيه في النازلة : { إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين } ولأجل الخوف على من كان يتعمق فيه لم يزل يذمه ويذم م تعمق فيه فقد كان ينحى على أهل العراق لكثرة تصرفهم به في الأحكام فحكي عنه في ذلك أشياء من أخفها قوله : الاستحسان تسعة أعشار العلم ولا يكاد المغرق في القياس إلا يفارق السنة
والآثار المتقدمة ليست عند مالك مخصوصة بالرأي في الاعتقاد فهذه كلها تشديدات في الرأي وإن كان جاريا على الأصول حذرا من الوقوع في الرأي غير الجاري على أصل
ولابن عبد البر ـ هنا ـ كلام كثير كرهنا الإتيان به
والحاصل من جيمع ما تقدم أن الرأي المذموم ما بني على الجهل واتباع الهوى من غير أن يرجع إليه وما كان منه ذريعة إليه وإن كان في أصله محمودا وذلك راجع إلى أصل شرعي فالأول داخل تحت حد البدعة وتتنزل عليه أدلة الذم والثاني خارج عنه ولا يكون بدعة أبدا
فصل الوجه السادس من النقل يذكر فيه بعض ما في البدع من الأوصاف المحذورة والمعاني المذمومة وأنواع الشؤم وهو كالشرح لما تقدم أولا وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم في أثناء الأدلة فلنتكلم على ما يسع ذكره بحسب الوقت والحال
فاعملوا أن البدعة لا يقبل معها عبادة من صلاةولا صيام ولا صدقة ولا غير ها من القربات ومجالس صاحبها تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه والماشي إليه وموقره معين على هدم الإسلام فما الظن بصاحبها وهو ملعون على لسان الشريعة ويزداد من الله بعبادته بعدا ؟ ! وهي مظنة إلقاء العدواة والبغضاء ومانعة من الشفاعة المحمدية ورافعة للسنن التي تقابلها وعلى مبتدعها إثم من عمل بها وليس له من توبة وتلقى عليه الذلة والغضب من الله ويبعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه و سلم ويخاف عليه أن يكون معدودا في الكفار الخارجين عن الملة وسوء الخاتمة عند الخروج من الدنيا ويسود وجهه في الآخرة يعذب بنار جهنم وقد تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه و سلم وتبرأ منه المسلمون ويخاف عليه الفتنة في الدنيا زيادة إلى عذاب الآخرة
فأما أن البدعة لا يقبل معها عمل فقد روي عن الأوزاعي أنه قال : كان بعض أهل العلم يقول : لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ولا صياما ولا صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا عمرة ولا صرفا ولا عدلا
وفيما كتب به أسد بن موسى : وإياك أن يكون لك من البدع أخ أوجليس أو صاحب فإنه جاء الأثر : من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى إلى هدم الإسلام وجاء : ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى ووقعت اللعنة من رسول الله صلى الله عليه و سلم على أهل البدع وإن الله لا يقبل منهم صرفا ولا عدلا ولا فريضة ولا تطوعا وكلما ازدادوا اجتهادا ـ صوما وصلاة ـ ازدادوا من الله بعدا فارفض مجالستهم وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم وأذلهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأئمة الهدى بعده
وكان أيوب السخيتاني يقول : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا
وقال هشام بن حسان : لا يقبل الله من صاحب بدعة صلاة ولا صياما ولا زكاة ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا
وخرج ابن وهب عن عبد الله بن عمر قال : من كان يزعم أن مع الله قاضيا أو رازقا أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا أو موتا أو حياة أو نشورا لقي الله فأدحض حجته وأخرس لسانه وجعل صلاته وصيامه هباء منثورا وقطع به الأسباب وكبه في النار على وجهه
وهذه الأحاديث وما كان نحوها مما ذكرناه تتضمن عمدة صحتها كلها فإن المعنى المقرر فيها له في الشريعة أصل صحيح لا مطعن فيه
أما أولا : فإنه قد جاء في بعضها ما يقتضي عدم القبول وهو في الصحيح كبدعة القدرية حيث قال فيها عبد بن عمر :
إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني فوالذي يحلف به عبد الله بن عمر لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما تقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم استشهد بحديث جبريل المذكور في صحيح مسلم
ومثله حديث الخوارج وقوله فيه :
يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ـ بعد قوله ـ [ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم ] الحديث
وإذا ثبت في بعضهم هذا لأجل بدعة فكل مبتدع بخاف عليه مثل من ذكره
وأما ثانيا : فإن كان المبتدع لا يقبل منه عمل إما أن يراد أنه لا يقبل له بإطلاق على أي وجه وقع من وفاق سنة أو خلافها وإما أن يراد أنه لا يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما لم يبتدع فيه
فأما الأول : فيمكن على أحد أوجه ثلاثة
الأول : أن يكون على ظاهره من أن كل مبتدع أي بدعة كانت فأعماله لا تقبل معها ـ داخلتها تلك البدعة أم لا ويشير إليه حديث ابن عمر المذكور آنفا ويدل عليه حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب الناس وعليه سيف فيه صحيفه معلقة فقال والله ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها فإذا فيها ـ أسنان الإبل وإذا فيها : المدينة حرم من عير إلى كذا من أحدث فيها حدثا فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وذلك على رأي من فسر الصرف والعدل بالفريضة والنافلة وهذا شديد جدا على أهل الإحداث في الدين
الثاني : أن تكون بدعته أصلا يتفرع عليه سائر الأعمال كما إذا ذهب إلى إنكار العمل بخبر الواحد بإطلاق فإن عامة التكليف مبني عليه لأن الأمر إنما يرد على المكلف من كتاب الله أو من سنة رسوله وما تفرع منهما راجع إليهما فإن كان واردا من السنة فمعظم نقل السنة بالآحاد بل قد أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم متواترا وإن كان واردا من الكتاب فإنما تبينه السنة فكل ما لم يبين في القرآن فلا بد لمطرح نقل الآحاد أن يستعمل رأيه وهو الابتداع بعينه فيكون فرع ينبني على ذلك بدعة لا يقبل منه شيء كما في الصحيح من قوله عليه السلام :
[ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ] وكما إذا كانت البدعة التي ينبني عليها كل عمل فإن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى
ومن أمثلة ذلك قول من يقول : إن الأعمال إنما تلزم من لم يبلغ درجة الأولياء المكاشفين بحقائق التوحيد فأما من رفع له الحجاب وكوشف بحقيقة ما هنالك فقد ارتفع التكليف عنه بناء منهم على أصل هو كفر صريح لا يليق في هذا الموضع ذكره
وفي الترمذي عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمري فيما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ! ]
وفي رواية : [ ألا ! هل عسى رجل يبلغه عني الحديث وهو متكىء على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ( قال ) فما وجدنا فيه حلالا حللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله ] حديث حسن
وإنما جاء هذا الحديث على الذم وإثبات أن سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم في التحليل والتحريم ككتاب الله فمن ترك ذلك فقد بنى أعماله على رأيه على كتاب الله ولا على سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم
ومن الأمثلة إذا كانت البدعة تخرج صاحبها عن الإسلام باتفاق أو باختلاف إذ للعملاء في تكفير أهل البدع قولان وفي الظواهر ما يدل على ذلك كقوله عليه السلام في بعض روايات حديث الخوارج حين ذكر السهم بصيغة الخوارج من الرمية بين الفرث والدم ومن الآيات قوله سبحانه وتعالى : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } ونحو الظواهر المتقدمة
الوجه الثالث : أن صاحب البدعة في بعض الأمور التعبدية أو غيرها قد يجره اعتقاد بدعته الخاصة إلى التأويل الذي يصير اعتقاده في الشريعة ضعيفا وذلك يبطل عليه جميع عمله بيان ذلك أمثلة :
منها : أن يترك العقل مع الشرع في التشريع وإنما يأتي الشرع كاشفا لما اقتضاه العقل فما ليت شعري هل حكم هؤلاء في التعبد لله شرعه أم عقولهم ؟ بل صار الشرع في نحلتهم كالتابع المعين لا حاكما متبعا وهذا هو التشريع الذي لم يبق للشرع معه أصالة فكل ما عمل هذا العامل مبنيا على ما اقتضاه عقله وإن شرك الشرع فعلى حكم الشركة لا على إفراد الشرع فلا يصح بناء على الدليل الدال على إبطال التحسين والتقبيح العقليين إذ هو عند علماء الكلام من مشهور البدع وكل بدعة ضلالة
ومنها : أن المستحسن للبدع يلزمه عادة أن يكون الشرع عنده لم يكمل بعد فلا يكون لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } معنى يعتبر به عندهم ومحسن الظن منهم يتأولها حتى يخرجها عن ظاهرها وذلك أن هؤلاء الفرق التي تبتدع العبادات أكثرها ممن يكثر الزهد والانقطاع والانفراد عن الخلق وإلى الاقتداء بهم يجري أغمار العوام والذي يلزم الجماعة وإن كان أتقى خلق الله لا يعدونه إلا من العامة وأما الخاصة فهم أهل تلك الزيادات ولذلك تجد كثيرا من المعتزين بهم والمائلين إلى جهتهم يزدرون بغيرهم ممن لم ينتحل مثل ما انتحلوا ويعدونهم من المحجوبين عن أنوارهم فكل من يعتقد هذا المعنى يضعف في يده قانون الشرع الذي ضبطه السلف الصالح وبين حدوده الفقهاء الراسخون في العلم إذ ليس هو عنده في طريق السلوك بمنهض حتى يدخل مداخل خاصتهم وعند ذلك لا يبقى لعمل في أيديهم روح الاعتماد الحقيقي وهو باب عدم القبول في تلك الأعمال وإن كانت بحسب ظاهر الأمر مشروعة لأن الاعتقاد فيها أفسدها عليهم فحقيق أن لا يقبل ممن هذا شأنه صرف ولا عدل والعياذ بالله !
وأما الثاني : وهو أن يراد بعدم القبول لأعمالهم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر أيضا وعليه يدل الحديث المتقدم : [ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ] والجميع من قوله : [ كل بدعة ضلالة ] أي أن صاحبها ليس على الصراط المستقيم وهو معنى عدم القبول وفاق قول الله : { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وصاحب البدعة لا يقتصر في الغالب على الصلاة دون الصيام ولا على الصيام دون الزكاة ولا على الزكاة دون الحج ولا على الحج دون الجهاد إلى غير ذلك من الأعمال لأن الباعث له على ذلك حاضر معه في الجميع وهو الهوى والجهل بشريعة الله كما سيأتي إن شاء الله
وفي المبسوطة عن يحيى بن يحيى أنه ذكر الأعراف وأهله فتوجع واسترجع ثم قال : قوم أرادوا وجها من الخير فلم يصيبوه فقيل له : يا أبا محمد ! أفيرجى لهم مع ذلك لسعيهم ثواب ؟ قال : ليس في خلاف السنة رجاء ثواب
وأما أن صاحب البدعة تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه فقد تقدم نقله ومعناه ظاهر جدا فإن الله تعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه و سلم رحمة للعالمين حسبما أخبر في كتابه وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلا ولا نعرف من مصالحنا الدنيوية إلا قليلا على غير كمال ولا من مصالحنا الأخروية قليلا ولا كثيرا بل كان كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما فيه ويطرح هوى غيره فلا يلتفت إليه فلا يزال الاختلاف بينهم والفساد فيهم يخص ويعم حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه و سلم لزوال الريب والالتباس وارتفاع الخلاف الواقع بين الناس كما قال الله تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين } إلى قوله : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } وقوله : { وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } ولم يكن حاكما بينهم فيما اختلفوا فيه إلا وقد جاءهم بما ينتظم به شملهم وتجتمع به كلمتهم وذلك راجع إلى الجهة التي من أجلها اختلفوا وهو ما يعود عليهم بالصلاح في العاجل والآجل ويدرأ عنهم الفساد على الإطلاق فانخفضت الأديان والدماء والعقل والأنساب والأموال من طرق يعرف مآخذها العلماء وذلك القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه و سلم قولا وعملا وإقرارا ولم يردوا إلى تدبير أنفسهم للعلم بأنهم لا يستطيعون ذلك ولا يستقلون بدرك مصالحهم ولا تدبير أنفسهم فإذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة والعطايا الجزيلة وأخذ في استصلاح نفسه أو دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع عليه دليلا فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة ؟ وقد حل يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه فهو حقيق بالبعد عن الرحمة قال الله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } بعد قوله : { اتقوا الله حق تقاته } فأشعر أن الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقا وأن ما سوى ذلك تفرقة لقوله : { ولا تفرقوا } والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة لأنه خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام
روى عبد بن حميد بن عبد الله : أن حبل الله الجماعة
وعن قتادة : حبل الله المتين هذا القرآن وسنته وعهده إلى عباده الذي أمر أن يعتصم بما فيه من الخير والثقة أن يتمسكوا به ويعتصموا بحبله إلى آخر ما قال ومن ذلك قوله تعالى : { واعتصموا بالله هو مولاكم }
وأما أن الماشي إليه والموقر له معين على هدم الإسلام فقد تقدم من نقله
وروي أيضا مرفوعا :
[ من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام ]
وعن هشام بن عروة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ]
ويجامعها في المعنى ما صح من قوله عليه الصلاة و السلام : [ من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ] الحديث
فإن الإيواء يجامع التوقير ووجه ذلك ظاهر لأن المشي إليه والتوقير له تعظيم له لأجل بدعته وقد علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلاله بما هو اشد من هذا كالضرب والقتل فصار توقيره صدودا عن العمل بشرع الإسلام وإقبالا على ما يضاده وينافيه والإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به والعمل بما ينافيه
وأيضا فإن توقير صاحب البدعة مظنة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم :
إحداهما : التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم
والثانية : أنه إذا وقر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيء
وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن وهو هدم الإسلام بعينه
وعلى ذلك دل حديث معاذ : فيوشك قائل أن يقول : ما لهم لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة فهو يقتضي أن السنن تموت إذا أحييت البدع وإذا ماتت انهدم الإسلام
وعلى ذلك دل النقل عن السلف زيادة إلى صحة الاعتبار لأن الباطل إذا عمل به لزم ترك العمل بالحق كما في العكس لأن المحل الواحد لا يشتغل إلا بأحد الضدين
وأيضا فمن السنة الثابتة ترك البدع فمن عمل ببدعة واحدة فقد ترك تلك السنة
فمما جاء من ذلك ما تقدم ذكره عن حذيفة رضي الله عنه أنه أخذ حجرين فوضع أحدهما على الآخر ثم قال لأصحابه : هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور ؟ قالوا : يا أبا عبد الله ! ما نرى بينهما إلا قليلا قال : والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا : تركت السنة وله آخر قد تقدم
وعن أبي إدريس الخولاني أنه كان يقول : ما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع الله بها عنهم سنته
وعن حسان بن عطية قال : ما أحدث قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لم يعدها إليهم إلى يوم القيامة
وعن بعض السلف يرفعه :
[ لا يحدث رجل في الإسلام بدعة إلا ترك من السنة ما هو خير منها ]
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن
وأما أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة فلقوله عليه الصلاة و السلام :
[ من أحدث حدثا آو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ]
وعد من الأحاديث والاستنان بسنة سوء لم تكن
وهذه اللعنة قد اشترك فيها صاحب البدعة مع من كفر بعد إيمانه وقد شهد أن بعثه النبي صلى الله عليه و سلم حق لا شك فيها وجاءه الهدى من الله والبيان الشافي وذلك قول الله تعالى : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق } إلى قوله : { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } إلى آخرها
واشترك أيضا مع من كتم ما أنزل الله وبينه في كتابه وذلك قوله تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } إلى آخرها
فتأملوا المعنى الذي اشترك المبتدع فيه مع هاتين الفرقتين وذلك مضادة الشارع فيما شرع لأن الله تعالى أنزل الكتاب وشرع الشرائع وبين الطريق للسالكين على غاية ما يمكن من البيان فضادها الكافر بأن جحدها جحدا وضادها كاتمها بنفس الكتمان لأن الشارع يبين ويظهر وهذا يكتم ويخفي وضادها المبتدع بأن وضع الوسيلة لترك ما بين وإخفاء ما أظهر لأن من شأنه أن يدخل الإشكال في الواضحات من أجل اتباع المتشابهات لأن الواضحات تهدم له ما بنى عليه من المتشابهات فهو آخذ في إدخال الإشكال على الواضح حتى يرتكب ما جاءت اللعنة في الابتداع به من الله والملائكة والناس أجمعين
قال أبو مصعب صاحب مالك : قدم علينا ابن مهدي ـ يعني المدينة ـ فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا وكان قد صلى خلف الإمام فلما سلم قال : من ها هنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه فحبس فقيل له : إنه ابن مهدي فوجه إليه وقال له : أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلين بالنظر إليه وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ؟ ] فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد النبي صلى الله عليه و سلم ولا في غيره
وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن خوفا من تلك اللعنة فما ظنك بما سوى وضع الثوب ؟
وتقدم حديث الطحاوي : ستة ألعنهم لعنهم الله فذكر فيهم التارك لسنته عليه الصلاة و السلام أخذا بالبدعة
وأما أنه يزداد من الله بعدا فلما روي عن الحسن أنه قال : صاحب البدعة ما يزداد من الله اجتهادا صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعدا
وعن أيوب السختياني قال : ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا
فصل : الوجه السادس من النقل ويصحح هذا النقل ما أشار إليه الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة و السلام في الخوارج :
[ يخرج من ضئضىء هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ـ إلى أن قال ـ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] فبين أولا اجتهادهم ثم بين آخرا بعدهم من الله تعالى
وهو بين أيضا من جهة أنه لا يقبل منه صرف ولا عدل كما تقدم فكل عمل يعمله على البدعة فكما لو لم يعمله ويزيد على تارك العمل بالعناد الذي تضمنه ابتداعه والفساد الداخل على الناس به في أصل الشريعة وفي فروع الأعمال والاعتقادات وهو يظن مع ذلك أن بدعته تقربه من الله وتوصله إلى الجنة
وقد ثبت بالنقل الصحيح الصريح بأنه لا يقربه إلى الله إلا العمل بما شرع وعلى الوجه الذي شرع ـ وهو تاركه وأن البدع تحبط الأعمال ـ وهو ينتحلها
وأما أن البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام فلأنها تقتضي التفرق شيعا
وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم حسبما تقدم في قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقوله : { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وقوله : { ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } وقوله : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وما أشبه ذلك من الآيات في هذا المعنى
وقد بين عليه الصلاة و السلام :
[ أن الفساد ذات البين هي الحالقة وأنها تحلق الدين ] هذه الشواهد تدل على وقوع الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع
وأول شاهد عليه في الواقع قصة الخوارج إذ عادوا أهل الإسلام حتى صاروا يقتلونهم ويدعون الكفار كما أخبر عنه الحديث الصحيح ثم يليهم كل من كان له صولة منهم بقرب الملوك فإنهم تناولوا أهل السنة بكل نكال وعذاب وقتل أيضا حسبما بينه جميع أهل الأخبار
ثم يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأنهم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونهم ويزعمون أنهم الأرجاس الأنجاس المكبين على الدنيا ويضعون عليهم شواهد الآيات في ذم الدنيا وذم المكبين عليها كما يروى عن عمرو بن عبيد أنه قال : لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير على شراك نعل ما أجزت شهادتهم
وعن معاذ بن معاذ قال : قلت لعمرو بن عبيد : كيف حدث الحسن عن عثمان أنه ورث امرأة عبد الرحمن بعد انقضاء عدتها ؟ فقال : إن فعل عثمان لم يكن سنة
وقيل له : كيف حدث الحسن عن سمرة في السكتتين ؟ فقال : ما تصنع بسمرة ! قبح الله سمرة اهـ بل قبح الله عمرو بن عبيد وسئل يوما عم شيء فأجاب فيه
قال الراوي : قلت ليس هكذا يقول أصحابنا قال : ومن أصحابك لا أبا لك ؟ قلت : أيوب ويونس وأبن عون والتميمي قال أولئك أنجاس أرجاس أموات غير أحياء
فهكذا أهل الضلال يسبون السلف الصالح لعل بضاعتهم تنفق { ويأبى الله إلا أن يتم نوره }
وأصل هذا الفساد من قبل الخوراج فهم أول من لعن السلف الصالح وكفر الصحابة رضي الله عن الصحابة ومثل هذا كله يورث العدواة والبغضاء
وأيضا فإن فرقة النجاة وهم أهل السنة مأمورون بعداوة أهل البدع والتشريد بهم والتنكيل بمن انحاش إلى جهتهم يالقتل فما دونه وقد حذر العلماء من مصاحبتهم ومجالستهم حسبما تقدم وذلك مظنة إلقاء العداوة والبغضاء لكن الدرك فيها على من تسبب في الخوراج عن الجماعة بما أحدثه من اتباع غير سبيل المؤمنين لا على التعادي مطلقا كيف ونحن مأمورون بمعاداتهم وهم مأمورون بموالاتنا والرجوع إلى الجماعة ؟
وأما أنها مانعة من شفاعة محمد صلى الله عليه و سلم فلما روي أنه عليه السلام قال :
[ حلت شفاعتي لأمتي إلا صاحب بدعة ] ويشير إلى صحة المعنى فيه ما في الصحيح قال :
[ أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم وأنه سيؤتى برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ـ إلى قوله فيقال لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ] الحديث وقد تقدم ففيه أنه لم يذكر لهم شفاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما قال : [ فأقول لهم سحقا كما قال العبد الصالح ] ويظهر من أول الحديث أن ذلك الارتداء لم يكن ارتداد كفر لقوله : [ وإنه سيؤتى برجال من أمتي ] ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لما نسبوا إلى أمته ولأنه عليه السلام أتى بالآية وفيها { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ولو علم النبي صلى الله عليه و سلم أنهم خارجون عن الإسلام جملة لما ذكرها لأن من مات على الكفر لا غفران له البتة وإنما يرجى الغفران لمن لم يخرجه عمله عن الإسلام لقول الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }
ومثل هذا الحديث حديث الموطأ لقوله فيه : [ فأقول فسحقا فسحقا ]
وأما أنها رافعة للسنن التي تقابلها فقد تقدم الاستشهاد عليه في أن الموقر لصاحبها معين على هدم الإسلام
وأما أن على مبتدعها إثم من عمل بها إلى يوم القيامة فلقوله تعالى : { ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } ولما في الصحيح من قوله عليه الصلاة و السلام :
[ من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ] الحديث
وإلى ذلك أشار الحديث الآخر :
[ ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل ]
وهذا التعليل يشعر بمقتضى الحديث قبله إذ علل تعليق الإثم على ابن آدم لكونه أول من سن القتل فدل على أن من سن ما لا يرضاه الله ورسوله فهو مثله إذ لم يتعلق الإثم بمن سن القتل لكونه قتلا دون غيره بل لكونه سن سنة سوء وجعلها طريقا مسلوكة
ومثل هذا ما جاء في معناه مما تقدم أو يأتي كقوله :
[ ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا ] وغير ذلك من الأحاديث
فليتق الله امرؤ ربه ولينظر قبل الإحداث في أي مزلة يضع قدمه في مصون أمره يثق بعقله في التشريع ويتهم ربه فيما شرع ولا يدري المسكين ما الذي يوضع له في ميزان شيئاته مما ليس في حسابه ولا شعر أنه من عمله فما من بدعة يبتدعها أحد فيعمل بها من بعده إلا كتب عليه إثم ذلك العامل زيادة إلى إثم ابتداعه أولا ثم عمله ثانيا
وإذا ثبت أن كل بدعة تبتدع فلا تزداد على طول الزمان إلا مضيا ـ حسبما تقدم ـ واشتهارا وانتشارا فعلى وزان ذلك يكون إثم المبتدع لها كما أن من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة وأيضا فإذا كانت كل بدعة يلزمها إماتة سنة تقابلها كان على المبتدع إثم ذلك أيضا فهو إثم زائد على إثم الابتداع وذلك الإثم يتضاعف تضاعف إثم البدعة بالعمل بها لأنها كلما تجددت في قول أو عمل تجددت في قول إماتة السنة كذلك
واعتبروا ذلك ببدعة الخوراج فإن النبي صلى الله عليه و سلم عرفنا بأنهم :
[ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] الحديث إلى آخره ففيه بيان أنهم لم يبق لهم من الدين إلا ما إذا نظر فيه الناظر شك فيه وتمارى هل هو موجود فيهم أم لا ؟ وإنما سببه الابتداع في دين الله وهو الذي دل عليه قوله : [ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ] وقوله : [ يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم ] فهذه بدع ثلاث إعاذة الله بفضله
وأما أن صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله عليه الصلاة و السلام :
[ إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة ]
وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال : كان يقال يأبى الله لصاحب بدعة بتوبة وما انتقل صاحب بدعة إلا إلى أشر منها
ونحوه عن طريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ما كان رجل على رأي من البدعة فتركه إلا إلى ما هو شر منه
خرج هذه الآثار ابن وضاح
وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول : اثنان لا نعاتبهما : صاحب طمع وصاحب هوى فإنهما لا ينزعان
وعن ابن شوذب قال : سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول : ما كان عبد على هوى تركه إلا ما هو شر منه قال : فذكرت ذلك لبعض أصحابنا فقال : تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم :
[ يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون إليه حتى يرجع السهم على فوقه ]
وعن أيوب قال : كان رجل يرى رأيا فرجع فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره فقلت : أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى ؟ فقال : انظر إلام يتحول ؟ إن آخر الحديث أشد عليهم من الأول وأوله : [ يمرقون من الدين ] وآخره : [ ثم لا يعودون ] وهو حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ سيكون من أمتي قوم يقرؤون القرآن ولا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة ]
فهذه شهادة الحديث الصحيح لمعنى هذه الآثار وحاصلها أنه [ لا ] توبة لصاحب البدعة عن بدعته فإن خرج عنها فإنما يخرج إلى ما هو شر منها كما في حديث أيوب أو يكون ممن يظهر الخروج عنها وهو مصر عليها بعد كقصة غيلان مع عمر بن عبد العزيز
ويدل على ذلك أيضا حديث الفرق إذ قال فيه :
[ وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ] وهذا النفي يقتضي العموم بإطلاق ولكنه قد يحمل على العموم العادي إذ لا يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إلى الحق كما نقل عن عبد الله بن الحسن العنبري وما نقلوه في مناظرة ابن عباس الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز لبعضهم ولكن الغالب في الواقع الإصرار
ومن هنالك قلنا : يبعد أن يتوب بعضهم لأن الحديث يقتضي العموم بظاهره وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله
وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تحت تكاليف الشريعة صعب على النفس لأنه أمر مخالف للهوى وصاد عن سبيل الشهوات فيثقل عليها جدا لأن الحق ثقيل والنفس إنما تنشط بما يوافق هواها لا بما يخالفه وكل بدعة فللهوى فيها مدخل لأنها راجعة إلى نظر مخترعها لا إلى نظر الشارع فعلى حكم التبع لا بحكم الأصل مع ضميمة أ خرى وهي أن المبتدع لا بد له من تعلق بشبهة دليل ينسبها إلى الشارع ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع فصار هواه مقصودا بدليل شرعي في زعمه فكيف يمكنه الخروج عن ذلك وداعي الهوى مستمسك بحسن ما يتمسك به ؟ وهو الدليل الشرعي في الجملة
ومن الدليل على ذلك ما روي عن الأوزاعي قال : بلغني أن من ابتدع بدعة ضلالة آلفه الشيطان العبادة أو ألقى عليه الخشوع والبكاء كي يصطاد به وقال بعض الصحابة : أشد الناس عبداة مفتون واحتج بقوله عليه الصلاة و السلام : [ يحقر أحدكم صلاته في صلاته وصيامه في صيامه ] إلى آخر الحديث
ويحقق ما قاله الواقع كما نقل في الأخبار عن الخوارج وغيرهم
فالمبتدع يزيد في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والمال والجاه وغير ذلك من أصناف الشهوات بل التعظيم على شهوات الدنيا ألا ترى إلى انقطاع الرهبان في الصوامع والديارات عن جميع الملذوذات ومقاساتهم في أصناف العبادات والكف عن الشهوات ؟ وهم مع ذلك خالدون في جهنم قال الله : { وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية } وقال : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } وما ذاك إلا لخفة يجدونها في ذلك الالتزام ونشاط بداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من الهوى فإذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه محبوبا عنده لاستبعاده للشهوات وعمله من جملتها ورآه موافقا للدليل عنده فما الذي يصده عن الاستمساك به والازدياد منه ؟ وهو يرى أن أعماله أفضل من أعمال غيره واعتقاد أنه أوفق وأعلى ؟ أفيفيد البرهان مطلبا ؟ { كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء }
وأما أن المبتدع يلقى عليه الذل في الدنيا والغضب من الله تعالى : فلقوله تعالى : { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين } حسبما جاء في تفسير الآية عن بعض السلف وقد تقدم ووجهه ظاهر لأن المتخذين للعجل إنما ضلوا به حتى عبدوه لما سمعوا من خواره ولما ألقى إليهم السامري فيه فكان في حقهم شبهة خرجوا بها عن الحق الذي كان في أيديهم قال الله تعالى : { وكذلك نجزي المفترين } فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم من حيث كانت البدع كلها افتراء على الله حسبما أخبر في كتابه في قوله تعالى : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله }
فإذا كل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب بدعته وإن ظهر لبادي الرأي عزه وجبريته فهم في أنفسهم أذلاء وأيضا فإن الذلة الحاضرة بين أيدينا موجودة في غالب الأحوال ألا ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين وفيما بعد ذلك ؟ حتى تلبسوا بالسلاطين ولاذوا بأهل الدنيا ومن لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته وهرب بها عن مخالطة الجمهور وعمل بأعمالها على التقية
وقد أخبر الله أن هؤلاء الذين اتخذوا العجل سينالهم ما وعدهم فأنجز الله وعده فقال : { وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله } وصدق ذلك الواقع باليهود حيثما حلوا في أي مكان وزمان كانوا لا يزالون أذلاء مقهورين : { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } ومن جملة الاعتداء اتخاذهم العجل هذا بالنسبة إلى الذلة وأما الغضب فمضمون بصادق أن يكون المبتدع داخلا في حكم الغضب والله الواقي بفضله
وأما البعد عن حوض رسول الله صلى الله عليه و سلم فلحديث الموطأ :
[ فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ] الحديث وفي البخاري عن أسماء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ أنا على حوضي أنتظر من يرد علي فيؤخذ بناس من دوني فأقول : أمتي ! فيقال : إنك لا تدري مشوا القهقرى ] وفي حديث عبد الله :
[ أنا فرطكم على الحوض ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا تأهبت لأتناولهم اختلجوا دوني فأقول : أي رب ! أصحابي يقول : لا تدري ما أحدثوه بعدك ]
والأظهر أنهم من الداخلين في غمار هذه الأمة لأجل ما دل على ذلك فيهم وهو الغرة والتحجيل لأن ذلك لا يكون لأهل الكفر المحض كان كفرهم أصلا أو ارتدادا
ولقوله : [ قد بدلوا بعدك ] ولو كان الكفر لقال : قد كفروا بعدك وأقرب ما يحمل عليه تبديل السنة وهو واقع على أهل البدع ومن قال : إنه النفاق فذلك غير خارج عن مقصودنا لأن أهل النفاق إنما أخذوا الشريعة تقية لا تعبدا فوضعوها غير مواضعها وهو عين الابتداع
ويجري هذا المجرى كل من اتخذ السنة والعمل بها حيلة وذريعة إلى نيل حطام الدنيا لا على التعبد بها لله تعالى لأنه تبديل لها وإخراج لها عن وضعها الشرعي
وأما الخوف عليه من أن يكون كافرا فلأن العلماء من السلف الأول وغيرهم اختلفوا في تكفير كثير من فرقهم مثل الخوارج والقدرية وغيرهم ودل ذلك ظاهر قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } الآية وقد حكم العلماء بكفر جملة منهم كالباطنية وسواهم لأن مذهبهم راجع إلى مذهب الحلولية القائلين بما يشبه قول النصارى في اللاهوت والناسوت والعلماء إذا اختلفوا في أمر : هل هو كفر أم لا ؟ فكل عاقل يربأ بنفسه أن ينسب إلى خطه خسف كهذه بحيث يقال له : إن العلماء اختلفوا : هل أنت كافر أم ضال غير كافر ؟ أو يقال : إن جماعة من أهل العلم قالوا
بكفرك وأنت حلال الدم
وأما أنه يخاف على صاحبها سوء الخاتمة والعياذ بالله فلأن صاحبها مرتكب إثما وعاص لله تعالى حتما ولا تقول الآن : هو عاص بالكبائر أو بالصغائر بل نقول : هو مصر على ما نهى الله عنه والأصرار يعظم الصغيرة إن كانت صغيرة حتى تصير كبيرة وإن كانت كبيرة فأعظم ومن مات مصرا على المعصية فيخاف عليه فربما إذا كشف الغطاء وعاين علامات الآخرة استفزه الشيطان وغلبه على قلبه حتى يموت على التغيير والتبديل وخصوصا حين كان مطيعا له فيما تقدم من زمانه مع حب الدنيا المستولي عليه
قال عبد الحق الإشبيلي : إن سوء الخاتمة لا يكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه ما سمع بهذا قط ولا علم به والحمد لله وإنما يكون لمن كان له فساد في العقل أو إصرار على الكبائر وإقدام على العظائم أو لمن كان مستقيما ثم تغيرت حاله وخرج عن سننه وأخذ في طريق غير طريقه فيكون عمله ذلك سببا لسوء خاتمته وسوء عاقبته والعياذ بالله قال الله تعالى : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }
فهذا ظاهر إذا اغتر بالبدعة من حيث هي معصية فإذا نظرنا إلى كونها بدعة فذلك أعظم لأن المبتدع مع كونه مصرا على ما نهي عنه يزيد على المصر بأنه معارض للشريعة بعقله غير مسلم لها في تحصيل أمره معتقدا في المعصية أنها طاعة حيث حسن ما قبحه الشارع وفي الطاعة أنها لا تكون طاعة إلا بضميمه نظره فهو قد قبح ما حسنه الشارع ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من سوء الخاتمة إلا ما شاء الله وقد قال تعالى في جملة ذم : { أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون }
والمكر جلب السوء من حيث لا يفطن له وسوء الخاتمة من مكر الله إذ يأتي الإنسان من حيث لا يشعر به اللهم إنا نسألك العفو العافية
وأما اسوداد وجهه في الآخرة فقد تقدم في ذلك معنى قوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وفيها أيضا الوعيد بالعذاب لقوله : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } وقوله قبل ذلك : { وأولئك لهم عذاب عظيم }
حكى عياض عن مالك من رواية ابن نافع عنه قال : لو أن العبد ارتكب الكبائر كلها دون الإشراك بالله شيئا ثم نجا من هذه الأهواء لرجوت أن يكون في أعلى جنات الفردوس لأن كل كبيرة بين العبد وربه وهو منها على رجاء وكل هوى ليس هو منه على رجاء إنما يهوي بصاحبه في نار جهنم
وأما البراءة منه ففي قوله : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وفي الحديث :
[ أنا بريء منهم وهم براء مني ]
وقال ابن عمر رضي الله عنه في أهل القدر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني
وجاء عن الحسن : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك
وعن سفيان الثوري : من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث : إما أن يكون فتنة لغيره وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار وإما أن يقول : والله لا أبالي ما تكلموا به وإني واثق بنفسي فمن يأمن بغير الله طرفة عين على دينه سلبه إياه
وعن يحيى بن أبي كثير قال : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في طريق آخر
وعن أبي قلابة قال : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمروكم في ضلالتهم ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون
وعن إبراهيم قال : لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم
والآثار في ذلك كثيرة ويعضدها ما روي عنه عليه السلام أنه قال :
[ المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ] ووجه ذلك ظاهر منبه عليه في كلام أبي قلابة إذ قد يكون المرء على يقين من أمر من أمور السنة فيلقي له صاحب الهوى فيه هوى مما يحتمله اللفظ لا أصل له أو يزيد له فيه قيدا من رأيه فيقبله قلبه فإذا رجع إلى ما كان يعرفه وجده مظلما فإما أن يشعر به فيرده بالعلم أو لا يقدر على رده وأما أن لا يشعر به فيمضي مع من هلك
قال ابن وهب : وسمعت مالكا إذا جاءه بعض أهل الأهواء يقول : أما أنا فعلى بينة من ربي وأما أنت فشاك فاذهب إلى شاك مثلك فخاصمه ثم قرأ :
{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة }
فهذا شأن من تقدم من عدم تمكين زائغ القلب أن يسمع كلامه
ومثل رده بالعلم جوابه لمن سأله في قوله : { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى ؟ فقال له : الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة وأراك صاحب بدعة ثم أمر بإخراج السائل
ومثل ما لا يقدر على رده ما حكى الباجي قال : قال مالك : كان يقال : لا تمكن زائغ القلب من أذنك فإنك لا تدري ما يعلقك من ذلك
ولقد سمع رجل من الأنصار من أهل المدينة شيئا من بعض أهل القدر فعلق قلبه فكان يأتي إخوانه الذين يستنصحهم فإذا نهوه قال : فكيف بما علق قلبي لو علمت أن الله يرضى أن ألقي نفسي من فوق هذه المنارة فعلت
ثم حكى أيضا عن مالك أنه قال : لا تجالس القدري ولا تكلمه إلا أن تجلس إليه فتغلظ عليه لقوله : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } فلا توادوهم
وأما أنه يخشى عليه الفتنة فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال : سألت مالكا عمن أحرم من المدينة وراء الميقات ؟ فقال : هذا مخالف لله ورسوله أخشى عليه الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة أما سمعت قوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم أن يهل من المواقيت
وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار قال : سمعت مالك بن أنس ـ وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ ـ قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد فقال لا تفعل قال : فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة فقال : واي فتنة هذه ؟ إنما هي أميال أزيدها قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ إني سمعت الله يقول : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }
وهذه الفتنة التي ذكرها مالك رحمه الله تفسير الآية هي شأن أهل البدع وقاعدتهم التي يؤسسون عليها بنيانهم فإنهم يرون أن ما ذكره الله في كتابه وما سنه نبيه صلى الله عليه و سلم دون ما اهتدوا إليه بعقولهم
وفي مثل ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما روي عن ابن وضاح : لقد هديتم لما لم يهتد له نبيكم وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة ـ إذ مر بقوم كان رجل يجمعهم يقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله فيقول القوم ويقول رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله فيقول القوم
ثم إن ما استدل به مالك من الآيات الكريمة نزلت في شان المنافقين حين أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بحفر الخندق وهم الذين كانوا يتسللون لواذا
وقد تقدم أن النفاق من أصله بدعة لأنه وضع بدعة في الشريعة على غير ما وضعها الله تعالى ولذلك لما أخبر تعالى عن المنافقين قال : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } فمن حيث كانت عامة في المخالفين عن أمره يدخلون أيضا من باب أحرى
فهذه جملة يستدل بها على ما بقي إذ ما تقدم من الآيات والأحاديث فيها مما يتعلق بهذا المعنى كثير وبسط معانيها طويل فلنقتصر على ما ذكرنا وبالله التوفيق
فصل وبقي مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضع وبقي مما هو محتاج إلى ذكره في هذا الموضع شرح معنى عام يتعلق بما تقدم
وهو أن البدع ضلالة وأن المبتدع ضال ومضل والضلالة مذكورة في كثير من النقل المذكور ويشير إليها في آيات الاختلاف والتفرق شيعا وتفرق الطرق بخلاف سائر المعاصي فإنها لم توصف في الغالب بوصف الضلالة إلا أن تكون بدعة أو شبه البدعة وكذلك الخطأ الواقع في المشروعات ـ وهو المعفو ـ لا يسمى ضلالا ولا يطلق على المخطىء اسم ضال كما لا يطلق على المعتمد لسائر المعاصي وإنما ذلك ـ والله أعلم ـ لحكمة قصد التنبيه عليها وذلك أن الضلال والضلالة ضد الهدي والهدى والعرب تطلق الهدى حقيقة في الظاهر المحسوس فتقول : هديته الطريق وهديته إلى الطريق ومنه : نقل إلى طريق الخير والشر قال تعالى : { إنا هديناه السبيل } { وهديناه النجدين } { اهدنا الصراط المستقيم } والصراط والطريق والسبيل بمعنى واحد فهو حقيقة في الطريق المحسوس ومجاز في الطريق المعنوي وضده الضلال وهو الخروج عن الطريق ومنه البعير الضال والشاة الضالة ورجل ضل عن الطريق إذا خرج عنه ؟ لأنه التبس عليه الأمر ولم يكن له هاد يهديه وهو الدليل
فصاحب البدعة لما غلب الهوى مع الجهل بطريق السنة توهم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القويم دون غيره فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق المستقيم فهو ضال من حيث ظن أنه راكب للجادة كالمار بالليل على الجادة وليس له دليل يهديه يوشك أن يضل عنها فيقع في متابعة وإن كان بزعمه يتحرى قصدها فالمبتدع من هذه الأمة إنما ضل في أدلتها حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة لا مأخذ الانقياد تحت أحكام الله وهذا هو الفرق بين المبتدع وغيره لأن المبتدع جعل الهوى أول مطالبه وأخذ الأدلة بالتبع ومن شأن الأدلة أنها جارية على كلام العرب ومن شأن كلامها الاحتراز فيه بالظواهر فكما تجد فيه نصا لا يحتمل التأويل تجد فيه الظاهر الذي يحتمله احتمالا مرجوحا حسبما قرره من تقدم في غير العلم وكل ظاهر يمكن فيه أن يصرف عن مقتضاه في الظاهر المقصود ويتأول على غير ما قصد فيه فإذا انضم إلى ذلك الجهل بأصول الشريعة وعدم الاضطلاع بمقاصدها كان الأمر أشد وأقرب إلى التحريف والخروج عن مقاصد الشرع
فكان المدرك أعرق في الخروج عن السنة وأمكن في ضلال البدعة فإذا غلب الهوى أمكن انقياد ألفاظ الأدلة إلى ما اراد منها
والدليل على ذلك أنك لا تجد مبتدعا ممن ينسب إلى الملة إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي فينزله على ما وافق عقله وشهوته وهو أمر ثابت في الحكمة الأزلية التي لا مرد لها قال تعالى : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } وقال : { كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } لكن إنما ينساق لهم من الأدلة المتشابه منها لا الواضح والقليل منها كالكثير وهو أدل الدليل على اتباع الهوى فإن المعظم والجمهور من الأدلة إذا دل على أمر بظاهره فهو الحق فإن جاء على ما ظاهره الخلاف فهو النادر والقليل فكان من حق الظاهر رد القليل إلى الكثير والمتشابه إلى الواضح غير أن الهوى زاغ بمن أراد الله زيغه فهو في تيه من حيث يظن أنه على الطريق بخلاف غير المبتدع فإنه إنما جعل الهداية إلى الحق أول مطالبه وأخر هواه ـ إن كان ـ فجعله بالتبع فوجد جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحا في الطلب الذي بحث عنه فوجد الجادة وما شذ له عن ذلك فإما أن يرده إليه وإما أن يكله إلى عالمه ولا يتكلف البحث عن تأويله
وفيصل القضية بينهما قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } إلى قوله : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } فلا يصح أن يسمى من هذه حالة مبتدعا ولا ضالا وإن حصل في الخلاف أو خفي عليه
أما أنه غير مبتدع فلأنه اتبع الأدلة ملقيا إليه حكمة الانقياد باسطا يد الافتقار مؤخرا ومقدما لأمر الله
وأما كونه غير ضال فلأنه على الجادة سلك وإليها لجأ فإن خرج عنها يوما فأخطأ فلا حرج عليه بل يكون مأجورا حسبما بينه الحديث الصحيح :
[ إذ اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران ] وإن خرج متعمدا فليس على أن يجعل خروجه طريقا مسلوكا له أو لغيره وشرعا يدان به
على أنه إذا وقع الذنب موقع الاقتداء قد يسمى استنانا فيعامل من سنه كما جاء في الحديث :
[ من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ] الحديث وقوله عليه السلام :
[ ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل ] فسمي القتل سنة بالنسبة إلى من عمل به عملا يقتدى به فيه لكنه لا يسمى بدعة لأنه لم يوضع على أن يكون تشريعا ولا يسمى ضلالا لأنه ليس في طريق المشروع أو في مضاهاته له
وهذا تقرير واضح يشهد له الواقع في تسمية البدع ضلالات ويشهد له أيضا أحوال من تقدم قبل الإسلام وفي زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن الله تعالى قال : { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } فإن الكفار لما أمروا بالإنفاق شحوا على أموالهم وأرادوا أن يجعلوا لذلك الشح مخرجا فقالوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ؟ ومعلوم أن الله لو شاء لم يحوج أحدا إلى أحد لكنه ابتلى عباده لينظر كيف يعملون فقص هواهم على هذا الأصل العظيم واتبعوا ما تشابه من الكتاب بالنسبة إليه فلذلك قيل لهم : { إن أنتم إلا في ضلال مبين }
وقال تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } فكأن هؤلاء قد أقروا بالتحكيم غير أنهم أرادوا أن يكون التحيكم على وفق أغراضهم زيغا عن الحق وظنا منهم أن الجميع حكم وأن ما يحكم به كعب بن الأشرف أو غيره مثل ما يحكم به النبي صلى الله عليه و سلم وجهلوا أن حكم النبي صلى الله عليه و سلم هو حكم الله الذي لا يرد وأن حكم غيره معه مردود إن لم يكن جاريا على حكم الله فلذلك قال تعالى : { ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا } لأن ظاهر الآية يدل على أنها نزلت فيمن دخل في الإسلام لقوله : { ألم تر إلى الذين يزعمون } كذا ـ إلى آخره وجماعة من المفسرين قالوا : إنما نزلت في رجل من المنافقين أو في رجل من الأنصار
وقال سبحانه : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } فهم شرعوا شرعة وابتدعوا في ملة إبراهيم عليه السلام هذه البدعة توهما أن ذلك يقربهم من الله كما يقرب من الله ما جاء به إبراهيم عليه السلام من الحق فنزلوا وافتروا على الله الكذب إذ زعموا أن هذا من ذلك وتاهوا في المشروع فلذلك قال الله تعالى على أثر الآية : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وقال سبحانه : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله } فهذه فذلكه لجملة بعد تفصيل تقديم وهو قوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } الآية فهذا تشريع كالمذكور قبل هذا ثم قال : { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم } وهو تشريع أيضا بالرأي مثل الأول ثم قال : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم } إلى آخرها فحاصل الأمر أنهم قتلوا أولادهم بغير علم وحرموا ما أعطاهم الله من الرزق بالرأي على جهة التشريع فلذلك قال تعالى : { قد ضلوا وما كانوا مهتدين } ثم قال تعالى بعد تعزيزهم على هذه المحرمات التي حرموها وهي ما في قوله : { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } وإلى قوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } وقوله : { عليه أرحام } يعني أنه يضله
والآيات التي قرر فيها حال المشركين في إشراكهم أتى فيها بذكر الضلال لأن حقيقته أنه خروج عن الصراط المستقيم لأنهم وضعوا آلهتهم لتقربهم إلى الله زلفى في زعمهم فقالوا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } فوضعوهم موضع من يتوسل به حتى عبدوهم من دون الله إذ كان أول وضعها فيما ذكر العلماء صورا لقوم يودونهم ويتبركون بهم ثم عبدت فأخذتها العرب من غيرها على ذلك القصد وهو الضلال المبين
وقال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد } فزعموا في الإله الحق ما زعموا من الباطل بناء على دليل عندهم متشابه في نفس الأمر حسبما ذكره أهل السير فتاهوا بالشبهة عن الحق لتركهم الواضحات وميلهم إلى المتشابهات كما أخبر الله تعالى في آية آل عمران فلذلك قال تعالى : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } وهم النصارى ضلوا في عيسى عليه السلام ومن ثم قال تعالى بعد ذكر شواهد العبودية في عيسى : { ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون } وبعد ذكر دلائل التوحيد وتقديس الواحد تبارك وتعالى عن اتخاذ الولد وذكر اختلافهم في مقالاتهم الشنيعة قال : { لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين }
وذكر الله المنافقين وأنهم يخادعون الله والذين آمنوا وذلك لكونهم يدخلون معهم في احوال التكاليف على كسل وتقية أن ذلك يخلصهم أو أنه يغني عنهم شيئا وهم في الحيقية إنما يخادعون أنفسهم وهذا هو الضلال بعينه لأنه إذا كان يفعل شيئا يظن أنه له فإذا هو عليه فليس على هدى من عمله ولا هو سالك على سبيله فلذلك قال : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } إلى قوله : { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا }
وقال تعالى حكاية عن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى : { أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون } ؟ معناه كيف أبعد من دون الله ما لا يغني شيئا وأترك إفراد الرب الذي بيده الضر والنفع ؟ هذا خروج عن طريق إلى غير طريق { إني إذا لفي ضلال مبين }
والأمثلة في تقرير هذا الأصل كثيرة جميعها يشهد بأن الضلال في غالب الأمر إنما يستعمل في موضوع يزل صاحبه لشبهة تعرض له أو تقليد من عرضت له الشبهة فيتخذ ذلك الزلل شرعا ودينا يدين به مع وجود واضحة الطريق الحق ومحض الصواب
ولما لم يكن الكفر في الواقع مقتصرا على هذا الطريق بل ثم طريق آخر وهو الكفر بعد العرفان عنادا أو ظلما ذكر الله تعالى الصنفين في السورة الجامعة وهي أم القرآن فقال : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم } فهذه هي الحجة العظمى التي دعا الأنبياء عليهم السلام إليها ثم قال : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فالمغضوب عليهم هم اليهود لأنهم كفروا بعد معرفتهم نبوة محمد صلى الله عليه و سلم ألا ترى إلى قول الله فيهم : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم }
[ يعني اليهود والضالون هم النصارى ] لأنهم ضلوا في الحجة في عيسى عليه السلام وعلى هذا التفسير أكثر المفسرين وهو مروي عن النبي صلى الله عليه و سلم
ويلحق بهم في الضلال المشركون الذين أشركوا مع الله إلها غيره لأنه قد جاء في أثناء القرآن ما يدل على ذلك لأن لفظ القرآن في قوله : { ولا الضالين } يعمهم وغيرهم فكل من ضل عن سواء السبيل داخل فيه
ولا يبعد أن يقال : إن الضالين يدخل فيه كل من ضل عن الصراط المستقيم كان من هذه الأمة أو لا إذ قد تقدم في الآيات المذكورة قبل هذا مثله فقوله تعالى : { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } عام في كل ضال كان ضلاله كضلال الشرك أو النفاق أو كضلال الفرق المعدودة في الملة الإسلامية وهو أبلغ وأعلى في قصد حصر أهل الضلال وهو اللائق بكلية فاتحة الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيه محمد صلى الله عليه و سلم
وقد خرجنا عن المقصود بعض خروج ولكنه عاضد لما نحن فيه وبالله التوفيق
الباب الثالث في أن ذم البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها ويدخل تحت هذه الترجمة جملة من شبه المبتدعة التي احتجوا بها
فاعلموا ـ رحمكم الله ـ أن ما تقدم من الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه :
أحدها : أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة ولم يأت فيها ما يقتضي أن منها ما هو هدى ولا جاء فيها : كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا ولا شيء من هذه المعاني فلو كان هنالك محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان أو أنها لاحقة بالمشروعات لذكر ذلك في آية أو حديث لكنه لا يوجد فدل على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد
والثاني : أنه قد ثبت في الأصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضيع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص مع تكررها وإعادة تقررها فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى : { ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وما أشبه ذلك وبسط الاستدلال على ذلك هناك فما نحن بصدده من هذا القبيل إذ جاء في الأحاديث المتعددة والمتكررة في أوقات شتى وبحسب الأحوال المختلفة :
أن كل بدعة ضلالة وأن كل محدثة بدعة وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة ولم يأت في آية ولا حديث تقييد ولا تخصيص ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها فدل ذلك دلالة واضحة على أنها على عمومها وإطلاقها
والثالث : إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها كذلك وتقبيحها والهروب عنها وعمن اتسم بشيء منها ولم يقع منهم في ذلك توقف ولا مثنوية فهو ـ بحسب الاستقراء ـ إجماع ثابت فدل على أن كل بدعة ليست بحق بل هي من الباطل
والرابع : أن متعقل البدعة ذلك بنفسه لأنه من باب مضادة الشارع واطراح الشرع وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع وقد تقدم بسط هذا في أول الباب الثاني وأيضا فلو فرض أنه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصور لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها إذ لو قال الشارع : المحدثة الفلانية حسنة لصارت مشروعة كما أشاروا إليه في الاستحسان حسبما يأتي إن شاء الله
ولما ثبت ذمها ذم صاحبها لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط بل من حيث اتصف بها المتصف فهو إذا المذموم على الحقيقة والذم خاص التأثيم فالمبتدع مذموم آثم وذلك على الاطلاق والعموم ويدل على ذلك أربعة أوجه :
أحدهما : أن الأدلة المذكورة إن جاءت فيهم نصا فظاهر كقوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } إلى آخر الآية وقوله عليه السلام :
[ فليذادن رجال عن حوضي ] الحديث إلى سائر ما نص فيه عليهم وإن كانت نصا في البدعة فراجعة المعنى إلى المبتدع من غير إشكال وإذا رجع الجميع إلى ذمهم رجع الجميع إلى تأثيمهم
والثاني : أن الشرع قد دل على أن الهوى هو المتبع الأول في البدع وهو المقصود السابق في حقهم ودليل الشرع كالتبع في حقهم ولذلك تجدهم يتأولون كل دليل خالف هواهم ويتبعون كل شبهة وافقت أغراضهم ألا ترى إلى قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } فأثبت لهم الزيغ أولا وهو الميل عن الصواب ثم اتباع المتشابه وهو خلاف المحكم الواضح المعنى الذي هو أم الكتاب ومعظمه ومتشابهه على هذا قليل فتركوا اتباع المعظم إلى اتباع الأقل المتشابه الذي لا يعطي مفهوما واضحا ابتغاء تأويله وطلبا لمعناه الذي لا يعلمه إلا الله أو يعلمه الله والراسخون في العلم وليس إلا برده إلى المحكم ولم يفعل المبتدعة ذلك فانظروا كيف اتبعوا أهواءهم أولا في مطالبة الشرع بشهادة الله
وقال الله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم } الآية
فنسب إليهم التفريق ولو كان التفريق من مقتضى الدليل لم ينسبه إليهم ولا أتى به في معرضهم الذم وليس ذلك إلا باتباع الهوى
وقال تعالى : { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } فجعل طريق الحق واضحا مستقيما ونهى عن البنيات والواضح من الطرق والبنيات كل ذلك معلوم بالعوائد الجارية فإذا وقع التشبيه بها بطريق الحق مع البنيات في الشرع فواضح أيضا فمن ترك الواضح واتبع غيره فهو متبع لهواه لا للشرع
وقال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } فهذا دليل على مجيء البيان الشافي وأن التفرق إنما حصل من جهة المتفرقين لا من جهة الدليل فهو إذا من تلقاء أنفسهم وهو اتباع الهوى بعينه والأدلة على هذا كثيرة تشير أو تصرح بأن كل مبتدع إنما يتبع هواه وإذا اتبع هواه كان مذموما وآثما والأدلة عليه أيضا كثيرة كقوله : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } وقوله : { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد } وقوله :
{ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه } وما أشبه ذلك فإذا كل مبتدع مذموم آثم
والثالث : أن عامة المبتدعة قائلة بالتحسن والتقبيح فهو عمدتهم الأولى وقاعدتهم التي يبنون عليها الشرع فهو المقدم في نحلهم بحيث لا يتهمون العقل وقد يتهمون الأدلة إذا لم توافقهم في الظاهر حتى يردوا كثيرا من الأدلة الشرعية
وقد علمت ـ أيها الناظر ـ أنه ليس كل ما يقضي به العقل يكون حقا ولذلك تراهم يرتضون اليوم مذهبا ويرجعون عنه غدا ثم يصيرون بعد غد إلى رأي ثالث ولو كان كل ما يقضي به حقا لكفى في إصلاح معاش الخلق ومعادهم ولم يكن لبعثة الرسل عليهم السلام فائدة ولكان على هذا الأصل تعد الرسالة عبثا لا معنى له وهو كله باطل فما أدى إليه مثله
فأنت ترى أنهم قدموا أهواءهم على الشرع ولذلك سموا في بعض الأحاديث وفي إشارة القرآن أهل الأهواء وذلك لغلبة الهوى على عقولهم واشتهاره فيهم لأن التسمية بالمشتق إنما يطلق إطلاق اللقب إذا غلب ما اشتقت منه على المسمى بها فإذا تأثيم من هذه صفته ظاهر لأن مرجعه إلى اتباع الرأي وهو اتباع الهوى المذكور آنفا
والرابع : أن كل راسخ لا يبتدع أبدا وإنما يقع الابتداع ممن لم يتمكن من العلم الذي ابتدع فيه حسبما دل عليه الحديث ويأتي تقريره بحول الله فإنما يؤتى الناس من قبل جهالهم الذين يحسبون أنهم علماء وإذا كان كذلك فاجتهاد من اجتهد منهي عنه إذ لم يستكمل شروط الاجتهاد فهو على أصل العمومية ولما كان العامي حراما عليه النظر في الأدلة والاستنباط كان المخضرم الذي بقي عليه كثير من الجهلات مثله في تحريم الاستنباط والنظر المعمول به فإذا أقدم على محرم عليه كان آثما بإطلاق
وبهذه الأوجه الأخيرة ظهر وجه تأثيمه وتبين الفرق بينه وبين المجتهد المخطىء في اجتهاده وسيأتي له تقرير أبسط من هذا إن شاء الله
وحاصل ما ذكر هنا أن كل مبتدع آثم ولو فرض عاملا بالبدعة المكروهة ـ إن ثبت فيها كراهة التنزيه ـ لأنه إما مستنبط لها فاستنباطه على الترتيب المذكور غير جائز وإما نائ
فصل لا يخلو المنسوب إلىالبدعة أن يكون مجتهدا أو مقلدا لا يخلو المنسوب إلى البدعة أن يكون مجتهدا فيها أو مقلدا والمقلد إما مقلد مع الاقرار بالدليل الذي زعمه المجتهد دليلا والأخذ فيه بالنظر وإما مقلد له فيه من غير نظر كالعامي الصرف فهذه ثلاثة أقسام :
فالقسم الأول : على ضربين : أحدهما أن يصح كونه مجتهدا فالابتداع منه لا يقع إلا فلته وبالعرض لا بالذات وإنما تسمىغلطة أو زلة لأن صاحبها لم يقصد اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة تأويل الكتاب أي لم يتبع هواه ولا جعله عمدة والدليل عليه أنه إذا ظهر له الحق أذعن له وأقر به
ومثاله ما يذكر عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالإرجاء ثم رجع عنه وقال : وأول ما أفارق ـ غير شاك ـ أفارق ما يقول المرجئون
وذكر مسلم عن يزيد بن صهيب الفقير قال : كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس قال فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالسا إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : وإذا هو قد ذكر الجهنميين قال : فقلت له : يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدثون ؟ ـ والله يقول : { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } و { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } فما هذا الذي تقولون ؟ قال : فقال : أفتقرأ القرآن ؟ قلت : نعم قال : فهل سمعت بمقام محمد صلى الله عليه و سلم ؟ ـ يعني الذي بعثه الله فيه ـ قلت : نعم قال : فإنه مقام محمد صلى الله عليه و سلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار قال : ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه قال : وأخاف ألا أكون أحفظ ذلك قال : غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يونوا فيها قال : يعني فيخرجون كأنهم القراطيس فرجعنا وقلنا : ويحكم ! أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد أو كما قال
ويزيد الفقير من ثقات أهل الحديث وثقة ابن معين وأبو زرعة وقال أبو حاتم : صدوق وخرج عنه البخاري
وعبيد الله بن الحسن العنبري كان من ثقة أهل الحديث ومن كبار العلماء العارفين بالسنة إلا أن الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكى عنه من أنه كان يقول : بأن كل مجتهد من أهل الأديان مصيب حتى كفره القاضي أبو بكر وغيره وحكى القتيبي عنه كان يقول : إن القرآن يدل على الاختلاف فالقول بالقدر صحيح وله أصل في الكتاب والقول بالإجبار صحيح وله أصل في الكتاب ومن قال بهذا فهو مصيب لأن الآية الواحدة ربما دلت على وجهين مختلفين
وسئل يوما عن أهل القدر وأهل الإجبار قال : كل مصيب هؤلاء قوم عظموا الله وهؤلاء قوم نزهوا الله قال : وكذلك القول في الأسماء فكل من سمى الزاني مؤمنا فقد أصاب ومن سماه كافرا فقد أصاب ومن قال هو فاسق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب ومن قال هو كافر وليس بمشرك فقد أصاب لأن القرآن يدل على كل هذه المعاني قال : وكذلك السنن المختلفة كالقول بالقرعة وخلافه والقول بالسعاية وخلافه وقتل المؤمن بالكافر ولا يقتل مؤمن بكافر وبأي ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب قال : ولو قال قائل : إن القاتل في النار كان مصيبا ولو قال : في الجنة كان مصيبا ولو وقف وأرجأ أمره كان مصيبا إذا كان إنما يريد بقوله إن الله تعبده بذلك وليس عليه علم الغيب
قال ابن أبي خثيمة : أخبرني سليمان بن أبي شيخ قال : كان عبيد الله بن الحسن بن الحسين بن أبي الحريقي العنبري البصري اتهم بأمر عظيم وروى عنه كلام رديء
قال بعض المتأخرين : هذا الذي ذكره ابن أبي شيخ عنه قد روي أنه رجع عنه لما تبين له الصواب وقال : إذا أرجع وأنا من الأصاغر ولأن أكون ذنبا في الحق أحب إلي أن أكون رأا في الباطل اهـ
فإن ثبت عنه ما قيل فيه فهو على جهة الزلة من العالم وقد رجع عنها رجوع الأفاضل إلى الحق لأنه بحسب ظاهر حالة فيما نقل عنه إنما اتبع ظواهر الأدلة الشرعية فيما ذهب إليه ولم يتبع عقله ولا صادم الشرع بنظره فهو أقرب من مخالفة الهوى
ومن ذلك الطريق ـ والله أعلم ـ وفق إلى الرجوع إلى الحق
وكذلك يزيد الفقير فيما ذكره عنه لا كما عارض الخوارج عبد الله بن عباس رضي الله عنه إذ طالبه بالحجة فقال بعضهم : لا تخاصموه فإنه ممن قال الله فيه : { بل هم قوم خصمون } فرجحوا المتشابه على المحكم وناصبوا بالخلاف السواد الأعظم
وأما إن لم يصح بمسبار العلم أنه من المجتهدين فهو الحري باستنباط ما خالف الشرع كما تقدم إذ قد اجتمع له مع الجهل بقواعد الشرع الهوى الباعث عليه في الأصل وهو التبعية إذ قد تحصل له مرتبة الإمامة والاقتداء وللنفس فيها من اللذة ما لا مزيد عليه ولذلك يعسر خروج حب الرئاسة من القلب إذا انفرد حتى قال الصوفية : حب الرئاسة آخر ما يخرج من قلوب الصديقين فكيف إذا انضاف إليه الهوى من الأصل وانضاف إلى هذين الأمرين دليل ـ في ظنه ـ شرعي على صحة ما ذهب إليه فيتمكن الهوى من قلبه تمكنا لا يمكن في العادة الانفكاك عنه وجرى منه مجرى الكلب من صاحبه
كما جاء في حديث الفرق فهذا النوع ظاهر أنه آثم في ابتداعه إثم من سن سنة سيئة
ومن أمثلته أن الامامية من الشيعة تذهب إلى وضع خليفة دون النبي صلى الله عليه و سلم وتزعم أنه مثل النبي صلى الله عليه و سلم في العصمة بناء على أصل متوهم فوضعوه على أن الشريعة أبدا مفتقرة إلى شرح وبيان لجميع المكلفين إما بالمسافهة أو بالنقل ممن شافه المعصوم وإنما وضعوا ذلك بحسب ما ظهر لهم بادىء الرأي من غير دليل عقلي ولا نقلي بل بشبهة زعموا أنها عقلية وشبه من النقل باطلة إما في أصلها وإما في تحقيق مناطها وتحقيق ما يدعون ولما يرد عليهم به مذكرو في كتب الأئمة وهو يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى دعاو وإذا طولبوا بالدليل عليها سقط في أيديهم إذ لا برهان لهم من جهة من الجهات
وأقوى شبههم مسألة اختلاف الأمة وأنه لا بد من واحد يرتفع به الخلاف أن الله يقول : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك } ولا يكون كذلك إلا إذا أعطي العصمة كما أعطيها النبي صلى الله عليه و سلم لأنه وارث وإلا فكل محق أو مبطل يدعي أنه المرحوم وأنه الذي وصل إلى الحق دون من سواه فإن طولبوا بالدليل على العصمة لم يأتوا بشيء غير أن لهم مذهبا يخفونه ولا يظهرونه إلا لخواصهم لأنه كفر محض ودعوى بغير برهان
قال ابن العربي في كتاب العواصم : خرجت من بلادي على الفطرة فلم ألق في طريقي إلا مهتديا حيث بلغت هذه الطائفة ـ يعني الإمامية والباطنية من فرق الشيعة ـ فهي أول بدعة لقيت ولو فجأتني بدعة مشبهة كالقول بالمخلوق أو نفي الصفات أو الارجاء لم آمن الشيطان فلما رأيت حماقاتهم أقمت على حذر وترددت فيها على أقوام أهل عقائد سليمة ولبثت بينهم ثمانية أشهر ثم خرجت إلى الشام فوردت بيت المقدس فألفيت فيها ثماني وعشرين حلقة ومدرستين ـ مدرسة الشافعية بباب الأسباط وأخرى للحنفية ـ وكان فيها من رؤوس العلماء المبتدعة ومن أحبار اليهود والنصارى كثير فوعيت العلم وناظرت كل طائفة بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري وغيره من أهل السنة
ثم نزلت إلى الساحل لأغراض وكان مملوءا من هذه النحل الباطنية والإمامية ـ فطفت في مدن الساحل لتلك الأغراض نحوا من خمسة أشهر ونزلت بعكا وكان رأس الإمامية بها حينئذ أبو الفتح العكي وبها من أهل السنة شيخ يقال له الفقيه الديبقي فاجتمعت بأبي الفتح في مجلسه وأنا ابن العشرين فلما رآني صغير السن كثير العلم متدربا ولع أبي فيهم ـ لعمر الله وإن كانوا على باطل ـ انطباع وإنصاف وإقرار بالفضل إذا ظهر فكان لا يفارقني ويساومني الجدال ولا يفاترني فتكلمت على مذهب الإمامية والقول بالتعليم من المعصوم بما يطول ذكره
ومن جملة ذلك أنهم يقولون : إن الله في عباده أسرارا وأحكاما والعقل لا يستقل بدركها فلا يعرف ذلك إلا من قبل إمام معصوم فقلت لهم : أمات الإمام المبلغ عن الله لأول ما أمره بالتبليغ أم هو مخلد ؟ فقال لي : مات وليس هذا بمذهبه ولكنه تستر معي فقلت : هل خلفه أحد ؟ فقال : خلفه وصيه علي قلت : فهل قضى بالحق وأنفذه ؟ قال : لم يتمكن لغلبة المعاند قلت : فهل أنفذه حين قدر ؟ قال : منعته التقية ولم تفارقه إلى الموت إلا أنها كانت تقوى تارة وتضعف أخرى فلم يمكن إلا المدارة لئلا تنفتح عليه أبواب الاختلال قلت : وهذه المدارة حق أم لا ؟ فقال : باطل أباحته الضرورة قلت : فأين العصمة ؟ قال : إنما نعني العصمة مع القدرة قلت : فمن بعده إلى الآن وجدوا القدرة أم لا ؟ قال : لا قلت : فالدين مهمل والحق مجهول مخمل ؟ قال : سيظهر قلت : بمن ؟ قال : بالإمام المنتظر قلت : لعله الدجال فما بقي أحد إلا ضحك وقطعنا الكلام على غرض مني لأني خفت أن ألجمه فينتقم مني في بلاده
ثم قلت : ومن أعجب ما في هذا الكلام أن الكلام أن الإمام إذا أوصى إلى من لا قدرة له فقد ضيع فلا عصمة له وأعجب منه أن الباري تعالى ـ على مذهبه ـ إذا علم أنه لا علم إلا بمعلم وأرسله عاجزا مضطربا لا يمكنه أن يقول ما علم فكأنه ما علمه وما بعثه وهذا عجز منه وجور لا سيما على مذهبهم
فرأوا من الكلام ما لم يمكنهم أن يقوموا معه بقائمة وشاع الحديث فرأى رئيس الباطنية المسمين بالإسماعيلية أن يجتمع معي فجاءني أبو الفتح إلى مجلس الفقيه الديبقي وقال : إن رئيس الإسماعيلية رغب في الكلام معك فقلت : أنا مشغول فقال : هنا موضع مرتب قد جاء إليه وهو محرس الطبرانيين مسجد في قصر على البحر وتحامل علي فقمت ما بين حشمة وحسبة ودخلت قصر المحرس وطلعنا إليه فوجدتهم قد اجتمعوا في زاوية المحرس الشرقية فرأيت النكر في وجوههم فسلمت ثم قصدت جهة المحراب فركعت عنده ركعتين لا عمل لي فيهما إلا تدبير القول معهم والخلاص منهم فلعمر الذي قضى علي بالإقبال إلى أن أحدثكم إن ما كنت رجوت الخروج عن ذلك المجلس أبدا ولقد كنت أنظر في البحر يضرب في حجارة سود محددة تحت طاقات المحرس فأقول : هذا قبري الذي يدفنوني فيه وأنشد في سري :
( ألا ! هل إلى الدنيا معاد ؟ وهل لنا ... سوى البحر قبر ؟ أو سوى الماء أكفان )
وهي كانت الشدة الرابعة من شدائد عمري الذي أنقذني الله منها فلما سلمت استقبلتهم وسألتهم عن أحوالهم عادة وقد اجتمعت إلي نفسي وقلت : أشرف ميتة في أشرف موطن أناضل فيه عن الدين فقال لي أبو الفتح ـ وأشار إلى فتى حسن الوجه ـ هذا سيد الطائفة ومقدمها فدعوت له فسكت فبادرني وقال : قد بلغتني مجالسك وأنهي إلي كلامك وأنت تقول : قال الله وفعل فأي شيء هو الله الذي تدعو إليه ؟ أخبرني وأخرج عن هذه المخرقة التي جازت لك على هذه الطائفة الضعيفة وقد اختطفني أصحابه قبل الجواب فعمدت ـ بتوفيق الله إلى كنانتي واستخرجت منها سهما أصاب حبة قلبه فسقط لليدين وللفم
وشرح ذلك أن الإمام أبا بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الحافظ الجرجاني قال : كنت أبغض الناس فيمن يقرأ علم الكلام فدخلت يوما إلى الري ودخلت جامعها أول دخولي واستقبلت سارية أركع عندها وإذا بجواري رجلان يتذكران علم الكلام فتطيرت بهما وقلت : أول ما دخلت هذا البلد سمعت فيه ما أكره وجعلت أخفف الصلاة حتى أبعد عنهما فعلق بي من قولهما : إن هؤلاء الباطنية أسخف خلق الله عقولا وينبغي للنحرير أن لا يتكلف لهم دليلا ولكن يطالبهم بلم فلا قبل لهم بها وسلمت مسرعا
وشاء الله بعد ذلك أن كشف رجل من الإسماعيلية القناع في الإلحاد وجعل يكاتب وشمكير الأمير يدعوه إليه ويقول له : إني لا أقبل دين محمد إلا بالمعجزة فإن أظهرتموها رجعنا إليكم وانجرت الحال إلى أن اختاروا منهم رجلا له دهاء ومنة ( أي قوة ) فورد على وشمكير رسولا فقال له : إنك أمير ومن شأن الأمراء والملوك أن تتخصص عن العلوم ولا تقلد أحدا في عقيدة وإنما حقهم أن يفصحوا عن البراهين فقال وشمكير : أختار رجلا من أهل مملكتي ولا أنتدب للمناظرة بنفسي فيناظرك بين يدي فقال له الملحد : اختر أبا بكر الإسماعيلي لعلمه بأنه ليس من أهل علم التوحيد وإنما كان إماما في الحديث ولكن كان وشمكير ـ لعاميه فيه ـ يعتقد أنه أعلم أهل الأرض بأنواع العلوم فقال وشمكير : ذلك مرادي فإنه رجل جيد فأرسل إلى أبي بكر الإسماعيلي بجرجان ليرحل إليه إلى غزنه فلم يبق من العلماء أحد إلا يئس من الدين وقال سيبهت الإسماعيلي الكافر مذهبا الإسماعيلي الحافظ مذهبا ولم يمكنهم أن يقولوا للملك : إنه لا علم عنده بذلك لئلا يتهمهم فلجأوا إلى الله في نصر دينه
قال الإسماعيلي الحافظ : فلما جائني البريد وأخذت في المسير وتدانت لي الدار قلت : إنا لله وكيف أناظر فيما لا أدري ؟ هل أتبرأ عند الملك وأرشده إلى من يحسن الجدل ويعلم بحجج الله على دينه ؟ ندمت على ما سلف من عمري إذا لم أنظر في شيء من علم الكلام ثم أذكرني الله ما كنت سمعته من الرجلين بجامع الري فقويت نفسي وعولت على أن أجعل ذلك عمدتي وبلغت البلد فتلقاني الملك ثم جميع الخلق وحضر الإسماعيلي المذهب مع الإسماعيلي النسب وقال الملك للباطني : أذكر قولك يسمعه الإمام فلما أخذ في ذكره واستوفاه قال له الحافظ : لم ؟ سمعها الملحد قال : هذا إمام قد عرف مقالتي ففهمت قال الإسماعيلي : فخرجت من ذلك الوقت وأمرت بقراءة علم الكلام وعملت أنه عمدة من عمد الإسلام
قال ابن العربي : وأنا حين انتهى بي الأمر إلى ذلك قلت : إن كان في الأجل تنفس فهذا شبيه بيوم الإسماعيلي فوجهت إلى أبي الفتح الكلام وقلت له : لقد كنت في لا شيء ولو خرجت من عكا قبل أن أجتمع بهذا العالم ما رحلت إلا عريا عن نادرة الأيام ونظر إلى حذقه بالكلام ومعرفته حيق قال لي : أي شيء هو الله ؟ ولا يسأل بمثل هذا إلا مثله ولكن بقيت ها هنا نكتة لا بد من أن نأخذها اليوم عنه وتكون ضيافتنا عنده لم قلت : أي شيء هو الله فاقتصرت من حروف الاستفهام على أي وتركت الهمزة وهل وكيف وأنى وكم وما هي أيضا من ثواني حروف الاستفهام وعدلت عن اللام من حروفه وهذا سؤال ثان عن حكمة ثانية وهو أن لـ أي معنيين في الاستفهام فأي المعنيين قصدت بها ؟ ولم سألت بحرف محتمل ؟ ولم تسأل بحرف مصرح بمعنى واحد ؟ هل وقع ذلك بغير علم ولا قصد حكمة ؟ أم بقصد حكمة ؟ فبينها لنا
فما هو إلا أن افتتحت هذا الكلام وانبسطت فيه وهو يتغير حتى اصفر آخرا من الوجل كما اسود أولا من الحقد ورجع أحد أصحابه الذي كان عن يمينه إلى آخر كان بجانبه وقال له : ما هذا الصبي إلا بحر زاخر من العلم ما رأينا مثله قط وهم ما رأوا واحدا به رمق إلا أهلكوه لأن الدولة لهم ولولا مكاننا من رفعة دولة ملك الشام ووالي عكا كان يحظينا ما تخلصت منهم في العادة أبدا
وحين سمعت تلك الكلمة من إعظامي قلت : هذا مجلس عظيم وكلام طويل يفتقر إلى تفصيل ولكن نتواعد إلى يوم آخر وقمت وخرجت فقاموا كلهم معي وقالوا : لا بد أن تبقى قليلا فقلت : لا وأسرعت حافيا وخرجت على الباب أعدو حتى أشرفت على قارعة الطريق وبقيت هناك مبشرا نفسي بالحياة حتى خرجوا بعدي وأخرجوا لي ( لا يكي ) ولبستها ومشيت معهم متضاحكا ووعدوني بمجلس آخر فلم اوف لهم وخفت وفاتي في وفائي
قال ابن العربي : وقد قال لي أصحابنا النصرية بالمسجد الأقصى : إن شيخنا أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي اجتمع برئيس من الشيعة الإمامية فشكا إليه فساد الخلق وأن هذا الأمر لا يصلح إلا بخروج الإمام المنتظر فقال نصر : هل لخروجه ميقات أم لا ؟ قال الشيعي : نعم قال له أبو الفتح : ومعلوم هو أو مجهول ؟ قال : معلوم قال نصر : ومتى يكون ؟ قال : إذا فسد الخلق قال أبو الفتح : فهل تحبسونه عن الخلق وقد فسد جميعهم إلا أنتم فلو فسدتم لخرج فأسرعوا به وأطلقوه من سجنه وعجلوا بالرجوع إلى مذهبنا فبهت وأظنه سمعها عن شيخه أبي الفتح سليمان بن أيوب الرازي الزاهد
انتهى ما حكاه ابن العربي وغيره وفيه غنية لمن عرج عن تعرف أصولهم وفي أثناء الكتاب منه أمثلة كثيرة
القسم الثاني : يتنوع أيضا وهو الذي لم يستنبط بنفسه وإنما اتبع غيره من المستنبطين لكن بحيث أقر بالشبهة واستصوبها وقام بالدعوة بها مقام متبوعه لانقداحها في قلبه فهو مثل الأول وإن لم يصر إلى تلك الحال ولكنه تمكن حب المذهب من قلبه حتى عادى عليه ووالى
وصاحب هذا القسم لا يخلو من استدلال ولو على أعم ما يكون فقد يلحق بمن نظر في الشبهة وإن كان عاميا لأنه عرض للاستدلال وهو علم أنه لا يعرف النظر ولا ما ينظر فيه ومع ذلك فلا يبلغ من استدل بالدليل الجملي مبلغ من استدل على التفصيل وفرق بينهما في التمثيل :
أن الأول أخذ شبهات مبتدعة فوقف وراءها حتى إذا طولب فيها بالجريان على مقتضى العلم تبلد وانقطع أو خرج إلى ما لا يعقل وأما الثاني فحسن الظن بصاحب البدعة فتبعه ولم يكن له دليل على التفصيل يتعلق به إلا تحسين الظن بالمبتدع خاصة وهذا القسم في العوام كثير
فمثال الأول حال حمدان بن قرمط المنسوب إليه القرامطة إذ كان أحد دعاة الباطنية فاستجاب له جماعة نسبوا إليه وكان رجلا من أهل الكوفة مائلا إلى الزهد فصادفه أحد دعاة الباطنية وهو متوجه إلى قريته وبين يديه بقر يسوقه فقال له حمدان ـ وهو لا يعرف حاله ـ : أراك سافرت عن موضع بعيد فأين مقصدك ؟ فذكر موضعا هو قرية حمدان فقال له حمدان : اركب بقرة من هذا البقر لتستريح به عن تعب المشي فلما رآه مائلا إلى الديانة أتاه من ذلك الباب وقال : إني لم أؤمن بل أؤمر بذلك فقال له : وكأنك لا تعمل إلا بأمر فقال : نعم فقال حمدان : وبأمر من تعمل ؟ قال بأمر مالكي ومالكك ومن له الدنيا والآخرة قال : ذلك هو رب العالمين قال : صدقت ولكن الله يهب ملكه من يشاء قال : وما غرضك في البقعة التي أنت متوجه إليها ؟ قال : أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاوة إلى السعادة وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب فقال له حمدان : أنقذني أنقذك الله وافض علي من العمل ما تحييني به فما أشد احيتاجي لمثل ما ذكرت ! فقال : فما أمرت أن أخرج السر المكنون إلى أحد إلا بعد الثقة به والعهد إليه فقال : فما عهدك ؟ فاذكره فإني ملتزم له فقال : أن تجعل لي وللإمام عهد الله على نفسك وميثاقك ألا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك ولا تفشي سري أيضا فالتزم حمدان عهده ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله حتى استدرجه واستغواه واستجاب له في جميع ما ادعاه ثم انتدب للدعوة وصار أصلا من أصول هذه البدعة فسمي أتباعه القرامطة
ومثال الثاني ما حكاه الله في قوله تعالى : { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } وقوله تعالى : { قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون }
وحكى المسعودي أنه كان في أعلى صعيد مصر رجل من القبط ممن يظهر دين النصرانية وكان يشار إليه بالعلم والفهم فبلغ خبره أحمد بن طولون فاستحضره وسأله عن أشياء كثيرة من جملتها أنه أمر في بعض الأيام وقد أحضر مجلسه بعض أهل النظر ليسأله عن الدليل على صحة دين النصرانية فسألوه عن ذلك فقال : دليلي على صحتها وجودي إياها متناقضة متنافية تدفعها العقول وتنفر منها النفوس لتباينها وتضادها لا نظر يقويها ولا جدل يصححها ولا برهان يعضدها من العقل والحس عند أهل التأمل فيها والفحص عنها ورأيت مع ذلك أمما كثيرة وملوكا عظيمة ذوي معرفة وحسن سياسة وعقول راجحة قد انقادوا إليها وتدينوا بها مع ما ذكرت من تناقضها في العقل فعلمت أنهم لم يقبلوها ولا تدينوا بها إلا بدلائل شاهدوها وآيات ومعجزات عرفوها أوجبت انقيادهم إليها والتدين بها
فقال له السائل : وما التضاد الذي فيها ؟ وهل يدرك ذلك أم تعلم غايته ؟ منها قولهم بأن الثلاثة واحد وأن الواحد ثلاثة ووصفهم للأقانيم والجوهر وهو الثالوثي وهل الأقانيم في أنفسها قادرة عالمة أم لا ؟ وفي اتحاد ربهم القديم بالانسان المحدث وما جرى في ولادته وصلبه وقتله وهل في التشنيع أكبر وأفحش من إله صلب وبصق في وجهه ؟ ووضع على رأسه إكليل الشوك وضرب رأسه بالقضيب ؟ وسمرت قدماه ونخز بالأسنة والخشب جنباه ؟ وطلب الماء فسقي الخل من بطيخ الحنظل ؟ فأمسكوا عن مناظرته لما قد أعطاهم من تناقض مذهبه وفساده اهـ
والشاهد من الحكاية الاعتماد على الشيوخ والآباء من غير برهان ولا دليل
القسم الثالث : يتنوع أيضا وهو الذي قلد غيره على البراءة الأصلية فلا يخلو أن يكون ثم من هو أولى بالتقليد منه بناء على التسامع الجاري بين الخلق بالنسبة إلى الجم الغفير إليه في أمور دينهم من عالم وغيره وتعظيمهم له بخلاف الغير أو لا يكون ثم من هو أولى منه لكنه ليس في إقبال الخلق عليه وتعظيمهم له ما يبلغ تلك الرتبة فإن كان هناك منتصبون فتركهم هذا المقلد وقلد غيرهم فهو آثم إذ لم يرجع إلى من أمر بالرجوع إليه بل تركه ورضي لنفسه بأخسر الصفقتين فهو غير معذور إذ قلد في دينه من ليس بعارف بالدين في حكم الظاهر فعمل بالبدعة وهو يظن أنه على الصراط المستقيم
وهذا حال من بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنهم تركوا دينهم الحق ورجعوا إلى باطل آبائهم ولم ينظروا نظر المستبصر حتى لم يفرقوا بين الطريقين وغطى الهوى على عقولهم دون أن يبصروا الطريق فكذلك أهل هذا النوع
وقل ما تجد من هذه صفته إلا وهو يوالي فيما ارتكب ويعادي بمجرد التقليد
خرج البغوي [ عن أبي الطفيل الكناني أن رجلا ولد له غلام على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتي به النبي صلى الله عليه و سلم فدعا له بالبركة وأخذ بجبهته فنبتت شعرة بجبهته كأنها سلفة فرس قال : فشب الغلام فلما كان زمن الخوارج أجابهم فسقطت الشعرة عن جبهته فأخذه أبوه فقيده وحبسه مخافة أن يلحق بهم أحد قال : فدخلنا عليه فوعظناه وقلنا له : ألم تر بركة النبي صلى الله عليه و سلم وقعت ؟ قال : فلم نزل به حتى رجع عن رأيهم قال : فرد الله عز و جل الشعرة في جبهته إذ تاب ]
وإن لم يكن هناك منتصبون إلى هذا المقلد الخامل بين الناس مع أنه قد نصب نفسه منصب المستحقين ففي تأثيمه نظر ويحتمل أن يقال فيه : إنه آثم
ونظيره مسألة أهل الفترات العاملين تبعا لآبائهم واستنامة لما عليه أهل عصرهم من عبادة غير الله وما أشبه ذلك لأن العلماء يقولون في حكمهم : إنهم على قسمين : قسم غابت عليه الشريعة ولم يدر ما يتقرب به إلى الله تعالى فوقف عن العمل بكل ما يتوهمه العقل أنه يقرب إلى الله ورأى ما أهل عصره عاملون به مما ليس لهم فيه مستند إلا استحسانهم فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه وهؤلاء هم الداخلون حقيقة تحت عموم الآية الكريمة : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }
وقسم لابس ما عليه أهل عصره من عبادة غير الله والتحريم والتحليل بالرأي ووافقوهم في اعتقاد ما اعتقدوا من الباطل فهؤلاء نص العلماء على أنهم غير معذورين مشاركون لأهل عصرهم في المؤاخذة لأنهم وافقوهم في العمل والموالاة والمعاداة على تلك الشرعة فصاروا من أهلها فكذلك ما نحن في الكلام عليه إذ لا فرق بينهما
ومن العلماء من يطلق العبارة ويقول : كيفما كان لا يعذب أحد إلا بعد الرسل وعدم القبول منهم وهذا إن ثبت قولا هكذا فنظيره في مسألتنا أن يأتي عالم أعلم من ذلك المنتصب يبين السنة من البدعة فإن راجعه هذا المقلد في أحكام دينه ولم يقتصر على الأول فقد أخذ بالاحتياط الذي هو شأن العقلاء ورجاء السلامة وإن اقتصر على الأول ظهر عناده لأنه مع هذا الفرض لم يرض بهذا الطارىء وإذا لم يرضه كان ذلك لهوى داخله وتعصب جرى في قلبه مجرى الكلب في صاحبه وهو إذا بلغ هذا المبلغ لم يبعد أن يقتصر لمذهب صاحبه ويستدل عليه بأقصى ما يقدر عليه في عموميته وحكمه قد تقدم في القسم قبله
فأنت ترى صاحب الشريعة صلى الله عليه و سلم ـ حين بعث إلى أصحاب أهواء وبدع وقد استندوا إلى آبائهم وعظمائهم فبها وردوا ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم وغطى على قلوبهم رين الهوى حتى التبست عليهم المعجزات بغيرها ـ كيف صارت شريعته صلى الله عليه و سلم حجة عليهم على الإطلاق والعموم وصار الميت منهم مسوقا إلى النار على العموم من غير تفرقة بين المعاند صراحا وغيره وما ذاك إلا لقيام الحجة عليهم بمجرد بعثته وإرساله لهم مبينا للحق الذي خالفوه فمسألتنا شبيهة بذلك فمن أخذ بالحزم فقد استبرأ لدينه ومن تابع الهوى خيف عليه الهلاك وحسبنا الله
فصل ولنزد هذا الموضع شيئا من البيان ولنرد هذا الموضع شيئا من البيان فإنه أكيد لأنه تحقيق مناط الكتاب وما احتوى عليه من المسائل فنقول وبالله التوفيق :
إن لفظ أهل الأهواء وعبارة أهل البدع إنما تطلق حقيقة على الذين ابتدعوها وقدموا فيها شريعة الهوى بالاستنباط والنصر لها والاستدلال على صحتها في زعمهم حتى عد خلافهم وشبههم منظورا فيها ومحتاجا إلى ردها والجواب عنها كما نقول في ألقاب الفرق من المعتزلة والقدرية والمرجئة والخوارج والباطنية ومن أشبههم بأنها ألقاب لمن قام بتلك النحل ما بين مستنط لها وناصرلها وذاب عنها كلفظ أهل السنة إنما يطلق على ناصريها وعلى من استنبط على وفقها والحامين لذمارها
ويرشح ذلك أن قول الله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } يشعر بإطلاق اللفظ على من جعل ذلك الفعل الذي هو التفريق وليس إلا المخترع أو من قام مقامه
وكذلك قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } وقوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } فإن اتباع المتشابه مختص بمن انتصب منصب المجتهد لا بغيره
وكذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم :
[ حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم ] لأنهم أقاموا أنفسهم مقام المستنبط للأحكام الشرعية المقتدى به فيها بخلاف العوام فإنهم متبعون لما تقرر عند علمائهم لأنه فرضهم فليسوا بمتبعين للمتشابه حقيقة ولا هم متبعون للهوى وإنما يتبعون ما يقال لهم كائنا ما كان فلا يطلق على العوام لفظ أهل الأهواء حتى يخوضوا بأنظارهم فيها ويحسنوا بنظرهم ويقبحوا وعند ذلك يتعين للفظ أهل الأهواء وأهل البدع مدلول واحد وهو أنه من انتصب للابتداع ولترجيحه على غيرها وأما أهل الغفلة عن ذلك والسالكون سبل رؤساهم بمجرد التقليد من غير نظر فلا
فحقيقة المسألة أنها تحتوي على قسمين : مبتدع ومقتد به فالمقتدي به كأنه لم يدخل في العبارة بمجرد الاقتداء لأنه في حكم المتبع والمبتدع هو المخترع أو المستدل على صحة ذلك الاختراع وسواء علينا أكان ذلك الاستدلال من قبيل الخاص بالنظر في العلم أو كان من قبيل الاستدلال العامي فإن الله سبحانه ذم أقواما قالوا : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } فكأنهم استدلوا إلى دليل جملي وهو الآباء إذ كانوا عندهم من أهل العقل وقد كانوا على هذا الدين وليس إلا لأنه صواب فنحن عليه لأنه لو كان خطأ لما ذهبوا إليه
وهو نظير من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار إليه بالصلاح ولا ينظر إلى كونه من أهل الاجتهاد في الشريعة أو من أهل التقليد ولا كونه يعمل بعلم أو بجهل ولكن مثل هذا يعد استدلالا في الجملة من حيث جعل عمدة في اتباع الهوى واطراح ما سواه فمن أخذ به فهو آخذ بالبدعة بدليل مثله ودخل في مسمى أهل الابتداع إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر في الحق إن جاءه ويبحث ويتأنى ويسأل حتى يتبين له فيتبعه أو الباطل فيجتنبه ولذلك قال تعالى ردا على المحتجين بما تقدم : { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } وفي الآية الأخرى : { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } فقال تعالى : { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } وفي الآية الأخرى : { أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير } وأمثال ذلك كثير
وعلامة من هذا شأنه أن يرد خلاف مذهبه بما عليه من شبهة دليل تفصيلي أو إجمالي ويتعصب لما هو عليه غير ملتفت إلى غيره وهو عين اتباع الهوى فهو المذموم حقا وعليه يحصل الإثم فإن من كان مسترشدا مال إلى الحق حيث وجده ولم يرده وهو المعتاد في طالب الحق ولذلك بادر المحققون إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين تبين لهم الحق
فإن لم يجد سوى ما تقدم له من البدعة ولم يدخل مع المتعاصيين لكنه عمل بها فإن قلنا : إن أهل الفترة معذبون على الاطلاق إذا اتبعوا من اخترع منهم فالمتبعون للمبتدع إذا لم يجدوا محقا مؤخذون أيضا وإن قلنا : لا يعذبون حتى يبعث لهم الرسول وإن عملوا بالكفر فهؤلاء لا يؤخذون ما لم يكن فيه محق فإذا ذاك يؤاخذون من حيث إنهم معه بين أحد أمرين : إما أن يتبعوه على طريق الحق فيتركوا ما هم عليه وإما أن لا يتبعوه فلا بد من عناد ما وتعصب فيدخلون إذ ذاك تحت عبارة ( أهل الأهواء ) فيأثمون
وكل من اتبع بيان سمعان في بدعته التي اشتهرت عند العلماء مقلدا فيها على حكم الرضاء بها ورد ما سواها فهو في الإثم مع من اتبع فقد زعم أن معبوده في صورة الإنسان وأنه يهلك كله إلا وجهه ثم زعم أن روح الإله حل في علي ثم في فلان ثم في بيان نفسه
وكذلك من اتبع المغيرة بن سعيد العجلي الذي ادعى النبوة مدة وزعم أنه يحيى الموتى بالإسم الأعظم وأن لمعبوده أعضاء على حروف الهجاء على كيفية يشمئز منها قلب المؤمن إلى إلحادات أخر
وكذلك من اتبع المهدي المغربي المنسوب إليه كثير من بدع المغرب فهو في الإثم والتسمية مع من اتبع إذا انتصب ناصرا لها ومحتجا عليها وقانا الله شر التعصب على غير بصيرة من الحق بفضله ورحمته
فصل إذا ثبت أن المبتدع آثم إذا ثبت أن المبتدع آثم فليس الواقع عليه على رتبة واحدة بل هو على مراتب مختلفة من جهة كون صاحبها مستترا بها أو معلنا ومن جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية ومن جهة كونها بينة أو مشكلة ومن جهة كونها كفرا أو غير كفر ومن جهة الإصرار عليها أو عدمة إلى غير ذلك من الوجوه التي يقطع معها بالتفاوت في عظم الإثم وعدمه أو يغلب على الظن
وهذا المعنى وإن لم يخف على العالم بالأصول فلا يترك التنبيه على وجه التفاوت بقول جملي فهو الأولى ي هذا المقام
فأما الاختلاف من جهة كون صاحبها مدعيا للاجتهاد أو مقلدا فظاهر لأن الزيغ في قلب الناظر في المتشابهات ابتغاء تأويلها أمكن منه في قلب المقلد وإن ادعى النظر أيضا لأن المقلد الناظر لا بد من استناده إلى مقلده في بعض الأصول التي يبنى عليها أو المقلد قد انفرد بها دونه فهو آخذ بخط ما لم يأخذ فيه الآخر إلا أن يكون هذا المقلد ناظرا لنفسه فحينئذ لا يدعي رتبة التقليد فصار في درجة الأول وزاد عليه الأول بأنه أول من سن تلك السنة السيئة فيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها وهذا الثاني ممن عمل بها فيكون على الأول من إثمه ما عينه الحديث الصحيح فوزره أعظم على كل تقدير والثاني دونه لأنه إن نظر وعاند الحق واحتج لرأيه فليس له إدلة جملية لا تفصيلية والفرق بينهما ظاهر فإن الأدلة التفصيلية أبلغ في الاحتجاج على عين المسألة من الأدلة الجملية فتكون المبالغة في الوزر بمقدار المبالغة في الاستدلال
وأما الاختلاف من جهة وقوعها في الضروريات أو غيرها فالإشارة إليه ستأتي عند التكلم على أحكام البدع
وأما الاختلاف من جهة الإسرار والإعلان فظاهر أن المسر بها ضرورة مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره فعلى أي صورة فرضت البدعة من كونها كبيرة أو صغيرة أو مكروهة هي باقية على أصل حكمها فإذا أعلن بها ـ وإن لم يدع إليها ـ فإعلانه بها ذريعة إلى الاقتداء به
وسيأتي ـ بحول الله ـ أن الذريعة قد تجري مجرى المتذرع إليه أو تفارقه فانضم إلى وزر العمل بها وزر نصبها لمن يقتدي به فيها والوزر في ذلك أعظم بلا إشكال
ومثاله ما حكى الطرطوشي في أصل القيام ليلة النصف من شعبان عن أبي محمد المقدسي قال : لم يكن عندنا ببيت المقدس صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب وشعبان وأول ما أحدثت عندنا في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة : قدم علينا رجل في بيت المقدس يعرف بابن أبي الحمراء وكان حسن التلاوة فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان فأحرم خلفه رجل ثم انضاف إليهما ثالث ورابع فما ختمها إلا وهو في جماعة كبيرة ثم جاء في العالم القابل فصلى معه خلق كثير وشاعت في المسجد وانتشرت الصلاة في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم ثم استمرت كأنها سنة إلى يومنا هذا فقلت له : فرأيتك تصليها في جماعة
قال : نعم ! وأستغفر الله منها
وأما الاختلاف من جهة الدعوة إليها وعدمها فظاهر أيضا لأن غير الداعي وإن كان عرضة بالاقتداء فقد لا يقتدى به ويختلف الناس في توفر دواعيهم على الاقتداء به إذ قد يكون خامل الذكر وقد يكون مشتهرا ولا يقتدي به لشهرة من هو أعظم عند الناس منزلة منه
وأما الداعي إذا دعا إليها فمظنة الاقتداء أقوى وأظهر ولا سيما المبتدع اللسان الفصيح الآخذ بمجامع القلوب إذا أخذ في الترغيب والترهيب وأدلى بشبهته التي تداخل القلب بزخرفها كما كان معبد الجهني يدعو الناس إلى ما هو عليه من القول بالقدر ويلوي بلسانه نسبته إلى الحسن البصري
فروي عن سفيان بن عيينة أن عمرو بن عبيد عن مسألة فأجاب فيها وقال : هو من رأي الحسن فقال له رجل : إنهم يروون عن الحسن خلاف هذا فقال : إنما قلت لك هذا من رأيي الحسن يريد نفسه
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري : كان عمرو بن عبيد إذا سئل عن شيء قال : هذا من قول الحسن فيوهم
أنه الحسن بن أبي الحسن وإنما هو قوله
وأما الاختلاف من جهة كونه خارجا على أهل السنة أو غير خارج فلآن غير الخارج لم يزد على الدعوة مفسدة أخرى يترتب عليه إثم والخارج زاد الخروج على الأئمة ـ وهو موجب للقتل ـ والسعي في الأرض بالفساد وإثارة الفتن والحروب إلى حصول العداوة والبغضاء بين أولئك الفرق فله من الإثم العظيم أوفر حظ
ومثاله قصة الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] وأخبارهم شهيرة
وقد لا يخرجون هذا الخروج بل يقتصرون على الدعوة لكن على وجه أدعى إلى الإجابة لأن فيه نوعا من الإكراه والإخافة فلا هو مجرد دعوة ولا هو شق العصا من كل وجه وذلك أن يستعين على دعوة بأولي الأمر من الولاة والسلاطين فإن الاقتداء هنا أقوى بسبب خوف الولاة في الإيقاع بالآبي سجنا أو ضربا أو قتلا كما اتفق لبشر المريسي في زمن المأمون ولأحمد بن أبي داؤد في خلافة الواثق وكما اتفق لعلماء المالكية بالأندلس إذ صارت ولايتها للمهديين فمزقوا كتب المالكية وسموها كتب الرأي ونكلوا بجملة من الفضلاء بسبب أخذهم في الشريعة بمذهب مالك وكانوا هم مرتكبين للظاهرية المحضة التي هي عند العلماء بدعة ظهرت بعد المائتين من الهجرة ويا ليتهم وافقوا مذهب داود وأصحابه ! لكنهم تعدوا ذلك إلى أن قالوا برأيهم ووضعوا للناس مذاهب لا عهد لهم بها في الشريعة وحملوهم عليها طوعا أو كرها حتى عم داؤها في الناس وثبتت زمانا طويلا ثم ذهب منها جملة وبقيت أخرى إلى اليوم ولعل الزمان يتسع إلى ذكر جملة منها في أثناء الكتاب بحول الله
فهذا الوجه الوزر فيه أعظم من مجرد الدعوة من وجهين : الأول الإخافة والإكراه بالإسلام والقتل والآخر كثرة الداخلين في الدعوة لأن الإعذار والإنذر الأخريين قد لا يقوم له كثير من النفوس بخلاف الدنيوي ولأجل ذلك شرعت الحدود والزواجر في الشرع و إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزعه بالقرآن بالمبتدع إذا لم ينتصر بإجابة دعوته بمجرد الإعذار والإنذار الذي يعظ به حاول الانتهاض بأولي الأمر ليكون ذلك أحرى بالإجابة
وأما الاختلاف من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية فإن الحقيقية أعظم وزرا لأنها التي باشرها المنتهي بغير واسطة ولأنها مخالفة محضة وخروج عن السنة ظاهر كالقول بالقدر والتحسين والتقبيح والقول بإنكار خبر لواحد وإنكار الإجماع وإنكار تحريم الخمر والقول بالإمام المعصوم وما أشبه ذلك
فإذا فرضت غضافية : فمعنى الإضافية أنها مشروعة من وجه ورأي مجرد من وجه
إذ يدخلها من جهة المخترع رأي في بعض أحوالها فلم تناف الأدلة من كل وجه هذا وإن كانت تجري مجرى الحقيقة ولكن الفرق بينهما ظاهر كما سيأتي إن شاء الله
وبحسب ذلك الاختلاف يختلف الوزر ومثاله جعل المصاحف في المساجد للقراءة آخر صلاة الصبح بدعة
قال مالك : أول من جعل مصحفا الحجاج بن يوسف يريد أنه أول من رتب القراءة في المصحف إثر صلاة الصبح في المسجد قال ابن رشد : مثل ما يصنع عندنا إلى اليوم
فهذه محدثة ـ أعني وضعه في المسجد ـ لأن القراءة في المسجد مشروع في الجملة معمول به إلا أن تخصيص المسجد بالقراءة على ذلك الوجه هو المحدث
ومثله وضع المصاحف في زماننا للقراءة يوم الجمعة وتحبيسها على ذلك القصد
وأما الاختلاف من جهة كونها ظاهرة المأخذ أو مشكلة فلأن الظاهر عند الإقدام عليها محض مخالفة فإن كانت مشكلة فليست بمحض مخالفة لإمكان أن لا تكون بدعة والإقدام على المحتمل أخفظ رتبة من الإقدام على الظاهر ولذلك عذ العلماء ترك المتشابه من قبيل المندوب إليه في الجملة ونبه الحديث على أن ترك المتشابه لئلا يقع في الحرام فهو حمى له وإن الواقع في المتشابه واقع في الحرام وليس ترك الحرام في الجملة من قبيل المندوب بل من قبيل الواجب فكذلك حكم الفعل المشتبه في البدعة فالتقارب بينهما بين
وإن قلنا : إن ترك المتشابه من باب المندوب وإن مواقعته من باب المكروه فالاختلاف أيضا واقع من هذه الجهة فإن الإثم في المحرمة هو الظاهر وأما المكروهة فلا إثم فيها في الجملة ما لم يقترن بها ما يوجبها كالإصرار عليها إذ الإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة فكذلك الإصرار على المكروه فقد يصيره صغيرة ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة في مطلق التأثيم وإن حصل الفرق من جهة أخرى بخلاف المكروه مع الصغيرة والشأن في البدع ـ وإن كانت مكروهة ـ في الدوام عليها وإظهارها من المقتدى بهم في مجامع الناس وفي المساجد فقلما تقدم بل تقع منهم على أصلها من الكراهية إلا ويقترن بها ما يدخلها في مطلق التأثيم من إصرار أو تعليم أو إشاعة أو تعصب لها أو ما أشبه ذلك فلا يكاد يوجد في البدع ـ بحسب الوقوع ـ مكروه لا زائد فيه على الكراهية والله أعلم
وأما الاختلاف بحسب الإصرار عليها أو عدمه فلأن الذنب قد يكون صغيرا فيعظم بالإصرار عليه كذلك البدعة تكون صغيرة فتعظم بالإصرار عليها فإذا كانت فلته فهي أهون منها إذا داوم عليها ويلحق بهذا المعنى إذا تهاون بها المبتدع وسهل أمرها نظير الذنب إذا تهاون به فالمتهاون أعظم وزرا من غيره
وأما الاختلاف من جهة كونها كفرا وعدمه فظاهر أيضا لأن ما هو كفر جزاؤه التخليد في العذاب ـ عافانا الله ـ وليس كذلك ما لم يبلغ حكم سائر الكبائر مع الكفر في المعاصي فلا بدعة أعظم وزرا من بدعة تخرج عن الإسلام كما أنه لا ذنب أعظم من ذنب يخرج عن الإسلام فبدعة الباطنية والزنادقة ليس كبدعة المعتزلة والمرجئة وأشباههم ووجوه التفاوت كثيرة ولظهورها عند العلماء لم نبسط الكلام عليها والله المستعان بفضله
فصل ويتعلق بهذا الفصل أمر آخر وهو الحكم في القيام على أهل البدع من الخاصة أو العامة وهذا باب كبير في الفقه تعلق بهم من جهة جنايتهم على الدين وفسادهم في الأرض وخروجهم عن جادة الإسلام إلى بنيات الطريق التي نبه عليها قول الله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } وهو فصل من تمام الكلام على التأثيم لكنه مفتقر إلى النظر في شعب كثيرة منها ما تكلم عليها العلماء ومنها ما لم يتكلموا عليها لأن ذلك حدث بعد موت المجتهدين وأهل الحماية للدين فهو باب يكثر التفريغ فيه بحيث يستدعي تأليفا مستقلا فرأينا أن بسط ذلك يطول مع أن العناء فيه قليل الجدوى في هذه الأزمنة المتأخرة لتكاسل الخاصة عن النظر فيما يصلح العامة وغلبة الجهل على العامة حتى إنهم لا يفرقون بين السنة والبدعة
بل قد انقلب الحال إلى أن عادت السنة بدعة فقاموا في غير موضع القيام واستقاموا إلى غير مستقام فعم الداء وعدم الأطباء حسبما جاءت به الأخبار فرأينا أن لا نفرد هذا المعنى بباب يخصه وأن لا نبسط القول فيه وأن نقتصر من ذلك على لمحة تكون خاتمة لهذا الباب في الإشارة إلى أنواع الأحكام التي يقام عليهم بها في الجملة لا في النفصيل وبالله التوفيق
فنقول : إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل أو الطرد أو الإبعاد أو الإنكائر هو بحسب حال البدعة في نفسها من كونها عظيمة المفسدة في الدين أم لا وكون صاحبها مشتهرا بها أو لا وداعيا إليها أو لا ومستطيرا بالأتباع وخارجا عن الناس أو لا وكونه عاملا بها على جهة الجهل أو لا
وكل من هذه القسام له حكم اجتهادي يخصه إذ لم يأت في الشرع في البدعة حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه كما جاء في كثير من المعاصي كالسرقة والحرابة والقتل والقذف والجراح والخمر وغير ذلك لا جرم أن المجتهدين من الأمة نظروا فيها بحسب النوازل وحكموا باجتهاد الرأي تفريعا على ما تقدم لهم في بعضها من النص كما جاء في الخوارج من الأثر بقتلهم وما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صبيغ العراقي
فخرج من مجموع ما تكلم فيه العلماء أنواع
أحدهما : الإرشاد والتعليم وإقامة الحجة كمسألة ابن عباس رضي الله عنه حين ذهب إلى الخوارج فكلمهم حتى رجع منهم ألفان أو ثلاثة آلاف
والثاني : الهجران وترك الكلام والسلام حسبما تقدم عن جملة من السلف في هجرانهم لمن تلبس ببدعة وما جاء عن عمر رضي الله عنه من قصة صبيغ العراقي
والثالث : كما غرب عمر صبيغا ويجري مجراه السجن وهو :
الرابع : كما سجنوا الحلاج قبل قتله سنين عديدة
والخامس : ذكرهم بما هم عليه وإشاعة بدعتهم كي يحذروا ولئلا يغتر بكلامهم كما جاء عن كثير من السلف في ذلك
السادس : القتل إذا ناصبوا المسلمين وخرجوا عليهم كما قاتل علي رضي الله عنه الخوارج وغيره من خلفاء السنة
والسابع : القتل إن لم يرجعوا من الاستتابة وهو قد أظهر بدعته وأما من أسرها وكانت كفرا أو ما يرجع إليه فالقتل بلا استتابة وهو :
الثامن : لأنه من باب النفاق كالزنادقة
والتاسع : تكفير من دل الدليل على كفره كما إذا كانت البدعة صريحة في الكفر كالإباحية والقائلين بالحلول كالباطنية أو كانت المسألة في باب التكفير بالمآل فذهب المجتهد إلى كابن الطيب في تكفيره جملة من الفرق وينبني على ذلك :
والعاشر : وذلك أنه لا يرثهم ورثتهم من المسلمين ولا يرثون أحدا منهم ولا يغسلون إذا ماتوا ولا يصلون عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين ما لم يكن المستتر فإن المستتر يحكم له بحكم الظاهر وورثته أعرف بالنسبة إلى الميراث
والحادي عشر : الأمر بأن لا يناكحوا وهو من ناحية الهجران وعدم المواصلة
والثاني عشر : تجريحهم على الجملة فلا تقبل شهادتهم ولا روايتهم ولا يكونون ولاة ولا قضاة ولا ينصبون في مناصب العدالة من إمامة أو خطابة إلا أنه قد ثبت عن جملة من السلف رواية جماعة منهم واختلفوا في الصلاة خلفهم من باب الأدب ليرجعوا عما هم عليه
والثالث عشر : ترك عيادة مرضاهم وهو من باب الزجر والعقوبة
والرابع عشر : ترك شهود جنائزهم كذلك
والخامس عشر : الضرب كما ضرب عمر رضي الله عنه صبيغا
وروي عن مالك رضي الله عنه في القائل بالمخلوق : أنه يوجع ضربا ويسجن حتى يموت
ورأيت في بعض تواريخ بغداد عن الشافعي أنه قال : حكم في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجرائد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام يعني أهل البدع
فصل فإن قيل : كيف هذا وقد ثبت في الشريعة فإن قيل : كيف هذا وقد ثبت في الشريعة ما يدل على تخصيص تلك العمومات وتقييد تلك المطلقات وفرع العلماء منها كثيرا من المسائل وأصلوا منها أصولا يحتذى حذوها على وفق ما ثبت نقله ؟ إذ الظواهر تخرج على مقتضى ظهورها بالاجتهاد وبالحري إن كان ما يستنبط بالاجتهاد مقيسا على محل التخصيص فلذلك قسم الناس البدع ولم يقولوا بذمها على الإطلاق
وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إلى أوجه :
أحدها : ما في الصحيح من قوله صلى الله عليه و سلم :
[ من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ]
وخرج الترمذي وصححه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ من دل على خير فله أجر فاعله ]
وخرج أيضا عن جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ من سنة سنة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئا ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزرها ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئا ] حسن صحيح
فهذه الأحاديث صريحة في أن من سن سنة خير فذلك خير ودل على أنه فيمن ابتدع من سن فنسب الاستنان إلى المكلف دون الشارع ولو كان المراد : من عمل سنة ثابتة في الشرع لما قال : من سن ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه و سلم :
[ ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ] فسن ـ ها هنا ـ على حقيقته لأنه اخترع ما لم يكن قبل معمولا به في الأرض بعد وجود آدم عليه السلام
فكذلك قوله : [ من سن سنة حسنة ] أي من اخترعها من نفسه لكن بشرط أن تكون حسنة فله من الأجر ما ذكر فليس المراد : من عمل سنة ثابتة
وإنما العبارة عن هذا المعنى أن يقال : من عمل بسنتي أو سنة من سنتي وما أشبه ذلك كما خرج الترمذي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لبلال بن الحارث :
أعلم قال : أعلم يا رسول الله ( ؟ ) قال : اعلم يا بلال قال : أعلم يا رسول الله قال : إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئا ] حديث حسن
[ وعن أنس رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم :
يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ـ ثم قال لي : يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة ] حديث حسن
فقوله : [ من أحيا سنة من سنتي قد أمييت بعدي ] واضح في العمل بما ثبت أنه سنة وكذلك قوله : [ من أحيا سنتي فقد أحبني ] ظاهر في السنن الثايتة بخلاف قوله : من سن كذا فإنه في الاختراع أولا من غير أن يكون ثابتا في السنة
وأما قوله لبلان بن الحارث [ ومن ابتدع بدعة ضلالة ] فظاهر أن البدعة لا تذم بإطلاق بل بشرط أن تكون ضلالة وأن تكون لا يرضاها الله ورسوله فاقتضى هذا كله أن البدعة إذا لم تكن لم يلحقها ذم ولا تبع صاحبها وزر فعادت إلى أنها سنة حسنة ودخلت تحت الوعد بالأجر
والثاني : أن السلف الصالح رضي الله عنهم ـ وأعلاهم الصحابة ـ قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة مما رأوه حسنا وأجمعوا عليه ولا تجمتع أمة محمد صلى الله عليه و سلم على ضلالة وإنما يجتمعون على هدى وما هو حسن
فقد أجمعوا على جمع القرآن وكتبه في المصاحف وعلى جمع الناس على المصاحف العثمانية واطراح ما سوى ذلك من القراءات التي كانت مستعملة في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يكن في ذلك نص ولا حظر ثم اقتفى الناس أثرهم في ذلك الرأي الحسن فجمعوا العلم ودونوه وكتبوه ومن سباقهم في ذلك مالك بن أنس رضي الله عنه وقد كان من أشدهم اتباعا وأبعدهم من الابتداع
هذا وإن كان قد نقل عنهم كراهية كتب العلم من الحديث وغيره فإنما هو محمول إما على الخوف من الاتكال على الكتب استغناء به عن الحفظ والتحصيل وما على ما كان رأيا دون ما كان نقلا من كتاب أو سنة
ثم اتفق الناس بعد ذلك على تدوين الجميع لما ضعف الأمر وقل المجتهدون في التحصيل فخافوا على الدين جملة
قال اللخمي لما ذكر كلام مالك وغيره في كراهية بيع كتب العلم والإجارة على تعليمه وخرج عليه الإجارة على كتبه وحكى الخلاف وقال : لا أرى اليوم أن يختلف في ذلك أنه جائز لأن حفظ الناس وأفهامهم قد نقصت وقد كان كثير ممن تقدم ليست لهم كتب
قال مالك : ولم يكن للقاسم ولا لسعيد كتب وما كنت أقرأ على أحد يكتب في هذه الألواح ولقد قلت لابن شهاب : أكنت تكتب العلم ؟ فقال : لا فقلت : أكنت تحب أن يقيدوا عليك الحديث ؟ فقال : لا فهذا كان شأن الناس فلو سار الناس سيرتهم لضاع العلم ولم يكن بيننا منه ولو رسمه أو اسمه وهكذا الناس اليوم يقرؤون كتبهم ثم هم في التقصير على ما هم عليه
وأيضا فإنه خلاف عندنا في مسائل الفروع أن القول فيها بالاجتهاد والقياس واجب وإذا كان كذلك كان إهمال كتبها وبيعها يؤدي إلى التقصير في الاجتهاد وأن لا يوضع مواضعه لأن في معرفة أقوال المتقدمين والترجيح بين أقاويلهم قوى وزيادة في وضع الاجتهاد مواضعه
انتهى ما قاله اللخمي وفيه إجازة العمل بما لم يكن عليه من تقدم لأن له وجها صحيحا فكذلك نقول : كل ما كان من المحدثات له وجه صحيح فليس بمذموم بل هو محمود وصاحبه الذي سنه ممدوح فأين ذمها بإطلاق أو على العموم ؟
وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور
فأجاز ـ كما ترى ـ إحداث الأقضية واحترعها على قدر اختراع الفجار للفجور وإن لم يكن لتلك المحدثات أصل وقتل الجماعة بالواحد وهو محكي عن عمر وعلي وابن عباس والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم
وأخذ مالك وأصحابه بقول الميت : دمي عند فلان ولم يأت له في الموطأ بأصل سماعي وإنما علل بأمر مصطلحي وفي مذهبه من ذلك مسائل كثيرة فإن كان ذلك جائزا مع أنه مخترع فلم لا يجوز مثله ـ وقد اجتمعا في العلة ـ لأن الجميع مصالح معتبرة في الجملة وإن لم يكن شيء من ذلك جائزا فلم اجتمعوا على جملة وفرع غيرهم على بعضها ؟ ولا يبقى إلا أن يقال : إنهم يتابعون على ما عمل هؤلاء دون غيرهم وإن اجتمعا في العلة المسوغة للقياس وعند ذلك يصير الاقتصار تحكما وهو باطل فما أدى إليه مثله فثبت أن البدع تنقسم
فالجواب وبالله التوفيق أن يقول :
أما الوجه الأول : وهو قوله صلى الله عليه و سلم :
[ من سن سنة حسنة ] الحديث فليس المراد به الاختراع البتة وإلا لزم من ذلك التعارض بين الأدلة القطعية ـ إن زعم مورد السؤال أن ما ذكره من الدليل مقطوع به فإن زعم أنه مظنون فما تقدم من الدليل على ذم البدع مقطوع به فيلزم التعارض بين القطعي والظني والاتفاق من المحققين ولكن فيه بحثا ـ أو نظرا ـ من وجهين :
أحدهما : أنه يقال : إنه من قبيل المتعارضين إذ تقدم اولا أن أدلة الذم تكرر عمومها في أحاديث كثيرة من غير تخصيص وإذا تعارضت أدلة العموم والتخصيص لم يقبل بعد ذلك التخصيص
والثاني : على التنزل لفقد التعارض فليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية وذلك لوجهين :
أحدهما : أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة بدليل ما في الصحيح من حديث جرير بن عبد الل ه رضي الله عنهما قال :
[ كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار ـ أو العباء ـ متقلدي السيوف عامتهم مضر بل كلهم من مضر فتعمر وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم لما رآهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال :
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } والآية التي في سورة الحشر : { اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد } تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال : ولو بشق تمرة قال : فجاءه رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ]
فتأملوا أين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من سن سنة سيئة ؟ تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه حتى بتلك الصرة فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قال : [ من سنة في الإسلام سنة حسنة ] الحديث فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحابي وهو العمل بما ثبت كونه سنة وأن الحديث مطابق لقوله في الحديث الآخر : [ من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي ـ الحديث إلى قوله ـ ومن ابتدع بدعة ضلالة ] فجعل مقابل تلك السنة الابتداع فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعة وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم : [ ومن أحيا سنتي فقد أحبني ]
ووجه ذلك في الحديث الأول ظاهر لأنه صلى الله عليه و سلم لما مضى على الصدقة أولا ثم جاء ذلك الأنصاري بما جاء به فانثال بعده العطاء إلى الكفاية فكأنها كانت سنة أيقظها رضي الله تعالى عنه بفعله فليس معناه من اخترع سنة وابتدعها ولم تكن ثابتة
ونحو هذا الحديث في رقائق ابن المبارك مما يوضع معناه عن حذيفة رضي الله عنه قال : [ قام سائل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأل فسكت القوم ثم إن رجلا أعطاء فأعطاه القوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
من استن خيرا فاستن به فله أجره ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ومن استن شرا فاستن به فعليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم ] فإذا قوله : [ من سنة سنة ] معناه من عمل بسنة لا من اخترع سنة
والوجه الثاني من وجهي الجواب : أن قوله : [ من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة ] لا يمكن حمله على الاختراع من أصل لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة وإنما يقول به المبتدعة أعني التحسين والتقبيح بالعقل فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإنا قبيحة بالشرع فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة وما أشبهها من السنن المشروعة وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم حيث قال عليه السلام : [ لأنه أول من سن القتل ] وعلى البدع لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع كما تقدم
وأما قوله : [ من ابتدع بدعة ضلالة ] فهو على ظاهره لأن سبب الحديث لم يقيده بشيء فلا بد من حمله على ظاهر اللفظ كالعمومات المبتدأة التي لم تثبت لها أسباب ويصح أن يحمل على نحو ذلك قوله : [ ومن سن سنة سيئة ] أي من اخترعها وشمل ما كان منها مخترعا ابتداء من المعاصي كالقتل من أحد ابني آدم وما كان مخترعا بحكم الحال إذ كانت قبل مهملة متناساة فاثارها عمل هذا العامل
فقد عاد الحديث ـ والحمد لله ـ حجة على أهل البدع من جهة لفظه وشرح الأحاديث الأخر له
وإنما يبقى النظر في قوله : [ ومن ابتدع بدعة ضلالة ] وإن تقييد البدعة بالضلالة يفيد مفهوما والأمر فيه قريب لأن الإضافة فيه لم تفد مفهوما وإن قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من أهل الأصول فإن الدليل دل على تعطليه في هذا الموضع كما دل دليل تحريم الربا قليله وكثيرة على تعطيل المفهوم في قوله الله تعالى : { لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } ولأن الضلالة لازمة للبدعة بإطلاق بالأدلة المتقدمة فلا مفهوم أيضا
والجواب عن الإشكال الثاني : أن جميع ما ذكر فيه من قبيل المصالح المرسلة لا من قبيل البدعة المحدثة والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول وإن كان فيها خلاف بينهم ولكن لا يعد ذلك قدحا على ما نحن فيه
أما جمع لمصحف وقصر الناس عليه فهو على الحقيقة من هذا الباب إذ أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف تسهيلا على العرب المختلفات اللغات فكانت المصلحة في ذلك ظاهرة إلا أنه عرض في إباحة ذلك بعد زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم فتح لباب الاختلاف في القرآن حيث اختلفوا في القراءة حسبما يأتي بحول الله تعالى فخاف الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ اختلاف الأمة في ينبوع الملة فقصروا الناس على ما ثبت منها في مصاحف عثمان رضي الله عنه واطرحوا ما سوى ذلك علما بأن ما اطرحوه مضمن فيما أثبتوه لأنه من قبيل القراءات التي يؤدي بها القرآن
ثم ضبطوا ذلك بالرواية حين فسدت الألسنة ودخل في الإسلام أهل العجمة خوفا من فتح باب آخر من الفساد وهو أن يدخل أهل الإلحاد في القرآن أو في القراءات ما ليس منها فيستعينوا بذلك في بث إلحادهم ألا ترى أنه لما لم بمكنهم الدخول من هذا الباب دخلوا من جهة التأويل والدعوى في معاني القرآن حسبما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى
فحق ما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن له أصلا يشهد له في الجملة وهو الأمر بتبليغ الشريعة وذلك لا خلاف فيه لقوله تعالى : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } وأمته مثله وفي الحديث :
[ ليبلغ الشاهد منكم الغائب ] وأشباهه والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة لأنه من قبيل المعقول المعنى فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها وكذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى إذا لم يعد على الأصل بإبطال كمسألة المصحف ولذلك أجمع عليه السلف الصالح
وأما ما سوى المصحف فالأمر فيه أسهل فقد ثبت في السنة كتابة العلم ففي الصحيح قوله صلى الله عليه و سلم :
[ اكتبوا لأبي شاه ] وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر حديثا مني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب
وذكر أهل السير أنه كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب يكتبون له الوحي وغيره منهم عثمان وعلي معاوية والمغيرة بن شعبة وأبي كعب وزيد بن ثابت وغيرهم وأيضا فإن الكتابة من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به إذا تعين لضعف الحفظ وخوف اندراس العلم كما خيف دروسه حينئذ وهو الذي نبه عليه اللخمي فيما تقدم
وإن تعلق بما ورد من الخلاف في المصالح المرسلة وأن البناء عليها غير صحيح عند جماعة من الأصوليين فالحجة عليهم إجماع الصحابة على المصحف والرجوع إليه وإذا ثبت اعتبارها في صورة ثبت اعتبارها مطلقا ولا يبقى بين المختلفين نزاع إلا في الفروع
وفي الصحيح قوله صلى الله عليه و سلم :
[ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ] فأعطى الحديث ـ كما ترى ـ أن ما سنه الخلفاء الراشدون لاحق بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم لأن ما سنوه لا يعدو أحد أمرين : إما أن يكون مقصودا بدليل شرعي فذلك سنة لا بدعة وإما بغير دليل ـ ومعاذ الله من ذلك ـ ولكن هذا الحديث دليل على إثباته سنة إذ قد أثبته كذلك صاحب الشريعة صلى الله عليه و سلم ودليله من الشرع ثابت فليس ببدعة ولذلك أردف اتباعهم بالنهي عن البدع بإطلاق ولو كان عملهم ذلك بدعة لوقع في الحديث التدافع
وبذلك يجاب عن مسألة قتل الجماعة بالواحد لأنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أحد الخلفاء الراشدين وتضمين الصناع وهو منقول عن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم
وأما ما يروى عن عمر بن عبد العزيز فلم أره ثابتا من طريق صحيح وإن سلم فراجع إما لأصل المصالح المرسلة ـ إن لم نقل : إن أصله قصة البقرة وإن ثبت أن المصالح المرسلة مقول بها عند السلف مع أن القائلين بها يذمون البدع وأهلها ويتبرؤن منهم ـ دل على أن البدع مباينة لها وليست منها في شيء ولهذه المسألة باب تذكر فيه
فصل ومما يورد في هذا الموضع ومما يورد في هذا الموضع أن العلماء قسموا البدع بأقسام أحكام الشريعة الخمسة ولم يعدوها قسما واحدا مذموما فجعلوا منها ما هو واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرم وبسط ذلك القرافي بسطا شافيا ـ وأصل ما أتى به من ذلك شيخه عز الدين بن عبد السلام وها أنا آتي به على نصه ـ فقال :
اعلم أن الأصحاب ـ فيما رأيت متفقون على إنكار البدع نص على ذلك ابن أبي زيد وغيره والحق النفصيل وأنها خمسة أقسام :
قسم واجب وهو ما تناولته قواعد الوجوب وأدلته من الشرع كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف عليها الضياع وأن التبليغ لمن بعدنا من القرون واجب إجماعا وإهمال ذلك حرام إجماعا فمثل هذا النوع لا ينبغي أن يختلف في وجوبه
القسم الثاني المحرم : وهو كل بدعة تناولتها قواعد التحريم وأدلته من الشريعة كالمكوس والمحدثات من المظالم والمحدثات المنافية لقواعد الشريعة كتقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشرعية من لا يصلح بطريق التوريث وجعل المستند في ذلك كون المنصب كان لأبيه وهو في نفسه ليس بأهل
القسم الثالث : أن من البدع ما هو مندوب إليه وهو ما تنالولته قواعد الندب وأدلته كصلاة التراويح ولإقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمور على خلاف ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم بسبب أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة في نفوس الناس وكان الناس في زمن الصحابة رضي الله عنهم معظم تعظيمهم إنما هو بالدين وسبق الهجرة
ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن وحدت قرن آخر لا يعظمون إلا بالصور فتعين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأكل خبز الشعير والملح ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم لعلمه بأن الحالة التي هو عليها غيره لهان في نفوس الناس ولم يحترموه وتجاسروا عليه بالمخالفة فاحتاج إلى أن يضع غيره في صورة أخرى تحفظ النظام ولذلك لما قدم الشام وجد معاوية بن أبي سفيان قد اتخذ الحجاب واتخذ المراكب النفسية والثياب الهائلة العلية وسلك ما سلكه الملوك فسأله عن ذلك فقال : إنا بأرض نحن فيها محتاجون لهذا فقال له : لا آمرك ولا أنهاك ومعناه أنت أعلم بحالك هل أنت محتاج إليه فدل ذلك من عمر وغيره على أن أحوال الأئمة وولاة الأمور تختلف باختلاف الأمصار والقرون وأحوال فكذلك يحتاج إلى تجديد زخارف وسيايات لم تكن قديمة وربما وجبت في بعض الأحوال
القسم الرابع : بدعة مكروهة وهي ماتناولته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها كتخصيص الأيام الفاضلة أو غيرها بنوع من العبادة ولذلك ورد في الصحيح ـ خرجه مسلم وغيره :
أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن تخصيص يوم الجمعة بصيام أو ليلة بقيام
ومن هذا الباب الزيادة في المندوبات المحدودات
كما ورد في التسبيح عقب الفريضة ثلاثا وثلاثين فتفعل مائة
وورد صاع في زكاة الفطر فيجعل عشرة أصواع بسبب أن الزيادة فيها إظهار الاستظهار على الشارع وقلة أدب معه بل شأن العظماء إذا حددوا شيئا وقف عنده وعد الخروج عنه قلة أدب
ولازيادة في الواجب أو عليه أشد في المنع لأنه يؤدي إلى أن يعتقد أن الواجب هو الأصل والمزيد عليه ولذلك نهى مالك رضي الله عنه عن إيصال ستة أيام من شوال لئلا يعتقد أنها من رمضان وخرج أبو داود في سننه [ أن رجلا دخل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى الفرض وقام ليصلي ركعتين فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه : اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك فهكذا من قبلنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اصاب الله بك يا ابن الخطاب ] يريد عمر أن من قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض واعتقدوا الجميع واجبا وذلك تغيير للشرائع وهو حرام إجماعا
القسم الخامس : البدع المباحة وهي ما تناولته أدلة الإباحة وقواعدها من الشريعة كاتخاذ المناخل للدقيق ففي الآثار : أول شيء أحدثه الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم اتخاذ المناخل لأن تليين العيش وإصلاحه من المباحات فوسائله مباحة
فالبدعة إذا عرضت تعرض على قواعد الشرع وأدلته فأي شيء تناولها من الأدلة والقواعد ألحقت به من إيجاب أو تحريم أو غيرها وإن نظر إليها من حيث الجملة بالنظر إلى كونها بدعة مع قطع النظر فيما يتقاضاها كرهت فإن الخير كله في الاتباع والشر كله في الابتداع
وذكر شيخه في قواعده في فصل البدع منها ـ بعد ما قسم أحكامها إلى الخمسة ـ أن الطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة إلى أن قال : وللبدع الواجبة أمثلة
أحدها : الاشتغال بالذي يفهم به كلام الله تعالى وكلاك رسوله صلى الله عليه و سلم وذلك واجب لأن حفظ الشريعة واجب
والثاني : حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة
والثالث : تدوين أصول الفقه
والرابع : الكلام في الجرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم
ثم قال : والبدع المحرمة أمثلة ( منها ) مذهب القدرية ومذهب الجبرية والمرجئة والمجسمة والرد على هؤلاء من البدع الواجبة
قال : وللمندوب أمثلة ( منها ) إحداث الربط والمدارس وبناء القناطر ( ومنها ) كل إحسان لم يعهد في الصدر الأول ( ومنها ) الكلام في دقائق التصوف والكلام في الجدل ( ومنها ) جمع المحافل للاستدلال في المسائل إن قصد بذلك وجهه تعالى
قال : وللكراهة أمثلة ( ومنها ) زخرفة المساجد وتزويق المصاحف وأما تلحين القرآن بحيث تتغير ألفاظه عن الوضع العربي فالأصح أنه من البدع المحرمة
قال : وللبدع المباحة أمثلة ( ومنها ) المصافحة عقب صلاة الصبح والعصر ( ومنها ) التوسع في اللذيذ من المأكل والمشرب والملابس والمساكن ولبس الطيالسة وتوسيع الأكمام وقد اختلف في بعض ذلك فجعله بعض العلماء من البدع المكروهة وجعله آخرون من السنن المفعولة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فما بعده كالاستعاذة والبسملة في الصلاة انتهى محصول ما قال
وهو يصرح مع ما قبله بأن البدع تنقسم بأقسام الشريعة فلا يصح أن تحمل أدلة ذم البدع على العموم بل لها مخصصات
والجواب : أن هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي بل هو نفسه متدافع لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة ولكان العمل داخلا في عموم الأعمال المأمورة بها أو المخير فيها فالجميع بين عد تلك الأشياء بدعا وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين
أما المكروه منها والمحرم فمسلم من جهة كونها بدعا لا من جهة أخرى إذ لو دل دليل على منع أمر أو كراهته لم يثبت ذلك كونه بدعة لإمكان أن يكون معصية كالقتل والسرقة وشرب الخمر ونحوها فلا بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم البتة إلا الكراهية والتحريم حسبما يذكر في بابه
فما ذكر القرافي عن الأصحاب من الاتفاق على إنكار البدع صحيح وما قسمه فيها غير صحيح ومن العجب حكاية الاتفاق مع المصادمة بالخلاف ومع معرفته بما يلزمه في خرق الإجماع وكأنه إنما اتبع في هذا التقسيم شيخه من غير تأمل فإن ابن عبد السلام ظاهر منه أنه سمى المصالح المرسلة بدعا بناء ـ والله أعلم ـ على أنها لم تدخل أعيانها تحت النصوص المعينة وإن كانت تلائم قواعد الشرع فمن هنالك جعل القواعد هي الدالة على استحسانها بتسمية لها بلفظ البدع وهو من حيث فقدان الدليل المعين على المسألة واستحسانها من حيث دخولها تحت القواعد ولما بنى على اعتماد تلك القواعد استوت عنده مع الأعمال الداخلة تحت النصوص المعينة وصار من القائلين بالمصالح المرسلة وسماها بدعا في اللفظ كما سمى عمر رضي الله عنه الجمع في قيام رمضان في المسجد بدعة كما سيأتي إن شاء الله تعالى
أما القرافي فلا عذر له في نقل تلك الأقسام على غير مراد شيخه ولا على مراد الناس لأنه خالف الكل في ذلك التقسيم فصار مخالفا للإجماع
ثم نقول : أما قسم الواجب فقد تقدم ما فيه آنفا فلا نعيده وأما قسم التحريم فليس فيه ما هو بدعة هكذا بإطلاق بل ذلك كله مخالفة للأمر المشروع فلا يزيد على تحريم أكل المال بالباطل إلا من جهة كونه موضوعا على وزان الأحكام الشرعية اللازمة كالزكوات المفروضة والنفقات المقدرة وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى وقد تقدم في الباب الأول منه طرف
فإذا لا يصح أن يطلق القول في هذا القسم بأنه بدعة أن يقسم الأمر ذلك
وأما قسم المندوب فليس من البدع بحال وتبيين ذلك بالنظر في الأمثلة التي مثل لها بصلاة التراويح في رمضان جماعة في المسجد فقد قام بها النبي صلى الله عليه و سلم في المسجد واجتمع الناس خلفه
فخرج أبو داود عن أبي ذر قال :
[ صمنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا ؟ فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلنا : يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة ؟ ـ قال ـ فقال : إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام الليلة قال : فلما كانت الرابعة لم يقم فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح ـ قال ـ قلت : وما الفلاح ؟ قال : السحور ] ثم لم يقم بنا بقية الشهر ونحوه في الترمذي وقال فيه حسن صحيح
لكنه صلى الله عليه و سلم لما خاف افتراضه على الأمة أمسك عن ذلك ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها : [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم النبي صلى الله عليه و سلم فلما أصبح قال :
قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن يفرض عليكم ] وذلك في رمضان وخرجه مالك في الموطأ
فتأملوا ففي هذا الحديث ما يدل على كونها سنة فإن قيامه أولا بهم دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان وامتناعه بعد ذلك من الخروج خشية الافتراض لا يدل على امتناعه مطلقا لأن زمانه كان زمان زحي وتشريع فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس بالألزام فلما زالت علة التشريع بموت رسول الله صلى الله عليه و سلم رجع الأمر إلى أصله وقد ثبت الجواز فلا ناسخ له
وإنما لم يقم ذلك أبو بكر رضي الله عنه لأحد أمرين : إما لأنه رأى أن قيام الناس آخر الليل وما هم به عليه كان أفضل عنده من جمعهم على إمام أول الليل ذكره الطرطوشي وإما لضيق زمانه رضي الله عنه عن النظر في هذه الفروع مع شغله بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح
فلما تمهد الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه ورأى الناس في المسجد أوزاعا ـ كما جاء في الخبر ـ قال : لو جمعت الناس على قارىء واحد لكان أمثل فلما تم له ذلك نبه على أن قيامهم آخر الليل أفضل ثم اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره والأمة لا تجتمع على ضلالة
وقد نص الأصوليون أن الإجماع لا يكون إلا عن دليل شرعي
فإن قيل : فقد سماها عمر رضي الله عنه بدعة وحسنها بقوله : نعمت البدعة هذه وإذا ثبتت بدعة مستحسنة في الشرع ثبت مطلق الاستحسان في البدع
فالجواب : إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه و سلم واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه لا أنها بدعة في المعنى فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأساسي وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه فقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها :
إن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم
وقد نهى النبي صلى ا لله عليه وسلم عن الوصال رحمة بالأمة وقال :
[ إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ] وواصل الناس بعده لعلمهم بوجه علة النهي حسبما يأتي إن شاء الله تعالى
وذكر القرافي من جملة الأمثلة إقامة صور الأئمة والقضاة إلخ ما قال وليس ذلك من قبيل البدع بسبيل أما أولا فإن التجمل بالنسبة إلى ذوي الهيئات والمناصب الرفيعة مطلوب وقد كان للنبي صلى الله عليه و سلم حلة يتجمل بها للوفود ومن العلة في ذلك ما قاله القرافي من أن ذلك أهيب وأوقع في النفوس من تعظيم العظماء ومثله التجمل للقاء العظماء كما جاء في حديث أشج عبد القيس وأما ثانيا : فإن سلمنا أن لا دليل عليه بخصوصه فهو من قبيل المصالح المرسلة وقد مر أنها ثابتة في الشرع وما قاله من أن عمر كان يأكل خبز الشعير ويفرض لعامله نصف شاة فليس فيه تفخيم صورة الإمام ولا عدمه بل فرض له ما يحتاج إليه خاصة وإلا فنصف شاة لبعض العمال قد لا يكفيه لكثرة عيال وطروق ضيف وسائر ما يحتاج إليه من لباس وركوب وغيرهما فذلك قريب من أكل الشعير في المعنى وأيضا فإن ما يرجع إلى المأكول والمشروب لا تجمل فيه بالنسبة إلى الظهور للناس
وقوله : فكذلك يحتاجون إلى تجديد زخارف وسياسات لم تكن قديمة وربما وجبت في بعض الأحوال مفتقر إلى التأمل ففيه ـ على الجملة ـ أنه مناقض لقوله في آخر الفصل : الخير كله في الاتباع والشر كله في الابتداع مع ما ذكره قبله
فهذا كلام يقتضي أن الابتداع شر كله فلا يمكن أن يجتمع مع فرض الوجوب وهو قد ذكر أن البدعة قد تجب وإذا وجبت لزم العمل بها وهي لما فاتت ضمن الشر كله فقد اجتمع فيها الأمر بها والأمر بتركها ولا يمكن فيهما الانفكاك ـ وإن كانا من جهتين ـ لأن الوقوع يستلزم الاجتماع وليسا كالصلاة في الدار المغصوبة لأن الانفكاك في الوقوع ممكن وها هنا إذا وجبت فإنما تجب على الخصوص وقد فرض أن الشر فيها على الخصوص فلزم التناقض وأما على التفصيل فإن تجديد الزخارف فيه من الخطأ ما لا يخفى
وأما السياسات فإن كانت جارية على مقتضى الدليل الشرعي فليست ببدع وإن خرجت عن ذلك فكيف يندب إليها ؟ وهي مسألة النزاع
وذكر في قسم المكروه أشياء هي من قبيل البدع في الجملة ولا كلام فيها أو من قبيل الاحتياط على العبادات المحضة أن لا يزداد فيها ولا ينقص منها وذلك صحيح لأن الزيادة فيها والنقصان منها بدع منكرة فحالتها وذرائعها يحتاط بها في جانب النهي
وذكر في قسم المباح مسألة المناخل وليست ـ في الحقيقة ـ من البدع بل هي من باب التنعم ولا يقال فيمن تنعم بمباح : إنه قد ابتدع وإنما يرجع ذلك ـ إذا اعتبر ـ إلى جهة الإسراف في المأكل لأن الإسراف كما يكون في جهة الكمية يكون في جهة الكيفية فالمناخل لا تعدو القسمين فإن كان الإسراف من ماله فإن كره وإلا اغتفر مع أن الأصل الحواز
ومما يحكيه أهل التذكير من الآثار أو أول ما أحدث الناس أربعة أشياء : المناخل والشبع وغسل اليدين بالأشنان بعد الطعام والأكل على الموائد وهذا كله ـ إن ثبت نقلا ـ ليس ببدعة وإنما يرجع إلى أمر آخر وإن سلم أنه بدعة فلا نسلم أنها مباحة بل هي ضلالة ومنهي عنها ولكنا نقول بذلك
فصل وأما ما قاله عز الدين وأما ما قاله عز الدين فالكلام فيه على ما تقدم فأمثلة الواجب منها من قبل ما لا يتم الواجب إلا به ـ كما قال ـ فلا يشترط أن يكون معمولا به في السلف ولا أن يكون له أصل في الشريعة على الخصوص لأنه من باب المصالح المرسلة لا البدع
أما هذا الثاني فقد تقدم وأما الأول لو كان ثم من يسير إلى فريضة الحج طيرانا في الهواء أو مشيا على الماء لم يعد مبتدعا بمشيه كذلك لأن المقصود إنما هو التوصل إلى مكة لأداء الفرض وقد حصل على الكمال فكذلك هذا
على أن هذه أشياء قد ذمها بعض من تقدم من المصنفين في طريقة التصوف وعدها من جملة ما ابتدع الناس وذلك غير صحيح ويكفي في رده إجماع الناس قبله على خلاف ما قال
على أنه نقل عن القاسم بن مخيمرة : أنه ذكرت عنده العربية فقال : أولها كبر وآخرها بغي وحكي أن بعض السلف قال : النحو يذهب الخشوع من القلب ومن أراد أن يزدري الناس كلهم فلينظر في النحو ونقل نحو من هذه وهذه كلها لا دليل فيها على الذم لأنه لم يذم النحو من حيث هو بدعة بل من حيث ما يكتسب به أمر زائد كما يذم سائر علماء السوء لا لأجل علومهم بل لأجل ما يحدث لهم بالعرض من الكبر به والعجب وغيرهما ولا يلزم من ذلك كون العلم بدعة فتسمية العلوم التي يكتسب بها أمر مذموم بدعا إما على المجاز المحض من حيث لم يحتج إليها أولا ثم احيتج بعد أو من عدم المعرفة بموضوع البدعة إذ من العلوم الشرعية ما يداخل صاحبها الكبر والزهو وغيرهما ولا يعود ذلك عليها بذم
ومما حكى بعض هذه المتصوفة عن بعض علماء الخلف قال : العلوم تسعة أربعة منها سنة معروفة من الصحابة والتابعين وخمسة محدثة لم تكن تعرف فيما سلف فأما الأربعة المعروفة فعلم الإيمان وعلم القرآن وعلم الآثار والفتاوى وأما الخمسة المحدثة : فالنحو والعروض وعلم المقاييس والجدل في الفقه وعلم المعقول بالنظر
وهذا ـ إن صح نقله ـ فليس أولا كما قال فإن أهل العربية يحكون عن أبي الأسود الدؤلي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي أشار عليه بوضع شيء في النحو حين سمع أعرابيا قارئا { أن الله بريء من المشركين ورسوله } ـ بالجر ـ وقد روي عن ابن مليكة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر أن لا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة وأمر أبا الأسود فوضع النحو والعروض من جنس النحو وإذا كانت الإشارة من واحد من الخلفاء الراشدين صار النحو والنظر في الكلام العربي من سنة الخلفاء الراشدين وإن سلم أنه ليس كذلك فقاعدة المصالح تعم علوم العربية أي تكون من قبيل المشروع فهي من جنس كتب المصحف وتدوين الشرائع وما ذكر عن القاسم بن مخيمرة قد رجع عنه
قال أحمد بن يحيى ثعلبا ( ؟ ) قال : كان أحد الأئمة في الدين يعيب النحو ويقول : أول تعلمه شغل وآخره يزدري العالم به الناس فقرأ يوما : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } برفع الله ونصب العلماء فقيل له : كفرت من حيث لا تعلم : تجعل الله يخشى العلماء ؟ فقال : لا طعنت ( ؟ ) قال عن علم يدل إلى معرفة هذا أبدا
قال عثمان بن سعيد الداني : الإمام الذي ذكره أحمد بن يحيى هم القاسم بن بن مخيمرة قال : وقد جرى لعبد الله بن أبي إسحاق مع محمد بن سيرين كلام وكان ابن سيرين ينتقص النحويين فاجتمعا في جنازة فقرأ ابن سيرين { إنما يخشى الله من عباده العلماء } برفع اسم الله فقال له ابن أبي إسحاق : كفرت يا أبا بكر تعيب على هؤلاء الذين يقيمون كتاب الله ؟ فقال ابن سيرين : إن كنت أخطأت فأستغفر الله
وأما علم المقاييس فأصله في السنة ثم في علم السلف بالقياس ثم قد جاء في ذم القياس أشياء حملوها عل
فصل ومما يتعلق به بعض المتكلفين ومما يتعلق به بعض المتكلفين أن الصوفية هم المشهورون باتباع السنة المقتدون أفعال السلف الصالح المثابرون في أقوالهم وأفعالهم على الاقتداء التام والفرار عما يخالف ذلك ولذلك جعلوا طريقتهم مبنية على أكل الحلال واتباع السنة والإخلاص وهذا هو الحق ولكنهم في كثير من الأمور يستحسنون أشياء لم تأت في كتاب ولا سنة ولا عمل بأمثالها السلف الصالح فيعملون بمقتضاها ويثابرون عليها ويحكمونها طريقا لهم مهيعا وسنة لا تخلف بل ربما أوجبوها في بعض الأحوال فلولا أن في ذلك رخصة لم يصح لهم ما بنوا عليه
فمن ذلك أنهم يعتمدون في كثير من الأحكام على الكشف والمعاينة وخرق العادة فيحكمون بالحل والحرمة ويثبتون على ذلك الإقدام والإحجام كما يحكى عن المحاسبي أنه كان إذا تناول طعاما في شبهة ينبض له عرق في أصبعه فيمتنع منه
وقال الشبلي : اعتقدت وقتا أن لا آكل إلا من حلال فكنت أدور في البراري فرأيت شجرة تين فمددت يدي إليها لآكل فنادتني الشجرة : احفظ عليك عهدك لا تأكل مني فإني ليهودي
وقال إبراهيم الخواص رحمه الله : دخلت خربة في بعض الأسفار في طريق مكة بالليل فإذا فيها سبع عظيم فخفت فهتف بي هاتف : اثبت فإن حولك سبعين ألف ملك يحفظونك
فمثل هذه الأشياء إذا عرضت على قواعد الشريعة ظهر عدم البناء عليها إذ المكاشفة أو الهاتف المجهول أو تحرك بعض العروق لا يدل على التحليل ولا التحريم لإمكانه في نفسه وإلا لو حضر ذلك حاكم أو غيره لكان يجب عليه أو يندب البحث عنه حتى يستخرج من يد واضعة بين أيديهم إلى مستحقه ولو هتف هاتف بأن فلانا قتل المقتول الفلاني أمر أخذ مال فلان أو زنى أو سرق أكان يجب عليه العمل بقوله ؟ و يكون شاهدا في بعض الأحكام ؟ شرعي ؟ هذا مما لا يعهد في الشرع مثله
ولذلك قال العلماء : لو أن نبيا من الأنبياء ادعى الرسالة وقال : إنني إن أدع هذه الشجرة تكلمني ثم دعاها فأتت وكلمته وقالت : إنك كاذب لكان ذلك دليلا على صدقة لا دليلا على كذبه لأنه تحدى بأمر جاءه على وفق ما ادعاه وكون الكلام تصديقا أو تكذيبا أمر خارج عن مقتضى الدعوى لا حكم له
فكذلك نقول في هذه المسألة : إذا فرضنا أن انقباض العرق لازم لكون الطعام حراما لا يدل ذلك على أن الحكم بالأمساك عنه إذا لم يدل عليه دليل معتبر في الشرع معلوم
فكذلك مسألة الخواص فإن التوقي من مظان المهلكات مشروع فخلافه يظهر أنه خلاف المشروع وهو معتاد في أهل هاته الطريقة
وكذلك كلام الشجرة للشبلي من جملة الخوارق وبناء الحكم عليه غير معهود
ومن ذلك أنهم يبنون طريقهم على اجتناب الرخص جملة حتى إن شيخهم الذي مهد لهم الطريقة أبا القاسم القشيري قال في باب وصية المريدين من رسالته : إن اختلف على المريد فتاوى الفقهاء يأخذ بالأحوط ويقصد أبدا الخروج عن الخلاف فإن الرخص في الشريعة للمستضعفين وأصحاب الحوائج والأشغال وهؤلاء الطائفة ـ يعني الصوفية ـ ليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه ولهذا قيل : إذا انحط الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة فقد فسخ عقده ونقص عهده فيما بينه وبين الله
فهذا الكلام ظاهر في أنه ليس من شأنهم الترخص في مواطن الترخص المشروع وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم والسلف الصالح من الصحابة والتابعين فالتزام العزائم مع وجود مضار الرخص التيي قال فيها رسول الله عليه وسلم :
[ إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ] فيه ما فيه وظاهره أنه بدعة استحسنوها قمعا للنفس عن الاسترسال في الميل إلى الراحة وإيثارا إلى ما يبني عليه من المجاهدة
ومن ذلك
الباب الرابع في مأخذ أهل البدع بالاستدلال كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها لا بد له من تكلف في الاستدلال بأدلتها على خصوصات مسائلهم وإلا كذب اطراحها دعواهم بل كل مبتدع من هذه الأمة إما أن تدعي أنه هو صاحب السنة دون من خالفه من الفرق فلا يمكنه الرجوع إلى التعلق بشبهها وإذا رجع إليها كان الواجب عليه أن يأخذ الاستدلال مأخذ أهله العارفين بكلام العرب وكليات الشريعة ومقاصدها كما كان السلف الأول يأخذونها إلا أن هؤلاء ـ كما يتبين بعد ـ لم يبلغوا مبلغ الناظرين فيها بإطلاق إما لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب والعلم بمقاصدها وإما لعدم الرسوخ في العلم بقواعد الأصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية وإما لعدم الأمرين جميعا فبالحري أن تصير مآخذهم للأدلة مخالفة لمأخذ من تقدمهم من المحققين للأمرين
وإذا تقرر هذا فلا بد من التنبيه على تلك المآخذ لكي تحذر وتتقى فنقول :
قال الله سبحانه وتعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } وذلك أن هذه الآية شملت قسمين هما أصل المشي على طريق الصواب أو على طريق الخطأ
أحدهما : الراسخون في العلم وهم الثابتو الأقدام في علم الشريعة ولما كان ذلك متعذرا إلا على من حصل الأمرين المتقدمين لم يكن بد من المعرفة بهما معا على حسب ما تعطيه المنة الإنسانية وإذ ذاك يطلق عليه ( أنه راسخ في العلم ) ومقتضى الآية مدحه فهو إذا أهل للهداية والاستنباط
وحين خص أهل الزيغ باتباع المتشابه دل التخصيص على أن الراسخين لا يتبعونه فإذا لا يتبعون إلا المحكم وهو أم الكتاب ومعظمه
فكل دليل خاص أو عام شهد له معظم الشريعة فهو الدليل الصحيح وما سواه فاسد إذ ليس بين الصحيح والفاسد واسطة في الأدلة يستند إليها وإذ لو كان ثم ثالث لنصت عليه الآية
ثم لما خص الزائغون بكونهم يتبعون المتشابه أيضا علم أن الراسخين لا يتبعونه فإن تأولوه فبالرد إلى المحكم بأن أمكن حمله على المحكم بمقتضى القواعد فهذا المتشابه الإضافي لا الحقيقي وليس في الآية نص على حكمه بالنسبة إلى الراسخين فليرجع عندهم إلى المحكم الذي هو أم الكتاب وإن لم يتأولوه بناء على أنه متشابه حقيقي فيقاتلون بالتسليم وقولهم : { آمنا به كل من عند ربنا } وهؤلاء هم أولو الألباب
وكذلك ذكر في أهل الزيغ أنهم يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة فهم يطلبون به أهواءهم لحصول الفتنة فليس في نظرهم إذا في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه بل نظر من حكم بالهوى ثم أتى بالدليل كالشاهد له ولم يذكر مثل ذلك في الراسخين فهم إذن بضد هؤلاء حيث وقفوا في المتشابه فلم يحكموا فيه ولا عليه سوى التسليم وهذا المعنى خاص بمن طلب الحق من الأدلة لا يدخل فيه من طلب في الأدلة ما يصحح هواه السابق
ولاقسم الثاني : من ليس براسخ في العلم وهو الزائغ فحصل له من الأدلة وصفان :
أحدهما بالنص وهو الزيغ لقوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } والزيغ هو الميل عن الصراط المستقيم وهو ذم لهم
والوصف الثاني بالمعنى الذي أعطاه التقسيم وهو عدم الرسوخ في العلم وكل منفي عنه الرسوخ فإلى الجهل ما هو مائل ومن جهة الجهل حصل له الزيغ لأن من نفي عنه طريق الاستنباط واتباع الأدلة لبعض الجهالات لم يحل له أن يتبع الأدلة المحكمة ولا المتشابهة ولو فرضنا أنه يتبع المحكم لم يكن اتباعه مفيدا لحكمه لإمكان أن يتبعه على وجه واضح البطلان أو متشابه فما ظنك به إذا اتبع المتشابه
ثم اتباعه للمتشابه ـ ولو كان من جهة الاسترشاد به لا للفتنة به ـ لم يحصل به مقصودا على حال فما ظنك به إذا اتبع ابتغاء الفتنة ؟ وهكذا المحكم إذا اتبعه ابتغاء الفتنة به فكثيرا ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيح اقتصارا بالنظر على دليل ما واطراحا للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفروعية العاضدة لنظره أو المعارضة له
وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكا وربما أفتى بمقتضاه وعمل على وفقه إذا كان له فيه غرض أو أعرض عن غرض له عرض في الفتيا كجواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنموا على طريقة من عز بز لا طريقة الشرع بناء على نقل بعض العلماء أنه يجوز تنفيل السرية جميع ما غنمت ثم عزا ذلك ـ وهو مالكي المذهب ـ إلى مالك حيث قال في كلام روي عنه : ما نفل الإمام فهو جائز فأخذ هذه العبارة نصا على جواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنم ولم يلتفت في النفل إلى أن السرية هي القطعة من الجيش بعينه ولا التفت أيضا إلى أن النفل عند مالك لا يكون إلا من الخمس لا اختلاف عنه في ذلك أعلمه ولا عن أحد من أصحابه فما نفل الإمام منه فهو جائز لأنه محمول على الاجتهاد
وكذلك الأمر في كل مسألة فيها الهوى أولا ثم يطلب لها المخرج من كلام العلماء أو من أدلة الشرع وكلام العرب أبدا لاتساعه وتصرفه واحتمالاتها كثيرة لكن يعلم الراسخون المراد منه من أوله إلى آخره وفحواه أو بساط حاله أو قرائنه فمن لا يعتبره من أوله إلى آخره ويعتبر ما ابتنى عليه زل في فهمه وهو شأن من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض فيوشك أن يزل وليس هذا من شأن الراسخين وإنما هو من شأن من استعجل طلبا للمخرج في دعواه
فقد حصل من الآية المذكورة أن الزيغ لا يجري على طريق الراسخ بغير حكم الاتفاق وأن الراسخ لا زيغ معه بالقصد البتة
فصل إذا ثبت هذا رجعنا منه إلى معنى آخر إذا ثبت هذا رجعنا منه إلى معنى آخر فنقول :
إن للراسخين طريقا يسلكونها في اتباع الحق وأن الزائغين على طريق غير طريقهم فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنتجنبها كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها وقد بين ذلك أهل أصول الفقه وبسطوا القول فيه ولم يبسطوا القول في طريق الزائغين فهل يمكن حصر مآخذها أو لا ؟ فنظرنا في آية أخرى تتعلق بهم كما تتعلق بالراسخين وهي قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } فأفادت الآية أن طريق الحق واحدة وأن للباطل طرقا متعددة لا واحدة وتعددها لم يحص بعدد مخصوص وهكذا الحديث المفسر للآية وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه
[ خط لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطا فقال : هذا سبيل الله مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ] ثم تلا هذه الآية
ففي الحديث أنها خطوط متعددة غير محصورة بعدد فلم يكن لنا سبيل إلى حصر عددها من جهة النقل ولا لنا أيضا سبيل إلى حصرها من جهة العقل أو الاستقراء
أما العقل فإنه لا يقضي بعدد دون آخر لأنه غير راجع إلى أمر محصور ألا ترى أن الزيغ راجع إلى الجهالات ؟ ووجوه الجهل لا تنحصر فصار طلب حصرها عناء من غير فائدة
وأما الاستقراء فغير نافع أيضا في هذا المطلب لأنا لما نظرنا في طرق البدع من حين نبتت وجدناها تزداد على الأيام ولا يأتي زمان إلا وغريبة من غرائب الاستنباط تحدث إلى زماننا هذا
وإذا كان كذلك فيمكن أن يحدث بعد زماننا استدلالات أخر لا عهد لنا يها فيما تقدم لا سيما عند كثرة الجهل وقلة العلم وبعد الناظرين فيه عن درجة الاجتهاد فلا يمكن إذا حصرها من هذا الوجه ولا يقال : إنها ترجع إلى مخالفة طريق الحق فإن أوجه المخالفة لا تنحصر أيضا
فثبت أن تتبع هذا الوجه عناء لكنا نذكر من ذلك أوجها كلية يقاس عليها ما سواها
فمنها : اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة والمكذوب فيها على رسول الله صلى الله عليه و سلم والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها
وإنما أخذ بعض العلماء بالحديث الحسن لإلحاقه عند المحدثين بالصحيح لأن سنده ليس فيه من يعاب بجرحه متفق عليها وكذلك أخذ من أخذ منهم بالمرسل ليس إلا من حيث ألحق بالصحيح في أن المتروك ذكره كالمذكور والمعدل فأما ما دون ذلك فلا يؤخذ به بحال عند علماء الحديث
ولو كان من شأن أهل الإسلام إذا يبين ( ؟ ) عنه الأخذ من الأحاديث بكل ما جاء عن كل من جاء لم يكن لانتصابهم للتعديل والتجريح معنى مع أنهم قد أجمعوا على ذلك ولا كان لطلب الإسناد معنى يتحصل فلذلك جعلوا الإسناد من الدين ولا يعنون حدثني فلان عن فلان مجردا بل يريدون ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين براويته عنهم حتى لا يسند عن مجهول ولا مجروح ولا منهم إلا عمن تحصل الثقة بروايته لأن روح المسألة أن يغلب على الظن من غير ريبة أن ذلك الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه و سلم لنعتمد عليه في الشريعة ونسند إليه الأحكام
والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظن أن النبي صلى الله عليه و سلم قالها فلا يمكن أن يسند إليها حكم فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب ؟
نعم الحامل على اعتمادها في الغالب إنما هو ما تقدم من الهوى المتبع وهذا كله على فرض أن لا يعارض الحديث أصل من أصول الشريعة وأما إذا كان له معارض فأجرى أن لا يؤخذ به فهو هدم لأصل من أصول الشريعة والإجماع على منعه إذا كان صحيحا في الظاهر وذلك دليل على الوهم من بعض الرواة أو الغلط من بعض الرواة أو النسيان فما الظن به إذا لم يصح ؟ على أنه قد روي عن أحمد بن حنبل أنه قال : الحديث الضعيف خير من القياس وظاهره يقتضي العمل بالحديث غير الصحيح لأنه قدمه على القياس المعمول به عند جمهور المسلمين بل هو إجماع السلف رضي الله عنهم فدل على أنه عنده أعلى رتبة في العمل من القياس
والجواب عن هذا : أنه كلام مجتهد يحتمل اجتهاده الخطأ والصواب إذ ليس له على ذلك دليل يقطع العذر وإن سلم فيمكن حمله على خلاف ظاهره لإجماعهم على طرح الضعيف الإسناد فيجب تأويله على أن يكون أراد به الحسن السند وما دار به على القول بإعماله أو أراد خير من القياس لو كان مأخوذا به فكأنه يرد القياس بذلك الكلام مبالغة في معارضة من اعتمده أصلا حتى رد به الأحاديث وقد كان رحمه الله تعالى يميل إلى نفي القياس ولذلك قال : ما زلنا نلعن أهل الرأي ويلعنونا حتى جاء الشافعي فخرج بيننا أو أراد بالقياس القياس الفاسد الذي لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا إجماع ففضل عليه الحديث الضعيف وإن لم يعمل به وأيضا فإذا أمكن أن يحمل كلام أحمد على ما يسوغ لم يصح الاعتماد عليه في معارضة كلام الأئمة رضي الله عنهم
فإن قيل : هذا كله رد على الأئمة الذين اعتمدوا على الأحاديث التي لم تبلغ درجة الصحيح فإنهم كما نصوا على اشتراط صحة الإسناد كذلك نصوا أيضاعلى أن أحاديث الترغيب والترهيب لا يشترط في نقلها للإعتماد صحة الإسناد بل إن كان ذلك فبها ونعمت وإلا فلا حرج على من نقلها واستند إليها فقد فعله الأئمة كـ مالك في الموطأ و ابن المبارك في رقائقه و أحمد بن حنبل في رقائقه و سفيان في جمع الخير وغيرهم
فكل ما في هذا النوع من المنقولات راجع إلى الترغيب والترهيب وإذا جاز اعتماد مثله جاز فيما كان نحوه مما يرجع إليه كصلاة الرغائب والمعراج وليلة النصف من شعبان وليلة أول جمعة من رجب وصلاة الإيمان والأسبوع وصلاة بر الوالدين ويوم عاشوراء وصيام رجب والسابع والعشرين منه وما أشبه ذلك فإن جميعها راجع إلى الترغيب في العمل الصالح فالصلاة على الجملة ثابت أصلها وكذلك الصيام وقيام الليل كل ذلك راجع إلى خير نقلت فضيلته على الخصوص
وإذا ثبت هذا فكل ما نقلت فضيلته في الأحاديث فهو من باب الترغيب فلا يلزم فيه شهادة أهل الحديث بصحة الإسناد بخلاف الأحكام
فإذا هذا الوجه من الاستدلال من طريق الراسخين لا من طريق الذين في قلوبهم زيغ حيث فرقوا بين أحاديث الأحكام فاشترطوا فيها الصحة وبين أحاديث الترغيب والترهيب فلم يشترطوا فيها ذلك
فالجواب : أن ما ذكره علماء الحديث من التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب لا ينتظم مع مسألتنا المفروضة وبيانه : أن العمل المتكلم فيه إما أن يكون منصوصا على أصله جملة وتفصيلا أو لا يكون منصوصا عليه لا جملة ولا تفصيلا أو يكون منصوصا عليه جملة لا تفصيلا
فالأول : لا إشكال في صحته كالصلوات المفروضات والنوافل المرتبة لأسباب وغيرها وكالصيام المفروض أو المندوب على الوجه المعروف إذا فعلت على الوجه الذي نص عليه من غير زيادة ولا نقصان كصيام عاشوراء أو يوم عرفة والوتر بعد نوافل الليل وصلاة الكسوف فالنص جاء في هذه الأشياء صحيحا على ما شرطوا فثبتت أحكامها من الفرض والسنة والاستحباب فإذا ورد في مثلها أحاديث ترغيب فيها أو تحذير من ترك الفرض منها وليست بالغة مبلغ الصحة ولا هي أيضا من الضعف بحيث لا يقبلها أحد أو كانت موضوعة لا يصح الاستشهاد بها فلا بأس بذكرها والتحذير بها والترغيب بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح
والثاني : ظاهر أنه غير صحيح وهو عين البدعة لأنه لا يرجع إلا لمجرد الرأي المبني على الهوى وهو أبدع البدع وأفحشها كالرهبانية المنفية عن الإسلام والخصاء لمن خشي العنت والتعبد بالقيام في الشمس أو بالصمت من غير كلام أحد فالترغيب في مثل هذا لا يصح إذ لا يوجد في الشرع ولا أصل له يرغب في مثله أو يحذر من مخالفته
والثالث : ربما يتوهم أنه كالأول من جهة أنه إذا ثبت أصل عبادة في الجملة فيسهل في التفصيل نقله من طريق غير مشترط الصحة فمطلق التنفل بالصلاة مشروع فإذا جاء ترغيب في صلاة ليلة النصف من شعبان فقد عضده أصل الترغيب في صلاة النافلة وكذلك إذا ثبت أصل صيام ثبت صيام السابع والعشرين من رجب وما أشبه ذلك وليس كما توهموا لأن الأصل إذا ثبت في الجملة لا يلزم غثباته في التفصيل فإذا ثبت مطلق الصلاة لا يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر أو غيرها حتى ينص عليها على الخصوص وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام لا يلزم منه إثبات صوم رمضان أو عاشوراء أو شعبان أو غير ذلك حتى يثبت بالفصيل بدليل صحيح ثم ينظر بعد ذلك في أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثايت بالدليل الصحيح
وليس فيما ذكر في السؤال شيء من ذلك إذ لا ملازمة بين ثبوت التنفل الليلي والنهاري في الجملة وبين قيام ليلة النصف من شعبان بكذا وكذا ركعة يقرأ في كل لاكعة منها بسورة كذا على الخصوص كذا وكذا مرة ومثله صيام اليوم الفلاني من الشهر الفلاني حتى تصير تلك العبادة مقصودة على الخصوص ليس في شيء من ذلك ما يقتضيه مطلق شرعية التنفل بالصلاة أو الصيام
والدليل على ذلك أن تفضيل يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة بعبادة ما يتضمن حكما شرعيا فيه على الخصوص كما ثبت لعاشوراء مثلا أو لعرفة أو لشعبان مزية على مطلق التنفل بالصيام فإنه ثبت له مزية على الصيام في مطلق الأيام فتلك المزية اقتضت مرتبة في الأحكام أعلى من غيرها بحيث لا تفهم من مطلق مشروعية الصلاة النافلة لأن مطلق المشروعية يقتضي أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف في الجملة وصيام يوم عاشوراء يقتضي أنه يكفر السنة التي قبله فهو أمر زائد على مطلق المشروعية ومساقه يفيد له مزية في الرتبة وذلك راجع إلى الحكم
فإذا هذا الترغيب الخاص يقتضي مرتبة في نوع من المندوب خاصة فلا بد من رجوع إثبات الحكم إلى الأحاديث الصحيحة بناء على قولهم : إن الأحكام لا تثبت إلا من طريق صحيح والبدع المستدل عليها بغير الصحيح لا بد فيها من الزيادة على المشروعات كالتقييد بزمان أو عدد أو كيفية ما فليزم أن تكون أحكام تلك الزيادات ثابتة بغير الصحيح وهو ناقض لما أسسه العلماء
ولا يقال : إنهم يريدون أحكام الوجوب والتحريم فقط لأنا نقول : هذا تحكم من غير دليل بل الأحكام خمسة فكما لا يثبت الوجوب إلا بالصحيح فإذا ثبت الحكم فاستسهل أن يثبت في أحاديث الترغيب والترهيب ولا عليك فعلى كل تقدير : كل ما رغب فيه إن ثبت حكمه ومرتبته في المشروعات من طريق صحيح فالترغيب فيه بغير الصحيح مغتفر وإن لم يثبت إلا من
***********************==============================ج2222222222222.....................
الكتاب : الاعتصام
المؤلف : الشاطبي
فصل ومنها ضد هذا وهو ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومنها ضد هذا وهو ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ويدعون أنها مخالفة للمعقول وغيرجارية على مقتضى الدليل فيجب ردها كلمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية الله عز و جل في الآخرة وكذلك
حديث الذباب وقتله وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء وأنه يقدم الذي فيه الداء ! وحديث :
الذي أخذ أخاه بطنه فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بسقيه العسل وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول
ربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ـ وحاشاهم ـ وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة لينفروا الأمة عن اتباع السنة وأهلها كما روي عن أبي بكر بن محمد أنه قال : قال عمرو بن عبيد : ألا يعفى عن اللص دون السلطان قال فحدثته بحديث صفوان بن أمية عن النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال :
[ فهلا قبل أن تأتيني به ] قال : أتحلف بالله أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله ؟ قلت : أفتحلف بالله أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقله ؟ فحدثت به ابن عون ـ قال ـ فلما عظمت الحلقة قال : يا ابا بكر حديث
وقد جعلوا القول بإثبات الصراط والميزان والحوض قولا بما لا يعقل وقد سئل بعضهم : هل يكفر من قال برؤية الباري في الآخرة ؟ فقال : لا يكفر لأنه قال ما لا يعقل ومن قال ما لا يعقل فليس بكافر
وذهبت طائفة إلى نفي أخبار الآحاد جملة والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن حتى أباحوا الخمر بقوله : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية ففي هؤلاء وأمثالهم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ] وهذا وعيد شديد تضمنه النهي لاحق بمن ارتكب رد السنة
ولما ردوها بتحكم العقول كان الكلام معهم راجعا إلى أصل التسحين والتقبيح وهو مذكور في الأصول وسيأتي له بيان إن شاء الله
وقال عمر بن النضر : سئل عمرو بن عبيد يوما عن شيء ـ وأنا عنده ـ فأجاب فيه فقلت له : ليس هكذا يقول أصحابنا قال : ومن أصحابك لا أبا لك ؟ قلت : أيوب ويونس وابن عون والتميمي قال : أولئك أنجاس أرجال أموات غير أحياء
وقال ابن علية : حدثني اليسع قال : تكلم واصل ( يعني ابن عطاء ) يوما ـ قال ـ فقال عمرو بن عبيد : ألا تسمعون ؟ ما كلام الحسن وابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقة حيضة ملقاة كان واصل بن عطاء أول من تكلم في الاعتزال فدخل معه في ذلك عمرو بن عبيد فأعجب به فزوجه أخته وقال لها : وزجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة ثم تجاوزوا الحد حتى ردوا القرآن بالتلويح والتصريح لرأيهم السوء فحكى عمرو بن علي أنه سمع ممن يثق به أنه قال : كنت عند عمرو بن عبيد ـ وهو جالس على دكان عثمان الطويل ـ فأتاه رجل فقال : يا أبا عثمان ! ما سمعت من الحسن يقول في قول الله عز و جل : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } قال : تريد أخبرك برأي حسن قال : لا أريد إلا ما سمعت من الحسن قال : سمعت الحسن يقول : كتب الله على قوم القتل فلا يموتون إلا قتلا وكتب على قوم الهدم فلا يموتون إلا هدما وكتب على قوم الغرق فلا يموتون إلا غرقا وكتب على قوم الحريق فلا يموتون إلا حرقا فقال له عثمان الطويل : يا أبا عثمان ليس هذا قولنا قال عمرو : قد قلت أريد أن أخبرك برأي الحسن فأنا أكذب على الحسن
وعن الأثرم عن أحمد بن حنبل قال : حدثنا معاذ قال : كنت عند عمرو بن عبيد فجاءه عثمان بن فلان فقال : يا أبا عثمان ! سمعت ـ والله ـ بالكفر قال ما هو ؟ لا تعجل بالكفر قال : هاشم الأوقص زعم أن { تبت يدا أبي لهب } وقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيدا } لم يكن هذا في أم الكتاب والله تعالى يقول : { حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } فما الكفر إلا هذا فسكت ساعة ثم تكلم فقال : والله لو كان الأمر كما تقول ما كان علي أبي لهب من لوم ولا كان على الوحيد من لوم قال عثمان ـ في مجلسه ـ : هذا والله الدين ـ قال معاذ ـ ثم قال في آخره : فذكرته لوكيع فقال : يستتاب قائلها فإن تاب وإلا ضربت عنقه
ومثل هذا محكي لكن عن بعض المرموقين من أئمة الحديث فروي عن علي بن المديني عن المؤمل عن الحسن بن وهب الجمحي قال : الذي كان بيني وبين فلان خاص فانطلق بأهله إلى بئر ميمون فأرسل إلي : أن ائتني فأتيته عشية فبت عنده قال : فهو في فسطاط وأنا في فسطاط آخر فجعلت أسمع صوته الليل كله كأنه دوي النحل قال : فلما أصبحنا جاء بغذائه فتغذينا قال : وذكر ما بيني وبينه من الإخاء والحق قال : فقال لي : أدعوك إلى رأي الحسن قال : وفتح لي شيئا من القدر قال : فقمت من عنده فما كلمته بكلمة حتى لقي الله قال : فأنا يوما خارج من الطريق في الطواف وهو داخل أو أنا داخل وهو خارج فأخذ بيدي فقال : يا أبا عمر حتى متى ؟ حتى متى ؟ قال : فلم أكلمه فقال : ما لي ؟ أرأيت لو أن رجلا قال : تبت يدا أبي لهب ليست من القرآن ؟ ما كنت تقول له ؟ قال : فنزعت يدي من يده قال علي : قال مؤمل : فحدثت به سفيان بن عيينة فقال لي : ما كنت أرى أنه أبلغ هذا كله
قال علي : وسمعته أنا وأحمد بن حنبل
قال : حدثت أنا سفيان بن عيينة عن معلى الطحان ببعض حديثه فقال : ما أحوج صاحب هذا الرأي إلى أن يقتل ؟
فانظروا إلى تجاسرهم على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم ! كل ذلك ترجيح لمذاهبهم على محض الحق وأقربهم إلى هيبة الشريعة من يتطلب بها المخرج فيتأول لها الواضحات ويتبع المتشابهات وسياي والجميع داخلون تحت ذمها
وربما احتج طائفة من نابته المبتدعة على رد الأحاديث بأنها إنما تفيد الظن وقد ذم الظن في القرآن كقوله تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } وقال : { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } وما جاء في معناه حتى أحلوا أشياء مما حرمها الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه و سلم وليس تحريمها في القرآن نصا وإنما قصدوا من ذلك أن يثبت لهم من أنظار عقولهم ما استحسنوا
والظن المراد في الآية وفي الحديث أيضا غير ما زعموا وقد وجدنا له محال ثلاثة :
أحدها : الظن في أصول الدين فإنه لا يغني عند العلماء لاحتماله النقيض عند الظان بخلاف الظن في الفروع فإنه معمول به عند أهل الشريعة للدليل الدال على إعماله فكان الظن مذموما إلا ما تعلق منه بالفروع وهذا صحيح ذكره العلماء في هذا الموضع
والثاني : أن الظن هنا هو ترجيح أحد النقيضين على الآخر من غير دليل مرجح ولا شك أنه مذموم هنا لأنه من التحكم ولذلك أتبع في الآية بهوى النفس في قوله : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } فكأنهم مالوا إلى أمر بمجرد الغرض والهوى ولذلك أثبت ذمه بخلاف الظن الذي أثاره دليل فإنه غير مذموم في الجملة لأنه خارج عن اتباع الهوى ولذلك أثبت وعمل بمقتضاه حيث يليق العمل بمثله كالفروع
والثالث : أن الظن على ضربين : ظن يستند إلى أصل قطعي وهذه هي الظنون المعمول بها في الشريعة أينما وقعت لأنها استندت إلى أصل معلوم فهي من قبيل المعلوم جنسه وظن لا يستند إلى قطعي بل إما مستند إلى غير شيء أصلا وهو مذموم ـ كما تقدم ـ وإما مستند إلى ظن مثله فلذلك الظن إن استند أيضا إلى قطعي فكالأول أو إلى ظني رجعنا إليه فلا بد أن يستند إلى قطعي وهو محمود أو إلى غير شيء وهو مذموم فعلى كل تقدير : خبر واحد صح سنده فلا بد من استناده إلى أصل في الشريعة قطعي فيجب قبوله ومن هنا قبلناه مطلقا كما أن ظنون الكفار غير مستندة إلى شيء فلا بد من ردها وعدم اعتبارها وهذا الجواب الأخير مستمد من أصل وقع بسطه في كتاب الموافقات والحمد لله
ولقد بالغ بعض الضالين في رد الأحاديث ورد قول من اعتمد على ما فيها حتى عدوا القول به مخالفا للعقل والقائل به معدود في المجانين
فحكى أبو بكر العربي عن بعض من لقي بالمشرق من المنكرين للرؤية أنه قيل له : هل يكفر من يقول بإثبات رؤية الباري أم لا ؟ فقال : لا ! لأنه قال بما لا يعقل ومن قال بما لا يعقل لا يكفر قال ابن العربي : فهذه منزلتنا عندهم فليعتبر الموفق بما يؤدي إليه اتباع الهوى أعاذنا الله من ذلك بفضله
وزل بعض المرموقين في زماننا في هذه المسألة فزعم أن خبر الواحد كله زعم وهو ما حكى في الأثر :
[ بئس مطية الرجل زعموا ] والأثر الآخر :
[ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ] وهذه من كلام هذا المتأخر زلة عفا الله عنه
فصل تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة ومنها : تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العرو عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله فيفتانون على الشريعة بما فهموا ويدينون به ويخالفون الراسخون في العلم وإنما دخلوا ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط وليسوا كذلك كما حكي عن بعضهم أنه سئل عن قول الله تعالى : { ريح فيها صر } فقال : هو هذا الصرصر يعني صرار الليل وعن النظام أنه كان يقول : إذا آلى المرء بغير اسم الله لم يكن موليا قال : لأن الإيلاء مشتق من اسم الله وقال بعضهم في قول الله تعالى : { وعصى آدم ربه فغوى } لكثرة أكله من السجرة يذهبون إلى قول العرب غوى الفصيل إذا أكثر من اللبن حتى بشم ولا يقال فيه غوى وإنما غوى من الغي وفي قوله سبحانه : { ولقد ذرأنا لجهنم } أي : ألقينا فيها كأنه عندهم من قول العرب ذرته الريح وذلك لا يجوز لأن ذرأنا مهموز وذرته غير مهموز وكذلك إذا كان من أذرته الدابة عن ظهرها لعدم الهمزة ولكنه رباعي وذرأنا ثلاثي
وحكى ابن قتيبة عن بشر المريسي أنه كان يقول لجلسائه : قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهيئتها فسمع قاسم التمار قوما يضحكون فقال : هذا كما قال الشاعر :
( إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كلن يرزؤها )
وبشر المريسي رأس في الرأي وقاسم التمار رأس في على الكلام
قال ابن قتيبة : واحتجاجه ببشر أعجب من لحن بشر واستدل بعضهم تحليل شحم الخنزير بقول الله تعالى
: { ولحم الخنزير } فاقتصر على تحريم اللحم دون غيره فدل على أنه حلال وربما سلم بعض العلماء ما قالوا وزعم أن الشحم إنما حرم بالإجماع والأمر أيسر من ذلك فإن اللحم يطلق على الشحم وغيره حقيقة حتى إذا خص بالذكر قيل : شحم كما يقال : عرق وعصب وجلد ولو كان على ما قالوا لزم أن لا يكون العرق والعصب ولا الجلد ولا المخ ولا النخاع ولا غير ذلك مما خص بالاسم محرما وهو خروج عن القول بتحريم الخنزير
ويمكن أن يكون من خفي هذا الباب مذهب الخوارج في زعمهم : أن لا تحكيم
استدلالا بقوله تعالى : { إن الحكم إلا لله } فإنه مبني على أن اللفظ ورد بصيغة العموم فلا يلحقه تخصيص فلذلك أعرضوا عن قول الله تعالى : { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } وقوله : { يحكم به ذوا عدل منكم } وإلا فلو علموا تحقيقا قاعدة العرب في أن من العموم لم يرد به الخصوص لم يسرعوا إلى الإنكار ولقالوا في أنفسهم هل هذا العام مخصوص ؟ فيتأولون وفي الوضع وجه آخر مذكور في موضع غير هذا وكثيرا ما يوقع الجهل بكلام العرب في مجاز لا يرضى بها عاقل اعاذنا الله من الجهل والعمل به بفضله
فمثل هذه الاستدلالات لا يعبأ بها وتسقط مكالمة أهلها ولا يعد خلاف أمثالهم وما استدلوا عليه من الأحكام الفروعية أو الأصولية فهو عين البدعة إذ هو خروج عن طريقة كلام العرب إلى اتباع الهوى فحق ما حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال : إنما هذا القرآن كلام فضعوه مواضعه ولا تتبعوا به أهواءكم أي فضعوه على مواضع الكلام ولا تخرجوه عن ذلك فإنه خروج عن طريقة المستقيم إلى اتباع الهوى
وعنه أيضا : إنما أخاف عليكم رجلين رجل تأول القرآن على غير تأويله ورجل ينفس المال على أخيه وعن الحسن رضي الله تعالى عنه أنه قيل له : أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه ؟ قال : نعم فليتعلمها فإن الرجل يقرأ بالآية فيعياه توجيهيها فيهلك وعنه أيضا قال : أهلكتكم العجمة تتأولون القرآن على غير تأويله
فصل ومنها : انحرافهم عن الأصول الواضحة ومنها : انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف وطلب الأخذ بها تأويلا ـ كما أخبر الله تعالى في كتابه ـ إشارة إلى النصارى في قولهم بالثالوثي بقوله : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } وقد علم العلماء أن كل دليل فيه اشتباه وإشكال ليس بدليل في الحقيقة حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه ويشترط في ذلك أن لا يعارضه أصل قطعي فإذا لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك أو عارضه قطعي كظهور تشبيه فليس بدليل لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهرا في نفسه ودالا على غيره وإلا احتيج إلى دليل فإن دل الدليل على عدم صحته فأحرى أن لا يكون دليلا
ولا يمكن أن تعارض الفروع الجزئية الأصول الكلية لأن الفروع الجزئية إن لم تقتض عملا فهي في محل التوقف وإن اقتضت عملا فالرجوع إلى الأصول هو الصراط المستقيم ويتناول الجزئيات حتى إلى الكليات فمن عكس الأمر حاول شططا ودخل في حكم الذم لأن متبع الشبهات مذموم فكيف يعتد بالمتشابهات دليلا ؟ أو يبنى عليها حكم من الأحكام ؟ وإذا لم تكن دليلا في نفس الأمر فجعلها بدعة محدثة هو الحق
ومن الأمثلة أيضا أن جماعة زعموا أن القرآن مخلوق تعلقا بالمتشابه والمتشابه الذي تعلقوا به على وجهين : عقلي ـ في زعمهم ـ وسمعي
فالعقلي أن صفة الكلام من جملة الصفات وذات الله عندهم برئية من التركيب جملة وإثبات صفات الذات قول بتركيب الذات وهو محال لأنه واحد على الإطلاق فلا يمكن أن يكون متكلما بكلام قائم به كما لا يكون قادرا بقدرة قائمة به أو عالما بعلم قائم به إلى سائر الصفات
وأيضا فالكلام لا يعقل إلا بأصوات وحروف وكل ذلك من صفات المحدثات والباري تنزه عنها وبعد هذا الأصل يرجعون إلى تأويل قوله سبحانه : { وكلم الله موسى تكليما } وأشباهه
وأما السمعي فنحو قوله تعالى : { الله خالق كل شيء } والقرآن إما أن يكون شيئا أو لا شيء ولا شيء عدم والقرآن ثابت هذا خلف وإن كان شيئا فقد شملته الآية فهو إذا مخلوق وبهذا استدل المريسي على عبد العزيز المكي رحمه الله تعالى
أما تركهم للقاعدة فلم ينظروا في قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } وهذه الآية نقلية عقلية لأن المشابه للمخلوق في وجه ما مخلوق مثله إذ ما وجب للشيء وجب لمثله فكما تكون الآية دليلا على نفي الشبه تكون دليلا لهؤلاء لأنهم عاملوه في التنزيه معاملة المخلوق حيث توهموا أن اتصاف ذاته بالصفات يقتضي التركيب
وأما تركهم لمعاني الخطاب فإن العرب لا تفهم من قوله : { السميع البصير } و { السميع العليم } أو { القدير } وما اشبه ذلك إلا من له سمع وبصر وعلم وقدرة اتصف بها فإخراجها عن حقائق معانيها التي نزل القرآن بها خروج عن أم الكتاب إلى اتباع ما تشابه منه من غير حاجة
وحيث ردوا هذه الصفات إلى الأحوال التي هي العالمية والقادرية فما ألزموه في العلم والقدرة لازم لهم في العالمية والقادرية لأنها إما موجودة فيلزم التركيب أو معدومة والعدم نفي محض
وأما كون الكلام هو الأصوات والحروف فبناء على عدم النظر في الكلام النفسي وهو مذكور في الأول
وأما الشبهة السمعية فكأنها عندهم بالتبع لأن العقول عندهم هي العمدة المعتمدة ولكنهم يلزمهم بذلك الدليل مثل ما مر والله لأن قوله تعالى : { الله خالق كل شيء } إما أن يكون على عمومه لا يتخلف عنه شيء أو لا فإن كان على عمومه فتخصيصه إما بغير دليل ـ وهو التحكم ـ وإما بدليل فأبرزوا حتى ننظر فيه ويلزم مثله في الإرادة إن ردوا الكلام إليها وكذلك غيرها من الصفات إن قرأوا بها أو الأحوال إن أنكروها وهذا الكلام معهم بحسب الوقت
والذي يليق بالمسألة أنواع أخر من الأدلة التي تقتضي كون هذا المذهب بدعة لا يلائم قواعد الشريعة
ومن أغرب ما يوضع ههنا ما حكاه المسعودي وذكره الآجري ـ في كتاب الشريعة ـ بأبسط مما ذكره المسعودي واللفظ هنا للمسعودي مع إصلاح بعض الألفاظ قال : ذكر صالح بن علي الهاشمي قال : حضرت يوما من الأيام جلوس المهتدي للمظالم فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ الكتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته فأقبلت أرمقه ببصري إذا نظر في القصص فإذا رفع طرفه إلي أطرقت فكأنه علم ما في نفسي
فقال لي : يا صالح أحسب أن في نفسك شيئا تحب أن تذكره ـ قال ـ فقلت : نعم يا أمير المؤمنين فأمسك فلما فرغ من جلوسه أمر أن لا أبرح ونهض فجلست جلوسا طويلا فقمت إليه وهو على حصير الصلاة فقال لي : يا صالح أتحدثني بما في نفسك ؟ أم أحدثك ؟ فقلت : بل هو أمير المؤمنين أحسن
فقال : كأنني بك وقد استحسنت من مجلسنا فقلت : أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول بقول أبيه من القول بخلق القرآن فقال : قد كنت على ذلك برهة من الدهر حتى أقدم علي الواثق شيخا من أهل الفقه والحديث من أذنة من الثغر الشامي مقيدا طوالا حسن الشبيه فسلم غير هائب ودعا فأوجز فرأيت الحياء منه في حماليق عيني الواثق والرحمة عليه
فقال : يا شيخ أجب أبا عبد الله أحمد بن أبي داؤد عما يسألك عنه فقال : يا أمير المؤمنين أحمد يصغر ويضعف ويقل عند المناظرة فرأيت الواثق وقد صار مكان الرحمة غضبا عليه فقال : أبو عبد الله يصغر ويضعف ويقل عند مناظرتك ؟ فقال : هون عليك يا أمير المؤمنين أتأذن لي في كلامه ؟ فقال له الواثق : قد أذنت ذلك
فأقبل الشيخ على أحمد فقال : يا أحمد إلام دعوت الناس ؟ فقال أحمد : إلى القول بخلق القرآن فقال له الشيخ : مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها من القول بخلق القرآن أداخله في الدين فلا يكون الدين تاما إلا بالقول بها ؟ قال : نعم قال الشيخ : فرسول الله صلى الله عليه و سلم دعا الناس إليها أم تركهم ؟ قال : لا قال له : يعلمها أم لم يعلمها ؟ قال : علمها قال : فلم دعوت الناس إلى ما لم يدعهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه وتركهم منه ؟ فأمسك فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين هذه واحدة
ثم قال له : أخبرني يا أحمد قال الله تعالى في كتابه العزيز : { اليوم أكملت لكم دينكم } فقلت أنت : الدين لا يكون تاما إلا بمقالتك بخلق القرآن فالله تعالى عز و جل صدق في تمام وكماله أم أنت في نقصانك ؟ فأمسك فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين وهذه ثانية
ثم قال بعد ساعة : أخبرني يا أحمد قال الله عز و جل : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الأمة أم لا ؟ فأمسك فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين وهذه ثالثة ثم قال بعد ساعة : أخبرني يا أحمد
لما علم رسول الله صلى الله عليه و سلم مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها : اتسع له عن أن أمسك عنهم أم لا ؟ قال أحمد : بل اتسع له ذلك فقال الشيخ : وكذلك لأبي بكر ؟ وكذلك لعمر ؟ وكذلك لعثمان ؟ وكذلك لعلي ؟ رحمة الله عليهم قال : نعم فصرف وجهه إلى الواثق وقال : يا أمير المؤمنين : إذا لم يتسع لنا ما اتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه ولأصحابه فلا وسع الله علينا ثم قال الواثق : اقطعوا قيوده فلما فكت جاذب عليها فقال الواثق : دعوه ثم قال : يا شيخ لم جاذبت عليها ؟ قال لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليها فإذا أخذتها أوصيت أن تجعل بين يدي وكفي ثم أقول : يا ربي سل عبدك : لم قيدني ظلما وارتاع بي أهلي ؟ فبكى الواثق والشيخ وكل من حضر ثم قال له الواثق : يا شيخ : اجعلني في حل فقال : يا أمير المؤمنين : ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حل إعظاما لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولقرابتك منه فتهلل وجه الواثق وسر ثم قال له : أقم عندي آنس بك فقال له : مكاني في ذلك الثغر أنفع وأنا شيخ كبير ولي حاجة قال : سل ما بدا لك قال : يأذن أمير المؤمنين في رجوعي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم قال : قد أذنت لك وأمر له بجائزة فلم يقبلها فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة وأحسب أيضا أن الواثق رجع عنها
فتأملوا هذه الحا \ كاية ففيها عبرة لأولي الألباب ز وأنظروا كيف مأخذ الخصوم في لإفحامهم لخصومهم بالرد عليهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم
ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد وهو الجهل بمقاصد الشرع وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها وعامها المرتب على خاصها ومطلقها المحمول على مقيدها ومجملها المفسر بينهما إلى ما سوى ذلك من مناحيها فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام فلذلك الذي نظمت به حين استنبطت
وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا حتى يستنطق فلا ينطق باليد وحدها ولا بالرجل وحدها ولا بالرأس وحده زلا باللسان وحده بل بجملته التي سمي بها إنسانا كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها لا من دليل منها أي كان نطق ذلك الدليل فإنما هو توهمي لا حقيقي كاليد إذا استنقطت فإنما تنطق توهما لا حقيقة من حيث علمت أنها يد إنسان لا من حيث هي إنسان لأنه محال
فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها كأعضاء افنسان إذا صورت صورة مثمرة
وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما أي كان عفوا وأخذا أوليا وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي فكأن العضو الواحد لا يعطى في مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا فمتبعه متبع متشابه ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ كما شهد الله به : { ومن أصدق من الله قيلا }
فصل وعند ذلك نقول وعند ذلك نقول :
من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها وبالعمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا ؟ وكذلك العكس بأن يكون النص مقيدا فيطلق أو خاصا فيعم بالرأي من غير دليل سواه فإن هذا المسلك رمي في عماية واتباع للهوى في الدليل وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتيه إذا لم يقيد فإذا قيد صار واضحا كما أن إطلاق المقيد رأي في ذلك المقيد معارض للنص من غير دليل
فمثال الأول : أن الشريعة قد ورد طلبها على المكلفين على الإطلاق والعموم ولا يرفعها عذر إلا العذر الرافع للخطاب رأسا وهو زوال العقل فلو بلغ المكلف في مراتب الفضائل الدينية إلى أي رتبة بلغ بقي التكليف عليه كذلك إلى الموت ولا رتبة لأحد يبلغها في الدين كرتبة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم رتبة أصحابه البررة ولم يسقط عنهم من التكليف مثقال ذرة إلا ما كان من تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى الآحاد كالزمن لا يطالب بالجهاد والمقعد لا يطالب بالصلاة قائما والحائض لا تطالب بالصلاة المخاطب بها في حال حيضها ولا ما أشبه ذلك
فمن رأى أن التكليف قد يرفعه البلوغ إلى مرتبة ما من مراتب الدين ـ كما يقوله أهل الإباحة ـ كان قوله بدعة مخرجة عن الدين
ومنه دعاوى أهل البدع على الأحاديث الصحيحة مناقضتها للقرآن أو مناقضة بعضها بعضا وفساد معانيها أو مخالفتها للعقول ـ كما حكموا بذلك في قوله صلى الله عليه و سلم للمتحاكمين إليه :
[ والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : مائة الشاة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام وعلى المرأة هذه الرجم واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ] فغدا عليها فاعترفت فرجمها قالوا : هذا مخالف لكتاب الله لأنه قضى بالرجم والتغريب وليس للرجم ولا للتغريب في كتاب الله ذكر فإن كان الحديث باطلا فهو ما أردنا وإن كان حقا فقد ناقض كتاب الله بزيادة الرجم والتغريب
فهذا اتباع للمتشابه لأن الكتاب في كلام العرب وفي الشرع على وجوه : منها الحكم والفرض كقوله تعالى : { كتاب الله عليكم } وقال تعالى : { كتب عليكم الصيام } { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال } فكان المعنى : لأقضين بينكما بكتاب الله أي بحكم الله الذي شرع لنا كما أن الكتاب يطلق على القرآن فتخصيصهم الكتاب بأحد المحامل من غير دليل اتباع لما تشابه من الأدلة
وفي الحديث :
[ مثل أمتي كمطر لا يدري أوله خير أم آخره ؟ ] قالوا : فهذا يقتضي أنه لم يثبت لأول هذه الأمة فضل على الخصوص دون آخرها ولا العكس ثم نقل :
[ إن الإسلام بدىء غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوبى للغرباء ] فهذا يقتضي تفضيل الأولين والآخرين على الوسط ثم نقل :
[ خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ] فاقتضي أن الأولين أفضل على الإطلاق
قالوا : فهذا تناقض وكذبوا ليس ثم تناقض ولا اختلاف
وذلك أن التعارض إذا ظهر لبادي الرأي في المقولات الشرعية فإما أن لا يمكن الجمع بينهما أصلا وإما أن يمكن فإن لم يمكن فهذا الفرض بين قطعي وظني أو بين ظنين فأما بين قطعيين فلا يقع في الشريعة ولا يمكن وقوعه لأن تعارض القطعيين محال فإن وقع بين قطعي وظني بطل الظني وإن وقع بين ظنيين فههنا للعلماء فيه الترجيح والعمل بالأرجح متعين وإن أمكن الجمع ـ فقد اتفق النظار على إعمال وجه الجمع وإن كان وجه الجمع ضعيفا فإن الجمع أولى عندهم وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها فهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأسا إما جهلا به أو عنادا
فإذا ثبت هذا فقوله : [ خير القرون قرني ] هو الأصل في الباب فلا يبلغ أحد منا مبلغ الصحابة رضي الله عنهم وما سواه يحتمل التأويل على حال أو زمان أو في بعض الوجوه
وأما قوله : [ فطوبى للغرباء ] لا نص فيه على التفضيل المشار إليه بل هو دليل على جزاء حسن ويبقى النظر في كونهم مثل جزاء الصحابة أو دونه أو فوقه محتمل فليس في الحديث عليه دليل فلا بد من حمله الأصل ولا إشكال
ومن ذلك قولهم بالتناقض في قوله صلى الله عليه و سلم :
[ لا تفضلوني على يونس بن متى ولا تخيروا بين الأنبياء وبيني ] وقوله :
[ أنا سيد ولد آدم ولا فخر ] ووجه الجمع بينمها ظاهر
ومنه أنهم قالوا في قوله صلى الله عليه و سلم :
[ إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ] : إن هذا الحديث يفسد آخره أوله فإن أوله صحيح لولا قوله : فإن أحدكم لا يدري كذا فما منا أحد إلا درى أين باتت يده وأشد الأمور أن يكون مس بها فرجه ولو أن رجلا فعل ذلك في اليقظة لما طلب بغسل يده فكيف يطلب بالغسل ولا يدري هل مس فرجه أم لا ؟
وهذا الاعتراض من النمط الذي قبله : إذ النائم قد يمس فرجه فيصيبه شيء من نجاسة في المحل لعدم استنجاء تقدم النوم أو يكون استجمر فوق موضع الاستجمار وهو لو كان يقظان فمس لعلم بالنجاسة إذا علقت بيده فيغسلها في الإناء لئلا يفسد الماء وإذا أمكن هذا لم يتوجه الاعتراض
فجميع ما ذكر في هذا الفصل راجع إلى إسقاط الأحاديث بالرأي المذموم الذي تقدم الاستشهاد عليه أنه من البدع المحدثات
فصل ومنها : تحريف الأدلة عن مواضعها ومنها : تحريف الأدلة عن مواضعها بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهما أن المناطين واحد وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام ويذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحا إلا مع اشتباه يعرض له أو جهل يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه فيكون بذلك السبب مبتدعا
وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرا في الجملة مما يتعلق بالعبادات ـ مثلا فأتى به المكلف في الجملة أيضا كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة كان الدليل عاضدا لعلمه من جهتين : من جهة معناه ومن جهة عمل السلف الصالح به فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو مقارنا لعباده مخصوصة والتزم ذلك بحيث صار متخيلا أن الكيفية أو الزمان أو المكان مقصود شرعا من غير أن يدل الدليل عليه كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه
فإذا ندب الشرع مثلا إلى ذكر الله فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات ـ لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم بل فيه ما يدل على خلافه لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعا شأنها أن تفهم التشريع وخصوصا مع من يقتدى به في مجامع الناس كالمساجد فإنها إذا ظهرت هذا الإظهار ووضعت في المساجد كسائر الشعائر التي وضعها رسول الله صلى الله عليه و سلم في المساجد وما أشبهها كالأذان وصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف ـ فهم منها بلا شك أنها سنن إذا لم تفهم منها الفرضية فأحرى أن لا يتناولها الدليل المستدل به فصارت من هذه الجهة بدعا محدثة بذلك
وعلى ذلك ترك التزام السلف لتلك الأشياء أو عدم العمل بها وهم كانوا أحق بها وأهلها لو كانت مشروعة على مقتضى القواعد لأن الذكر قد ندب إليه الشرع ندبا في مواضع كثيرة حتى إنه لم يطلب في تكثير عبادة من العبادات ما طلب من التكثير من الذكر كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا } الآية وقوله : { وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } بخلاف سائر العبادات
ومثل هذا الدعاء فإنه ذكر الله ومع ذلك فلم يلتزموا فيه كيفيات ولا قيدوه بأوقات مخصوصة بحيث تشعر بحيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الأوقات إلا ما عينه الدليل كالغداة والعشي ولا أظهروا منه إلا ما نص الشارع على إظهاره كالذكر في العيدين وشبهه وما سوى فكانوا مثابرين على إخفائه وسره ولذلك قال لهم حين رفعوا أصواتهم :
[ أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ] واشباهه ولم يظهرون في الجماعات
فكل من خالف هذا الأصل فقد خالف إطلاق الدليل أولا لأنه قيد فيه بالرأي وخالف من كان أعرف منه بالشريعة وهم السلف الصالح رضي الله عنهم بل :
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يترك العمل وهو يجب أن يعمل به خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم
وفي فصل من الموافقات جملة من هذا وهو مزلة قدم فقد يتوهم أن إطلاق اللفظ يشعر بجواز كل ما يمكن في مدلوله وقوعا وليس خصوصا في العبادات فإنها محمولة على التعبد على حسب ما تلقي عن النبي صلى الله عليه و سلم والسلف الصالح كالصلوات حين وضعت بعيدة عن مدارك العقول في أركانها وترتيبها وأزمانها وكيفياتها ومقاديرها وسائر ما كان مثلها ـ حسبما يذكر في باب المصالح المرسلة من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ـ فلا يدخل العبادات الرأي والاستحسان هكذا مطلقا لأنه كالمنافي لوضعها ولأن العقول لا تدرك معانيها على التفصيل
وكذلك حافظ العلماء على ترك إجراء القياس فيها كمالك بن أنس رضي الله عنه فإنه حافظ على طرح الرأي جدا ولم يعمل فيها من أنواع القياس إلا قياس نفي الفارق حيث اضطر إليه وكذلك غيره من العلماء وإن تفاوتوا فهم محافظون جميعا في العبادات على الاتباع لنصوصها ومنقولاتها بخلاف غيرها فبحسبها لا مطلقا فإن الإنسان قد أمر بذلك في الجملة ـ مثلا ـ فالمخصص كالمخالف لمفهوم التوسعة وإن لم يفهم من ذلك توسعه فلا بد من الرجوع إلى أصل الوقف من المنقول لأنا إن خرجنا عنه شككنا في كون العبادة على ذلك الوجه مشروعة على الطريقتين المنبه عليهما في كتاب الموافقات فيتعين الرجوع إلى المنقول وقوفا من غير زيادة ولا نقصان
ثم إذا فهمنا التوسعة : فلا بد من اعتبار أمر آخر وهو أن يكون العمل بحيث لا يوهم التخصيص زمانا دون غيره أو مكانا دون غيره أو كيفية دون غيرها أو يوهم انتقال الحكم من الاستحباب ـ مثلا ـ إلى السنة أو الفرض لأنه قد يكون الدوام عليه على كيفية ما في مجامع الناس أو مساجد الجماعات أو نحو ذلك موهما لكونه سنة أو فرضا بل هو كذلك
ألا ترى أن كل ما أظهره رسول الله صلى الله عليه و سلم وواظب عليه جماعة إذا لم يكن فرضا فهو سنة عند العلماء كصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف ونحو ذلك ؟ بخلاف قيام الليل وسائر النوافل فإنها مستحبات وندب صلى الله عليه و سلم إلى إخفائها : وإنما يضر إذا كانت تشاع ويعلن بها
ومن أمثلة هذا الأصل التزام الدعاء بعد الصلوات بالهيئة الاجتماعية معلنا بها في الجماعات وسيأتي بسط ذلك في بابه إن شاء الله تعالى
فصل ومنها : بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل ومنها : بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل ـ يدعون فيها أنها هي المقصود والمراد لا ما يفهم العربي ـ مسندة عندهم إلى أصل لا يعقل وذلك أنهم فيما ذكره العلماء : قوم أرادوا إبطال الشريعة جملة وتفصيلا وإلقاء ذلك فيما بين الناس لينحل الدين في أيديهم فلم يمكنهم إلقاء ذلك صراحا فيرد ذلك في وجوههم وتمتد إليهم أيدي الحكام فصرفوا إعناقهم إلى التحيل على ما قصدوا بأنواع من الحيل من جملهتا صرف الهم من الظواهر إحالة على أن لها بواطن هي المقصودة وأن الظواهر غير مرادة فقالوا : كل ما ورد في الشرع من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فهي أمثلة ورموز إلى بواطن
فمما زعموا في الشرعية : أن الجنابة مبادرة الداعي للمستجيب بإفشاء سر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ومعنى مجامعة البهيمة مقابحة من لا عهد له ولم يؤد شيئا من صدقة النجوى ـ وهو مائة وتسعة عشر درهما ـ قالوا : فلذلك أوجب الشرع القتل على الفاعل والمفعول به وإلا فالبهيمة متى يجب القتل عليها ؟
والاحتلام أن يسبق لسانه إلى إفشاء السر في غير محله فعليه الغسل أي تجديد المعاهدة والطهر هو التبرؤ من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يسعد بمشاهدة الداعي والإمام والصيام هو الإمساك عن كشف السر
ولهم من هذا الإفك كثير في الأمور الإلهية ن وأمور التكليف وأمور الآخرة وكله حوم على إبطال الشريعة جملة وتفصيلا إذ هم ثنوية ودهرية وإباحية منكرون للنبوة والشرائع والحشر والنشر والجنة والنار والملائكة بل هم منكرون للربوبية وهم المسمون بالباطنية
وربما تمسكوا بالحروف والأعداد بأن الثقب في رأس الآدمي سبع والكواكب السيارة سبع وأيام الأسبوع سبع فهذا يدل على أن دور الأئمة سبعة وبه يتم وأن الطبائع أربع وفصول السنة أربع فدل على أن أصول الأربعة هي السابق والتالي الالهان ـ عندهم والناطق والأساس ـ وهما الإمامان ـ والبروج اثنا عشر يدل على أن الحجج اثنا عشر وهم الدعاة إلى أنواع من هذا القبيل وجميعها ليس فيه ما يقابل بالرد لأن كل طائفة من المبتدعة سوى هؤلاء ربما يتمسكون بشبهة تحتاج إلى النظر فيها معهم أما هؤلاء فقد خلعوا في الهذيان ( الربقة ) وصاروا عرضة للمز وضحكة للعالمين وإنما ينسبون هذه الأباطيل إلى الإمام المعصوم الذي زعموه وإبطال الأئمة معلوم في كتب المتكلمين ولكن لا بد من نكتة مختصرة في الرد عليهم
فلا يخلو أن يكون ذلك عندهم إما من جهة دعوى الضرورة وهو محال لأن الضروري هو ما يشترك فيه العقلاء علما وإداركا وهذا ليس كذلك
وإما من جهة الإمام المعصوم بسماعهم منه لتلك التأويلات فنقول لمن زعم ذلك : ما الذي دعاك إلى تصديق محمد صلى الله عليه و سلم سوى المعجزة ؟ وليس لإمامك معجزة فالقرآن يدل على أن المراد ظاهره لا ما زعمت فإن قال : ظاهر القرآن رموز إلى بواطن فهمها الإمام المعصوم ولم يفهمها فتعلمناها منه قيل لهم : من أي جهة تعلمتموها منه ؟ أبمشاهد قلبه بالعين ؟ أو بسماع منه ؟ ولا بد من الاستناد إلى السماع بالأذن فيقال : فلعل لفظه ظاهر له باطن لم تفهمه ولم يطلعك عليه فلا يوثق بما فهمت من ظاهر لفظه فإن قال : صرح بالمعنى وقال : ما ذكرته ظاهر لا رمز فيه أو والمراد ظاهره قيل له : وبماذا عرفت قوله أنه ظاهر لا رمز فيه بل أنه كما قال ؟ إذ يمكن أن يكون له باطن لم تفهمه أيضا حتى لو حلف بالطلاق الظاهر أنه لم يقصد إلا الظاهر لاحتمل أن يكون في طلاقه رمز وهو باطنه وليس مقتضى الظاهر فإن قال : ذلك يؤدي إلى حسم باب التفهيم
قيل له : فأنتم حسمتموه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فإن القرآن دائر على تقرير الوحدانية والجنة والنار والحشر والنشر والأنبياء والوحي والملائكة مؤكدا ذلك كله بالقسم وأنتم تقولون : إن ظاهره غير مراد وإن تحته رمزا فإن جاز ذلك عندكم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه و سلم لمصلحة وسر له في الرمز جاز بالنسبة إلى معصومكم أن يظهر لكم خلاف ما يضمره لمصلحة وسر له فيه وهذا لا محيص لهم عنه
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله : ينبغي أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه الفرقة هي أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال إذ لا تجد فرقة تنقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه التي هي الباطنية إذ مذهبها إبطال النظر وتغيير الألفاظ عن موضوعها بدعوى الرمز وكل ما يتصور أن تنطق به ألسنتهم فإما نظر أو نقل أما النظر فقد أبطلوه وأما النقل فقد جوزوا أن يراد باللفظ غير موضوعة فلا يبقى لهم معتصم والتوفيق بيد الله
وذكر ابن العرب في العواصم مأخذا آخر في الرد عليهم أسهل من هذا ـ وقال إنهم لا قبل لهم به ـ وهو أن يسلط عليهم في كل ما يدعونه السؤال بـ لم ؟ خاصة فكل من وجهت عليه منهم سقط في يده وحكى في ذلك حكاية ظريفة يحسن موقعها ها هنا وتصور المذهب كاف في ظهور بطلانه إلا أنه مع ظهور فساده وبعده عن الشرع قد اعتمده طوائف وبنوا عليه بدعا فاحشة ( منها ) مذهب المهدي المغربي فإنه عد نفسه الإمام المنتظر وأنه معصوم حتى أن من شك في عصمته أو في أنه المهدي المنتظر كافر
وقد زعم ذووه أنه ألف في الإمامة كتابا ذكر فيه أن الله استخلف آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا عليهم السلام وأن مدة الخلافة ثلاثون سنة وبعد ذلك فرق وأهواء وشح مطاع وهوى متبع وإعجاب كل ذي رأي برأيه فلم يزل الأمر على ذلك والباطل ظاهر والحق كامن والعلم مرفوع ـ كما أخبر عليه الصلاة و السلام : الجهل ظاهر ولم يبق من الدين اسمه ولا من القرآن إلا رسمه حتى جاء الله بالإمام فأعاد به الدين ـ كما قال عليه الصلاة و السلام :
[ بدىء الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوبى للغرباء ] وقال : إن طائفته هم الغرباء زعما من غير برهان زائد على الدعوى وقال في ذلك الكتاب : جاء الله بالمهدي وطاعته نقية لم ير مثلها قبل ولا بعد وأن به قامت السموات والأرض به تقوم ولا ضد له ولا مثل ولا ند ولا كذب تعالى الله عن قوله وهذا كما نزل أحاديث الترمذي و أبي داود في الفاطمي على نفسه وأنه هو بلا شك
وأول إظهاره لذلك أنه قام في أصحابه خطيبا فقال : الحمد لله الفعال لما يريد القاضي لما يشاء لا راد لأمره ولا معقب لحكمه وصلى الله على النبي المبشر بالمهدي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يبعثه الله إذا نسخ الحو بالباطل وأزيل العدل بالجور مكانه بالمغرب الأقصى وزمانه آخر الأزمان واسمه اسم النبي عليه الصلاة و السلام ونسبه نسب النبي صلى الله عليه و سلم وقد ظهر جور الأمراء وامتلأت الأرض بالفساد وهذا آخر الزمان والاسم الاسم والنسب النسب والفعل الفعل يشير إلى ما جاء في أحاديث الفاطمي
فلما فرغ بادر إليه من أصحابه عشرة فقالوا : هذه الصفة لا توجد إلا فيك فأنت المهدي فبايعوه على ذلك وأحدث في دين الله أحداثا كثيرة زيادة إلى الإقرار بأنه المهدي المعلوم والتخصيص بالعصمة ثم وضع ذلك في الخطب وضرب في السكك بل كانت تلك الكلمة عندهم ثالثة الشهادة فمن لم يؤمن بها أو شك فيها فهو كافر كسائر الكفار وشرع القتل في مواضع لم يضعه الشرع فيها وهي نحو من ثمانية عشر موضعا كترك امتثال أمر من يستمع أمره وترك حضور مواعظة ثلاث مرات والمداهنة إذا ظهرت في أحد قتل وأشياء كثيرة
وكان مذهبه البدعة الظاهرية ومع ذلك فابتدع أشياء كوجوه من التثويب إذ كانوا ينادون عند الصلاة بتاصاليت الإسلام و بقيام تاصاليت سوردين و باردي و وأصبح ولله الحمد وغيره فجرى العمل بجميعها في زمان الموحدين وبقي أكثرها بعدما انقرضت دولتهم حتى إني أدركت بنفسي في جامع غرناطة الأعظم الرضا عن الإمام المعصوم المهدي المعلوم إلى أن أزيلت وبقيت أشياء مثيرة غفل عنها أو
غفلت
وقد كان السلطان أبو العلاء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي منهم ظهر له قبح ما هم عليه من هذه الابتداعات فأمر ـ حين استقر بمراكش ـ خليفته بإزالة جميع ما ابتدع من قبله وكتب بذلك رسالة إلى الأقطار يأمر فيها بتغيير تلك السنة ويوصي بتقوى الله والاستعانة به والتوكل عليه وأنه قد نبذ الباطل وأظهر الحق وأن لا مهدي إلا عيسى وأن ما ادعوه أنه المهدي بدعة أزالها وأسقط اسم من لا تثبت عصمته
وذكر أن أباه المنصور هم بأن يصدع بما به صدع وأن يرفع الحرف الذي رفع فلم يساعده الأجل لذلك ثم لما مات واستخلف ابنه أبو محمد عبد الواحد الملقب بالرشيد وفد إليه جماعة من أهل المذهب المتسمين بالموحدين فقتلوا منه في الذروة والغارب وضمنوا على أنفسهم الدخول تحت طاعته والوقوف على قدم الخدمة بين يديه والمدافعة عنه بما استطاعوا لكن على شرط ذكر المهدي وتخصيصه بالعصمة في الخطبة والمخاطبات ونقش اسمه الخاص في السكك وإعادة الدعاء بعد الصلاة والنداء عليها بتاصاليت الإسلام عند كمال الأذان و بتقام تاصاليت وهي إقامة الصلاة وما أشبه دلك من سودرين و قادري و أصبح ولله الحمد وغير ذلك
وقد كان الرشيد استمر على العمل بما رسم أبوه من ترك ذلك كله فلما انتدب الموحدون إلى الطاعة اشترطوا إعادته ما ترك فأسعفوا فيه فلما احتلوا منازلهم أياما ولم يعد شيء من تلك العوائد ساءت ظنونهم وتوقعوا انقطاع ما هو عمدتهم في دينهم وبلغ ذلك الرشيد فجدد تأنيسهم بإعادتها
قال المؤرخ : فيا لله ! ماذا بلغ من سرورهم وما كانوا فيه من الارتياح لسماع تلك الأمور واطلقت ألسنتهم بالدعاء لخليفتهم بالنصر والتأييد وشملت الأفراح فيهم الكبير والصغير وهذا شأن صاحب البدعة فلن يسر بأعظم من انتشار بدعته وإظهارها { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا } وهذا كله دائر على القول بالإمامة والعصمة الذي هو رأي الشيعة
فصل ومنها : رأى قوم التغالي في تعظيم شيوخهم ومنها : رأى قوم التغالي في تعظيم شيوخهم حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه فالمقتصد منهم يزعم أنه لا ولي لله أعظم من فلان وربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور وهو باطل محض وبدعة فاحشة لأنه لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبدا مبالغ المتقدمين فخير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وآمنوا به ثم الذين يلونهم وهذا يكون الأمر أبدا إلى قيام الساعة فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام ثم لا زال ينقص شيئا فشيئا إلى آخر الدنيا لكن لا يذهب الحق جملة بل لا بد من طائفة تقوم به وتعتقده وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم لا ما كان عليه الأولون من كل وجه لأنه :
لو أنفق أحد من المتأخرين وزن أحد ذهبا ما بلغ مد أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا نصيفه وإذا كان ذلك في المال فكذلك في سائر شعب الإيمان بشهادة التجربة العادية
ولما تقدم أول الكتاب أنه لا يزال الدين في نقص فهو أصلي لا شك فيه وهو عند أهل السنة والجماعة فكيف يعتقد بعد ذلك في أنه ولي أهل الأرض ؟ وليس في الأمة ولي غيره ؟ لكن الجهل الغالب والغلو في التعظيم والتعصب للنحل يؤدي إلى مثله أو أعظم منه
والمتوسط يزعم أنه مساو للنبي صلى الله عليه و سلم إلا أنه لا يأتيه الوحي بلغني هذا عن طائفة من الغالين في شيخهم الحاملين لطريقتهم في زعمهم نظير ما ادعاه بعض تلامذه الحلاج في شيخهم على الاقتصاد منهم فيه والغالي يزعم فيه أشنع من هذا كما ادعى أصحاب الحلاج في الحلاج
وقد حدثني بعض الشيوخ أهل العدالة والصدق في النقل أنه قال : أقمت زمانا في بعض القرى البادية وفيها من هذه الطائفة المشار إليها كثير قال : فخرجت يوما من منزلي لبعض شأني فرأيت رجلين منهم قاعدين فتوهمت أنهما يتحدثان في بعض فروع طريقتهم فقربت منهما على استخفاء لأسمع من كلامهم ـ إذ من شأنهم الاستخفاء بأسرارهم ـ فتحدثا في شيخهم وعظم منزلته وأنه لا أحد في الدنيا مثله وطربا لهذه المقابلة طربا عظيما ثم قال أحدهما للآخر : أتحب الحق ؟ هو النبي قال : نعم هذا هو الحق قال المخبر : فقمت من ذلك المكان فارا أن يصيبني معهم قارعة
وهذا نمط الشيعة الإمامية ولولا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب والتهالك في محبة المبتدع لما وسع ذلك عقل أحد ولكن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ] الحديث فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام حيث قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم فقال الله تعالى : { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } وفي الحديث :
[ ولا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ولكن قولوا : عبد الله ورسوله ]
ومن تأمل هذه الأصناف وجد لها من البدع في فروع الشريعة كثيرا لأن البدعة إذا دخلت في الأصل سهلت مداخلتها الفروع
فصل وأضعف هؤلاء احتجاجا قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات وأضعف هؤلاء احتجاجا قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات وأقبلوا وأعرضوا بسببها فيقولون : رأينا فلانا الرجل الصالح فقال لنا : اتركوا كذا واعملوا كذا ويتفق هذا كثيرا للمتمرسين برسم التصوف وربما قال بعضهم : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في النوم فقال لي كذا وأمرني بكذا فيعمل بها ويترك بها معرضا عن الحدود الموضوعة في الشريعة وهو خطأ لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعا على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعراض عنها وإنما فائدتها البشارة أو النذرة خاصة وأما استفادة الأحكام فلا كما يحكى عن الكتاني رحمه الله قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في المنام فقلت : ادع الله أن لا يميت قلبي فقال : قل كل يوم أربعين مرة يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته وكون الذكر يحيى القلب صحيح شرعا وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير وهو من ناحية البشارة وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين وإذا لم يوجد على اللزوم استقام
وعن أبي يزيد البسطامي رحمه الله قال : رأيت ربي في المنام فقلت : كيف الطريق إليك ؟ فقال : أترك نفسك وتعال ؟ وشأن هذا الكلام من الشرع موجود فالعمل بمقتضاه صحيح لأنه كالتنبيه لموضع الدليل لأن ترك النفس معناه ترك هواها بإطلاق والوقوف على قدم العبودية والآيات تدل على هذا المعنى كقوله تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى } وما أشبه ذلك فلو رأى في النوم قائلا يقول : إن فلانا سرق فاقطعه أو عالم فاسأله أو اعمل بما يقول لك أو فلان زنى فحده وما أشبه ذلك لم يصح له العمل حتى يقوم له الشاهد في اليقظة وإلا كان عاملا بغير شريعة إذ ليس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وحي
ولا يقال : إن الرؤيا من أجزاء النبوة فلا ينبغي أن تهمل وأيضا إن المخبر في المنام قد يكون النبي صلى الله عليه و سلم وهو قد قال :
[ من رآني في النوم فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي ] وإذا كان فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة
لأنا نقول : إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي بل جز من أجزائه والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة وفيها كاف
وأيضا فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح وحصول الشروط مما ينظر فيه فقد تتوفر وقد لا تتوفر
وأيضا فهي منقسمة إلى الحلم وهو من الشيطان وإلى حديث النفس وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها وترك غير الصالحة ؟
ويلزم أيضا على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد الني ضلى الله عليه وسلم وهو منهي عنه بالإجماع
يحكى أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي فلما رآه قال : علي بالسيف والنطع قال : ولم يا أمير الميؤمنين ؟ قال : رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني فقصصت رؤياي على من عبرها فقال لي : يظهر لك طاعة ويضمر معصية فقال له شريك : والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام ولا أن معبرك بيوسف الصديق عليه السلام فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين ؟ فاستحيى المهدي وقال : اخرج عني ثم صرفه وأبعده
وحكى الغزالي إن بعض الأئمة أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق القرآن فروجع فيه فاستدل بأن رجلا رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة ولم يدخلها ؟ فقيل : هل دخلتها ؟ فقال : أغناني عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن فقام ذلك الرجل فقال : لو أفتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة هل تقلدونه في فتواه ؟ فقالوا : لا ! فقال : قوله في المنام لا يزيد على قوله في اليقظة
وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم الرائي بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضا لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته فالحكم بما استقر وإن أخبر بمخالف فمحال لأنه صلى الله عليه و سلم لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية لأن ذلك باطل بالإجماع فمن رأى شيئا من ذلك فلا عمل عليه وعند ذلك نقول : إن رؤياه غير صحيحة إذ لو رآه حقا لم يخبره بما يخالف الشرع
لكن يبقى النظر في معنى قوله صلى الله عليه و سلم :
[ من رآني في النوم فقد رآني ] وفيه تأويلان :
احدهما : ما ذكره ابن رشيد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في قضية فلما نام الحاكم ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له : ما تحكم بهذه الشهادة ؟ فإنها باطلة فأجاب بأنه لا يحل له أن يترك العمل بتلك الشهادة لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا وذلك باطل لا يصح أن يعتقد إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحي ومن سواهم إنما رؤياهم :
جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة
ثم قال : وليس معنى قوله :
[ من رآني فقد رآني حقا ] أن كل من رأى في منامه أنه رآه فقد رآه حقيقة بدليل أن الرئي قد يراه مرات على صور مختلفة ويراه الرائي على صفة وغيره على صفة أخرى ولا يجوز أن تختلف صور النبي صلى الله عليه و سلم ولا صفاته وإنما معنى الحديث : [ من رآني على صورتي التي خلقت عليها فقد رآني إذ لا يتمثل الشيطان بي ] إذ لم يقل : من رآني أنه رآني وإنما قال : من رآني فقد رآني وأنى لهذا الرائي الذي رأى أنه رآه على صورة أنه رآه عليها ؟ وإن ظن أنه رآه ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته بعينها وهذا ما طريق لأحد إلى معرفته
فهذا ما نقل عن ابن رشيد وحاصله يرجع إلى أن المرئي قد يكون غير النبي صلى الله عليه و سلم وإن اعتقد الرائي أنه هو
والتأويل الثاني يقوله علماء التعبير : إن الشيطان قد يأتي النائم في صورة ما من معارف الرائي وغيرهم فيشير له إلى رجل آخر : هذا فلان النبي وهذا الملك الفلاني أو من أشبه هؤلاء ممن لا يتمثل الشيطان به فيوقف اللبس على الرائي بذلك وله علامة عندهم وإذا كان كذلك أمكن أن يكلمه المشار إليه بالأمر والنهي غير الموافقين للشرع فيظن الرائي أنه من قبل النبي صلى الله عليه و سلم ولا يكون كذلك فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهى
وما أحرى هذا الضرب أن يكون الأمر أو النهي فيه مخالفا لكمال الأول حقيق بأن يكون فيه موافقا وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال نعم لا يحكم بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم لأمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنة نعم يأتي المرئي تأنيسا وبشارة ونذارة خاصة بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكما ولا يبنون عليها أصلا وهو الاعتدال في أخذها حسبما فهم من الشرع فيها والله أعلم
فصل وقد رأينا أن تختم الكلام في الباب بفصل جمع جملة من الاستدلالات المتقدمة
وقد رأينا أن تختم الكلام في الباب بفصل جمع جملة من الاستدلالات المتقدمة وغيرها في معناها وفيه من نكت هذا الكتاب جملة أخرى فهو مما يحتاج إليه بحسب الوقت والحال وإن كان فيه طول ولكنه يخدم ما نحن فيه إن شاء الله تعالى
وذلك أنه وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء يزعمون أنهم سلكوا طريق الصوفية فيجتمعون في بعض الليالي ويأخذون في الذكر الجهوري على صوت واحد ثم في الغناء والرقص إلى آخر الليل ويحضر معهم بعض المتسمين بالفقهاء ـ يترسمون برسم الشيوخ الهداة إلى سلوك ذلك الطريق : هل هذا العمل صحيح في الشرع أم لآ ؟
فوقع الجواب بأن ذلك كله من البدع المحدثات المخالفة طريقة رسول الله صلى الله عليه و سلم وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان فنفع بذلك ن شاء من خلقه
ثم إن الجواب وصل إلى بعض البلطان فقامت على العاملين بتلك البدع وخافوا اندراس طريقتهم وانقطاع اكلهم بها فأرادوا الانتصار لأنفسهم بعد أن راموا ذلك بالانتساب بالسنة إلى شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم واشتهرت في الانقطاع إلى الله والعمل بالسنة طريقتهم فلم يستقر لهم الاستدلال لكونهم على ضد ما كان عليه القوم فإنهم كانوا بنوا نحلتهم على ثلاثة أصول : الاقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم في الأخلاق والأفعال وأكل الحلال وإخلاص النية في جميع الأعمال وهؤلاء قد خالفوهم في هذه الأصول فلا يمكنهم الدخول تحت ترجمتهم
وكان من قدر الله أن بعض الناس سأل بعض شيوخ الوقت في مسألة تشبه هذه لكن حسن ظاهرها بحيث يكاد باطنها يخفى على غير المتأمل فأجاب عفا الله عنه على مقتضى ظاهرها من غير تعرض إلى ما هم عليه من البدع والضلالات ولما سمع بعضهم بهذا الجواب أرسل به إلى بلدة أخرى فأتى به فرحل إلى غير بلده وشهر في شيعته أن بيده حجة لطريقتهم تقهر كل حجة وأنه طالب للمناظرة فيها فدعي لذلك فلم يقم فيه ولا قعد غير أنه قال : إن هذه حجتي وألقى بالبطاقة التي بخط المجيب وكان هو ومحبه وأشياعه يطيرون بها رحا فوصلت المسألة إلى غرناطة وطلب من الجميع النظر فيها فلم يسع أحد له قوة على النظر فيها إلا أن يظهر وجه الصواب فيها الذي يدان الله به لأنه من النصيحة التي هي الدين القويم والصراط المستقيم
ونص خلاصة السؤال : ما يقول الشيخ فلان في جماعة من المسلمين يجتمعون في رباط على ضفة البحر في الليالي الفاضلة يقرؤون جزءا من القرآن ويستمعون من كتب الوعظ والرقائق ما أمكن في الوقت ويذكرون الله بأنواع التهليل والتسبيح والتقديس ثم يقوم من بينهم قوال يذكر شيئا في مدح النبي صلى الله عليه و سلم ويلقي من السماع ما تتوق النفس إليه وتشتاق سماعه من صفات الصالحين وذكر آلاء الله ونعمائه ويشوقهم بذكر المنازل الحجازية والمعاهد النبوية فيتواجدون اشتياقا لذلك ثم يأكلون ما حضر من الطعام ويحمدون الله تعالى ويرددون الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم ويبتهلون بالأدعية إلى اللله في صلاح أمورهم ويدعون للمسلمين ولإمامهم ويفترقون
فهل يجوز اجتماعهم هلى ماذكر ؟ أم يمنعون وينكر عليهم ؟ ومن دعاهم من المحبين إلى منزله بقصد التبرك هل يجيبون دعوته ويجتمعون على الوجه المذكور أم لا ؟
فأجاب بما محصوله : مجالس تلاوة القرآن وذكر الله هي رياض الجنة ثم أتى بالشواهد على طلب ذكر الله وأما الإنشادات الشعرية فإنما الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وفي القرآن في شعراء الإسلام : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا } وذلك أن حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعبا لما سمعوا قوله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } بكوا عند سماعها فنزل الاستثناء وقد أنشد الشعر بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ورقت نفسه الكريمة وذرفت عيناه لأبيات أخت النضر لما طبع عليه من الرأفة والرحمة
وأما التواجد عند السماع فهو في الأصل رقد النفس واضطراب القلب فيتأثر الظاهر بتأثر الباطن قال الله تعالى : { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } أي اضطربت رغبا أو رهبا وعن اضطراب القلب يحصل اضطراب الجسم قال الله تعالى : { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا } الآية وقال : { ففروا إلى الله } فإنما التواجد رقة نفسية وهزة قلبية ونهضة روحانية وهذا هو التواجد عن وجد ولا يسمع فيه نكير من الشرع وذكر السلمي أنه كان يستدل بهذه الآية على حركة الوجد في وقت السماع وهي : { وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا } الآية وكان يقول : إن القلوب مربوطة بالملكوت حركتها أنوار الأذكار وما يرد عليها من فنون السماع
ووراء هذا تواجد لا عن وجد فهو مناط الذم لمخالفة ما ظهر لما بطن وقد يعزب فيه الأمر عند القصد إلى استنهاض العزائم وأعمال الحركة في يقظة القلب النائم :
[ يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ] ولكن شتان ما بينهما
وأما من دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته وله في ذلك قصده ونيته فهذا ما ظهر تقييده على مقتضى الظاهر والله يتولى السرائر وإنما الأعمال بالنيات انتهى ما قيده
فكان مما ظهر لي في هذا الجواب : أن ما ذكره في مجالس الذكر الصحيح إذا كان على حسب ما اجتمع عليه السلف الصالح فإنهم كانوا يجتمعون لتدارس القرآن فيما بينهم حتى يتعلم بعضهم من بعض ويأخذ بعضهم من بعض فهو مجلس من مجالس الذكر التي جاء في مثلها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم :
[ ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفت بهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ] وهو الذي فهمه الصحابه رضي الله تعالى عنهم من الاجتماع على تلاوة كلام الله
وكذلك الاجتماع على الذكر فإنه اجتماع على ذكر الله ففي رواية أخرى أنه قال :
[ لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ] الحديث المذكور لا الاجتماع للذكر على صوت واحد وإذا اجتمع القوم على التذكير لنعم الله أو التذاكر في العلم إن كانوا علماء أو كان فيهم عالم فجلس إليه متعلمون أو اجتمعوا يذكر بعضهم بعضا بالعمل بطاعة الله والبعد عن معصيته ـ وما أشبه ذلك مما كان يعمل به رسول الله صلى الله عليه و سلم في أصحابه وعمل به الصحابة والتابعون ـ فهذه المجالس كلها مجال ذكر وهي التي جاء فيها من الأجر ما جاء
كما يحكى عن أبي ليلى أنه سئل عن القصص فقال : أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم ويحدث هذا بما سمع وهذا بما سمع ـ فأما أن يجلسوا خطيبا فلا ـ وكان كالذي نراه معمولا به في المساجد من اجتماع الطلبة على معلم يقرئهم القرآن أو علما من العلوم الشرعية أو تجتمع إليه العامة فيعلمهم أمر دينهم ويذكرهم بالله ويبين لهم سنة نبيهم ليعملوا بها ويبين لهم المحدثات التي هي ضلالة ليحذروا منها ويتجنبوا مواطنها والعمل بها
فهذه مجالس الذكر على الحقيقة وهي التي حرمها الله أهل البدع من هؤلاء الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف وقل ما تجد منهم من يحسن قراءة الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن فضلا عن غيرها ولا يعرف كيف يتعبد ولا كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة وكيف يعلمون ذلك وهم قد حرموا مجالس الذكر التي تغشاها الرحمة وتنزل فيها السكينة وتحف بها الملائكة فبانطماس هذا النور عنهم ضلوا فاقتدوا بجهال أمثالهم وأخذوا يقرؤون الأحاديث النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم لا على ما قال أهل العلم فيها فخرجوا عن الصراط المستقيم إلى أن يجتمعوا ويقرأ أحدهم شيئا من القرآن يكون حسن الصوت طيب النغمة جيد التلحين تشبه قراءته الغناء المذموم ثم يقولون : تعالوا نذكر الله فيرفعون أصواتهم يمشون ذلك الذكر مداولة طائفة في جهة وطائفة في جهة أخرى على صوت واحد يشبه الغناء ويزعمون أن هذا من مجالس الذكر المندوب إليها وكذبوا : فإنه لو كان حقا لكان السلف الصالح أولى بإدراكه وفهمه والعمل به ؟ وقد قال تعالى : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين } والمعتدون في التفسير هم الرافعون أصواتهم بالدعاء
[ وعن أبي موسى قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا تدعون سميعا قريبا وهو معكم ] وهذا الحديث من تمام تفسير الآية ولم يكونوا رضي الله عنهم يكبرون على صوت واحد ولكنه نهاهم عن رفع الصوت ليكونوا ممتثلين للآية وقد جاء عن السلف أيضا النهي عن الاجتماع على الذكر والدعاء بالهيئة التي يجتمع عليها هؤلاء المبتدعون وجاء عنهم النهي عن المساجد المتخذة لذلك وهي الربط التي يسمونها بالصفة وذكر من ذلك ابن وهب وابن وضاح وغيرهما ما فيه كفاية لمن وفقه الله
فالحاصل من هؤلاء أنهم حسنوا الظن بأنهم فيما هم عليه مصيبون وأساؤوا الظن بالسلف الصالح أهل العمل الراجح الصريح وأهل الدين الصحيح ثم لما طالبهم لسان الحال بالحجة أخذوا كلام المجيب وهم لا يعملون وقولوه ما لا يرضى به العلماء وقد بين ذلك في كلام آخر إذ سئل عن ذكر فقراء زماننا فأجاب بأن مجالس الذكر المذكورة بين الأحاديث أنها هي التي يتلى فيها القرآن والتي يتعلم فيها العلم والدين والتي تعمر بالعلم والتذكير بالآخرة والجنة والنار وكمجالس سفيان الثوري والحسن وابن سيرين وأضرابهم
أما مجالس الذكر اللساني فقد صرح بها في حديث الملائكة السياحين لكن لم يذكر فيه جهرا بالكلمات ولا رفع أصوات وكذلك غيره لكن الأصل المشروع إعلان الفرائض وإخفاء النوافل وأتى بالآية وبقوله تعالى : { إذ نادى ربه نداء خفيا } وبحديث :
[ أربعوا على أنفسكم ] قال : وفقراء الوقت قد تخيروا بآيات وتميزوا بأصوات هي إلى الاعتداء أقربق منها إلى الاقتداء وطريقتهم إلى اتخاذها مأكلة وصناعة أقرب منها إلى اعتدادها قربة وطاعة
انتهى معناه على اختصار أكثر الشواهد وهي دليل على أن فتواه المحتج بها ليس معناها ما رام هؤلاء المبتدعة فإنه سئل في هذه عن فقراء الوقت فأجاب بذمهم وأن حديث النبي صلى الله عليه و سلم لا يتناول عملهم وفي الأولى إنما سئل عن قوم يجتمعون لقراءة القرآن أو لذكر الله وهذا السؤال يصدق على قوم يجتمعون مثلا في المسجد فيذكرون الله كل واحد منهم في نفسه أو يتلو القرآن نفسه كما يصدق على مجالس المعلمين والمتعلمين وما أشبه ذلك مما تقدم التنبيه عليه فلا يسعه وغيره من العلماء إلا أن يذكر محاسن ذلك والثواب عليه فلما سئل عن أهل البدع في الذكر والتلاوة بين ما ينبغي أن يعتمد عليه الموفق ولا توفيق إلا بالله العلي العظيم
وأما ما ذكره في الإنشادات الشعرية فجائز للإنسان أن ينشد الشعر الذي لا رفث فيه ولا يذكر بمعصية وأن يسمعه من غيره إذا أنشد على الحد الذي ينشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم أو عمل به الصحابة والتابعون ومن يقتدى به من العلماء وذلك أنه كان ينشد ويسمع لفوائد
منها : المنافخة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن الإسلام وأهله ولذلك [ كان حسان بن ثابت رضي الله عنه قد نصب له منبر في المسجد ينشد عليه إذا وفدت الوفود حتى يقولوا : خطيبه أخطب من خطيبنا وشاعره أشعر من شاعرنا ويقول له صلى الله عليه و سلم : اهجهم وجبريل معك ] وهذا من باب الجهاد في سبيل الله ليس للفقراء من فضله في غنائهم بالشعر قليل ولا كثير
ومنها : أنهم كانوا يتعرضون لحاجاتهم ويستشفعون بتقديم الأبيات بين يدي طلباتهم كما فعل ابن زهير رضي الله عنه وأخت النضر بن الحارث ومثل ما يفعل الشعراء مع الكبراء هذا لا حرج فيه ما لم يكن في الشعر ذكر ما لا يجوز ونظيره في سائر الأزمنة تقديم الشعر للخلفاء والملوك ومن أشبههم قطعا من أشعارهم بين يدي حاجاتهم كما يفعله أهل الوقت المجردون للسعاية على الناس مع القدرة على الاكتساب وفي الحديث :
[ لا تصح الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ] فإنهم ينشدون الأشعار التي فيها ذكر الله وذكر رسوله وكثيرا ما يكون فيها ما لا يجوز شرعا ويتمندلون بذكر الله ورسوله في الأسواق والمواضع القذرة ويجعلون ذلك آلة الأخذ ما في أيدي الناس لكن بأصوات مطربة يخاف بسببها على النساء ومن لا عقل له من الرجال
ومنها : أنهم ربما أنشدوا الشعر في الأسفار الجهادية تنشيطا لكلال النفوس وتنبيها للرواحل أن تنهض في اثقالها وهذا حسن لكن العرب لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناس عليه اليوم بل كانوا ينشدون الشعر مطلقا من غير أن يتعلموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم بل كانوا يرققون الصوت ويمططونه على وجه لا يليق بأمية العرب الذين لم يعرفوا صنائع الموسيقى فلم يكن فيه إلذاذ ولا إطراب يلهي وإنما كان لهم شيء من النشاط كما كان الحبشة وعبد الله بن رواحة يحدوان بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم وكما كان الأنصار يقولون عند حفر الخندق :
( نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما حيينا أبدا )
فيجيبهم صلى الله عليه و سلم بقوله :
[ اللهم لا خير إلا خير الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة ]
ومنها : أن يتمثل الرجل بالبيت أو الأبيات من الحكمة في نفسه ليعظ نفسه أو ينشطها أو يحركها لمقتضى معنى الشعر أو يذكرها ذكرا مطلقا كما حكى أبو الحسن القرافي الصوفي عن الحسن أن قوما أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا : يا أمير المؤمنين ! إن لنا إماما إذا فرغ من صلاته تغنى فقال عمر : من هو ؟ فذكر الرجل فقال : قوموا بنا إليه فإنا إن وجهنا إليه يظن أنا تجسسنا عليه أمره قال : فقام عمر مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم حتى أتوا الرجل وهو في المسجد فلما أن نظر إلى عمر قام فاستقبله فقال : يا أمير المؤمنين ما حاجتك ؟ وما جاء بك ؟ إن كانت الحاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأتيك وإن
وقد رأينا أن تختم الكلام في الباب بفصل جمع جملة من الاستدلالات المتقدمة
كانت الحاجة لك فأحق من عظمناه خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له عمر : ويحك ! بلغني عنك أمر ساءني قال : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : أتتمجن في عبادتك ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين لكنها عظة أعظ بها نفسي قال عمر : قلها فإن كان كلاما حسنا قلته معك وإن كان قبيحا نهيتك عنه فقال :
( وفؤاد كلما عاتبته ... في مدى الهجران يبغي تعبي )
( لا أراه الدهر إلا لاهيا ... في تماديه فقد برح بي )
( يا قرين السوء ما هذا الصبا ... فني العمر كذا في اللعب )
( وشباب بان عني فمضى ... قبل أن أقضي منه أربي )
( ما أرجي بعده إلا الفنا ... ضيق الشيب على مطلبي )
( ويح نفسي لا أراها أبدا ... في جميل لا ولا في أدب )
( نفس لا كنت ولا كان الهوى ... راقبي المولى وخافي وارهبي )
قال : فقال عمر رصي الله عنه :
( نفس لا كنت ولا كان الهوى ... راقبي المولى وخافي وارهبي )
ثم قال عمر : على هذا فليغن من غنى
فتأملوا قوله : بلغني أمر ساءني مع قوله : أتتمجن في عبادتك فهو من أشد ما يكون في الإنكار حتى أعلمه أنه يردد لسانه أبيات حكمة فيها موعظة فحينئذ أقره وسلم له
هذا وما أسبهه كان فعل القوم وهم مع ذلك لم يقتصروا في التنشيط للنفوس ولا الوعظ على مجرد الشعر بل وعظوا أنفسهم بكل موعظة ولا كانوا يستحضرون لذكر الأشعار المغنين إذ لم يكن ذلك من طلباتهم ولا كان عندهم من الغناء المستعمل في أزماننا شيء وإنما دخل في الإسلام بعدهم حين خالط العجم المسلمين
وقد بين ذلك أبو الحسن القرافي فقال : أي الماضين من الصدر الأول حجة على من بعدهم ولم يكونوا يلحنون الأشعار ولا ينغمونها بأحسن ما يكون من النغم إلا من وجه إرسال الشعر واتصال القوافي فإن كان صوت أحدهم أشجن من صاحبه كان ذلك مردودا إلى أصل الخلقة لا يتصنعون ولا يتكلفون
هذا ما قال فلذلك نص العلماء على كراهية ذلك المحدث وحتى سئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الغناء الذي يستعمله أهل المدينة فقال : إنما يفعله الفساق ولكن المتقدمون أيضا يعدون الغناء جزءا من أجزاء طريقة التعبد وطلب رقة النفوس وخشوع القلوب حتى يقصدونه قصدا ويتعمدون الليالي الفاضلة فيجتمعون لأجل الذكر الجهري والشطح والرقص والتغاشي والصياح وضرب الأقدام على وزن إيقاع الكف أو الآلات وموافقة النغمات
هل في كلام النبي صلى الله عنه وعمله المنقول في الصحاح أو عمل السلف الصالح أو أحد من العلماء اثر ؟ أو في كلام المجيب ما يصرح بكلام مثل هذا ؟
بل سئل عن إنشاد الأشعار بالصوامع كما يفعله المؤذنون اليوم في الدعاء بالأسحار ؟ فأجاب بأن ذلك بدعة مضافة إلى بدعة لأن الدعاء بالصوامع بدعة وإنشاد الشعر والقصائد بدعة أخرى إذ لم يكن ذلك في زمن السلف المقتدى بهم
وأما ما ذكره المجيب في التواجد عند السماع من أنه أثر رقة النفس واضطراب القلب فإنه لم يبين ذلك الأثر ما هو كما أنه لم يبين معنى الرقة ولا عرج عليها بتفسير يرشد إلى فهم التواجد عند الصوفية وإنما في كلامه أن ثم أثرا ظاهرا يظهر على جسم المتواجد وذلك الأثر يحتاج إلى تفسير ثم التواجد يحتاج إلى شرح بحسب ما يظهر من كلامه
والذي يظهر في التواجد ما كان يبدو على جملة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو البكاء واقشعرار الجلد التابع للخوف الآخذ بجامع القلوب وبذلك وصف الله عباده في كلامه حين قال : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وقال تعالى : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } وقال : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } إلى قوله : { أولئك هم المؤمنون حقا }
وعن عبد الله بن الخير رضي الله عنه قال :
انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يصلي ولجوفه أزير كأزير المرجل ( يعني من البكاء ) والأزير صوت يشبه صوت غليان القدر وعن الحسن قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع } فربى لها ربوة عيد منها عشرين يوما وعن عبيد الله بن عمر قال : صلى بنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة الفجر فافتتح سورة يوسف فقرأها حتى إذا بلغ : { وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم } بكى حتى انقطع وفي رواية لما انتهى إلى قوله : { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله } بكى حتى سمع نشيجه من وراء الصفوف وعن أبي صالح قال : لما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر رضي الله عنه سمعوا القرآن فجعلوا يبكون فقال أبو بكر : هكذا كنا حتى قست قلوبنا وعن ابن أبي ليلى أنه قرأ سورة مريم حتى انتهى إلى السجدة : { خروا سجدا وبكيا } فسجد بها فلما رفع رأسه قال : هذه السجدة قد سجدناها فأين البكاء ؟ إلى غير ذلك من الآثار الدالة على أن أثر الموعظة الذي يكون بغير تصنع إنما هو على هذه الوجوه وما أشبهها
ومثله ما استدل به بعض الناس من قوله تعالى : { وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض } ذكره بعض المفسرين وذلك أنه لما ألقى الله الإيمان في قلوبهم حضروا عند ملكهم دقيانوس الكافر فتحركت فأرة أو هرة خاف لأجلها الملك فنظر الفتية إلى بعض ولم يتمالكوا أن قاموا مصرحين بالتوحيد معلنين بالدليل والبرهان منكرين على الملك نحلة الكفر باذلين أنفسهم في ذات الله فأوعدهم ثم أخلفهم فتواعدوا الخروج إلى الغار إلى أن كان منهم ما حكى الله تعالى في كتابه فليس في ذلك صعق ولا صياح ولا شطح ولا تغاش مستعمل ولا شيء من ذلك وهو شأن فقرائنا اليوم
وخرج سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال : قلت لجدتي أسماء : كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قرؤوا القرآن ؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم قلت : إن ناسا ها هنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
وخرج أبو عبيد من أحاديث أبي حازم قال : مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس حوله فقال : ما هذا ؟ فقالوا : إذا قرئ عليه القرآن أو سمع الله يذكر خر من خشية الله قال ابن عمر : والله إنا لنخشى الله ولا نسقط وهذا إنكار
وقيل لعائشة رضي الله عنها : إن قوما إذا سمعوا القرآن يغشى عليهم فقالت : إن القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال ولكنه كما قال الله تعالى : { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن القوم يقرأ عليهم القرآن فيصعقون فقال : ذلك فعل الخوارج
وخرج أبو نعيم عن جابر بن عبد الله أن ابن الزبير رضي الله تعالى عنه قال : جئت أبي فقال : اين كنت ؟ فقلت : وجدت أقواما يذكرون الله فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله فقعدت معهم فقال : لا تقعد بعدها فرآني كأنه لم يأخذ ذلك في فقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشع لله من أبي بكر وعمر ؟ فرأيت ذلك كذلك فتركتهم وهذا بأن ذلك كله تعمل وتكلف لا يرضى به أهل الدين
وسئل محمد بن سيرين عن الرجل يقرأ عنده فيصعق فقال : ميعاد ما بيننا وبينه أن يجلس على حائط ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إى آخره فإن وقع فهو كما قال
وهذا الكلام حسن في المحق والمبطل لأنه إنما كان عند الخوارج نوعا من القحة في النفوس المائلة عن الصواب وقد تغالط النفس فيه فتظنه انفعالا صحيحا وليس كذلك والدليل عليه أنه لم يظهر على أحد من الصحابة لا هو ولا ما يشبهه فإن مبناهم كان على الحق فلم يكونوا يستعملون في دين الله هذه اللعب القبيحة المسقطة للأدب والمروءة
نعم قد لا ينكر اتفاق الغشي ونحوه أو الموت لمن سمع الموعظة بحق فضعف عن مصابرة الرقة الحاصلة بسببها فجعل اابن سيرين ذلك الضابط ميزانا للمحق والمبطل وهو ظاهر فإن القحة لا تبقى مع خوف السقوط من الحائط فقد اتفق من ذلك بعض النوادر وظهر فيها عذر التواجد
فحكي عن أبي وائل قال : خرجنا مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ومعنا الربيع بن خثيمة فممرنا على حداد فقام عبد الله ينظر إلى حديده في النار فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط ثم إن عبد الله مضى كما هو حتى أتينا على شاطىء الفرات على أتون فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية : { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا } إلى قوله : { دعوا هنالك ثبورا } فصعق الربيع يعني غشي عليه فاحتملناه فأتينا به أهله ـ قال ـ ورابطة عبد الله إلى الظهر فلم يفق فرابطه إلى المغرب
فأفاق ورجع عبد الله إلى أهله
فهذه حالات طرأت لواحد من أفاضل التابعين بمحضر صحابي ولم ينكر عليه لعلمه أن ذلك خارج عن طاقته فصار بتلك الموعظة الحسنة كالمغمى عليه فلا حرج إذا
وحكي أن شابا كان يصحب الجنيد رضي الله عنه ـ وهو إمام الصوفية إذ ذاك ـ فكان الشاب إذا سمع شيئا من الذكر يزعق فقال له الجنيد يوما : إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني فكان إذا سمع شيئا يتغير ويضبط نفسه حتى كان يقطر العرق منه بكل شعرة من بدنه قطرة فيوما من الأيام صاح صيحه تلفت نفسه فهذا الشاب قد ظهر فيه مصداق ما قاله السلف لأنه لو كانت صيحته الأولى غلبته لم يقدر على ضبط نفسه وإن كان بشدة كما لم يقدر على ضبط نفسه الربيع بن خثيمة وعليه أدبه الشيخ حين أنكر عليه ووعده بالفرقة إذ فهم منه أن تلك الزعقة من بقايا رعونة النفس فلما خرج الأمر عن كسبه ـ بدليل موته ـ كانت صيحته عفوا لا حرج عليه فيها إن شاء الله
بخلاف هؤلاء القوم الذين لم يشموا من أوصاف الفضلاء فأخذوا بالتشبه بهم فابرز لهم هواهم التشبه بالخوارج ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد المذموم ولكن زادوا على ذلك الرقص والزمر والدوران والضرب على الصدور وبعضهم يضرب على رأسه وما أشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى لكونه من أعمال الصبيان والمجانين المبكي للعقلاء رحمة لهم إذ لم يتخذ مثل هذا طريقا إلى الله وتشبها بالصالحين
وقد صح من حديث العرياض بن سارية رضي الله عنه قال :
[ وعظنا رسول الله صلى الله عليه و سلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ] الحديث فقال الإمام الآجري العالم السني أبو بكر رضي الله عنه : ميزوا هذا الكلام فإنه لم يقل : صرخنا من موعظة ولا طرقنا على رؤوسنا ولا ضربنا على صدورنا ولا زفنا ولا رقصنا كما يفعل كثير من الجهال يصرخون عند المواعظ ويزعقون وينتاشون ـ قال ـ : وهذا كله من الشيطان يلعب بهم وهذا كله بدعة وضلالة ويقال لمن فعل هذا :
اعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم أصدق الناس موعظة وأنصح الناس لأمته وأرق الناس قلبأ وخير الناس من جاء بعده ـ لا يشك في ذلك عاقل ـ ما صرخوا عند موعظته ولا زعقوا ولا رقصوا ولا زفنوا ولو كان هذا صحيحا لكانوا أحق الناس به أن يفعلوه بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكنه بدعة وباطل ومنكر فاعلم ذلك انتهى كلامه وهو واضح فيما نحن فيه
ولا بد من النظر في الأمر كله الموجب للتأثر الظاهر في السلف الأولين مع هؤلاء المدعين فوجدنا الأولين يظهر عليهم ذلك الأثر بسبب ذكر الله أو بسماع آية من كتاب الله وبسبب رؤية اعتبارية ـ كما في قصة الربيع عند رؤيته للحداد والأتون وهو موقد النار ـ ولسبب قراءة في صلاة أو غيرها ولم نجد أحدا منهم ـ فيما نقل العلماء ـ يستعملون الترنم بالأشعار لترق نفوسهم فتتأثر ظواهرهم وطائفة الفقراء على الضد منهم فإنهم يستعملون القرآن والحديث والوعظ والتذكير فلا تتأثر ظواهرهم فإذا قام المزمر تسابقوا إلى حركاتهم المعروفة لهم فبالحري ألا يتأثروا على تلك الوجوه المركوهة المبتدعة لأن الحق لا ينتج إلا حقا كما أن الباطل
لا ينتج إلا باطلا
وعلى هذا التقرير ينبني النظر في حقيقة الرقة المذكورة وهي المحركة للظاهر وذلك أن الرقة ضد الغلط فنقول : هذا رقيق ليس بغليط ومكان رقيق إذا كان لين التراب ومثله الغليط فإذا وصف بذلك فهو راجع إلى لينه وتأثره ضد القسوة ويشعر بذلك قوله تعالى : { ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } لأن القلب الرقيق إذا أوردت عليه الموعظة خضع لها ولان وانقاد ولذلك قال تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } فإن الوجل تأثر ولين يحصل في القلب بسبب الموعظة فترى الجلد من أجل ذلك يقسعر والعين تدمع واللين إذا حل بالقلب ـ وهو باطن الإنسان ـ حل بالجلد بشهادة الله ـ وهو ظاهر الإنسان ـ فقد حل الانفعال بمجموع الإنسان الأولين ـ كما تقدم ـ فإذا رأيت أحدا سمع موعظة أي موعظة كانت فيظهر عليه من الأثر ما ظهر على السلف الصالح علمت أنها رقة هي أول الوجد وأنها صحيحة لا اعتراض فيها
وإذا رأيت أحدا سمع موعظة قرآنية أو سنية أو حكمية ولم يظهر عليه من تلك الآثار شيء حتى يسمع شعرا مرقما أو غناء مطربا فتأثر فإنه لا يظهر عليه في الغالب من تلك الآثار شيء وإنما يظهر عليه انزعاج بقيام أو دوران أو شطح أو صياح أو ما يناسب الغناء لأن الرقة ضد القسوة ـ كما تقدم ـ والطرب ضد الخشوع ـ كما يقوله الصوفية ـ والطرب مناسب للحركة لأنه ثوران الطباع ولذلك اشترك فيه مع الإنسان الحيوان كالإبل والنحل ومن لا عقل له من الأطفال وغير ذلك والخشوع ضده لأنه راجع إلى السكون وقد فسر به لغة كما فسر الطرب بأنه خفة تصحب الإنسان من حزن أو سرور
قال الشاعر :
( طرب الواله أو كالمختبل )
والتطريب مد الصوت وتحسينه
وبيانه أن الشعر المغنى به قد اشتمل على أمرين :
أحدهما : ما فيه من الحكمة والموعظة وهذا مختص بالقلوب ففيها تعمل وبها تنفعل ومن هذه الجهة ينسب السماع إلى الأرواح
والثاني : ما فيه من النغمات المرتبة على النسب التلحيينة وهو المؤثر في الطبائع فيهيجها إلى ما يناسبها وهي الحركات على اختلافها فكل تأثر في القلب من جهة السماع تحصل عنه آثار الكون والخضوع فهو رقة وهو التواجد الذي أشار إليه كلام المجيب - ولا شك أنه محمود - وكل تأثر يحصل عنه ضد السكون
فهو طرب لا رقة فيه ولا تواجد ولا هو عند شيوخ الصوفية محمود لكن هؤلاء الفقراء ليس لهم من التواجد - في الغالب - إلا الثاني المذموم فهم إذا متواجدون بالنغم واللحون لا يدركون من معاني الحكمة شيئا فقد باؤوا إذا بأخسر الصفقتين نعوذ بالله
وإنما جاءهم الغلط من جهة اختلاط المناطين عليهم ومن جهة أنهم استدلوا بغيره فقوله تعالى : { ففروا إلى الله } وقوله : { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا } لا دليل فيه على المعنى وكذلك قوله تعالى : { إذ قاموا فقالوا ربنا } أين فيه أنهم قاموا يرقصون أو يزفنون أو يدورون على أقدامهم ؟ ونحو ذلك فهو من الاستدلال الداخل تحت هذا الجواب
ووقع في كلام المجيب لفظ السماع غير مفسر ففهم منه المجتمع أنه الغناء الذي تستعمله شيعته وهو فهم عموم الناس لا فهم الصوفية فإنه عندهم يطلق على كل صوت أفاد حكمة يخضع لها القلب ويلين لها الجلد وهو الذي يتواجدون عنده التواجد المحمود فسماع القرآن عنهم سماع وكذلك سماع السنة وكلام الحكماء والفضلاء حتى أصوات الطير وخرير الماء وصرير الباب ومنه سماع المنظور أيضا إذا أعطى حكمة ولا يستمعون هذا الأخير إلا في الفرط وعلى غير استعداد وعلى غير وجه الالتذاذ والإطراب ولا هم ممن يدوام عليه أو يتخذه عادة لأن ذلك كله قادح في مقاصدهم التي بنوا عليها
قال الجنيد : إذا رأيت المريد يحب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة وإنما لهم من سماعة إذا اتفق وجه الحكمة إن كان فيه حكمة فاستوى عندهم النظم والنثر وإن أطلق أحد منهم السماع فمن حيث فهم الحكمة لا من حيث يلائم الطباع لأن من سمعه من حيث يستحسنه فهو متعرض للفتنة فيصير إلى ما صار إليه السماع الملذ المطرب
ومن الدليل على أن السماع عندهم ما تقدم ما ذكر عن أبي عثمان المغربي أنه قال : من ادعى السماع ولم يسمع صوت الطير وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو مفتر مبتدع وقال الحصري : أيش أعمل بسماع ينقطع ممن يسمع منه ؟ وينبغي أن يكون سماعك سماعا متصلا غير منقطع وعن أحمد بن سالم قال : خدمت سهل بن عبد الله التستري سنين فما رأيته تغير عند سماع شيء يسمعه من الذكر أو القرآن أو غيره فلما كان في آخر عمره قرىء بين يديه : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } تغير وارتعد وكاد يسقط فلما رجع إلى حال صحوه سألته عن ذلك فقال : يا حبيبي ضعفنا وقال السلمي دخلت على أبي عثمان المغربي وواحد يستقي الماء من البئر على بكرة فقال لي : يا أبا عبد الرحمن ! تدري إيش تقول هذه البكرة ؟ فقلت : لا فقال : تقول الله
فهذه الحكايات وأشباهها تدل على أن السماع عندهم كما تقدم وأنهم لا يؤثرون سماع الأشعار على غيرها فضلا على أن يتصنعوا فيها بالأغاني المطربة ولما طال الزمان وبعدوا عن أحوال السلف الصالح أخذ الهوى في التفريع في السماع حتى صار يستعمل منع المصنوع على قانون الألحان فتعشقت به الطباع وكثر العمل به ودام ـ وإن كان قصدهم به الراحة فقط ـ فصار قذى في طريق سلوكهم فرجعوا به القهقرى ثم طال الأمد حتى اعتقده الجهال في هذا الزمان وما قاربه أنه قربة وجزء أجزاء طريقة التصوف وهو الأدهى
وقول المجيب : وأما من دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته وله في دعوته قصده مطابق حسب ما ذكر أولا بأن من دعا قوما إلى منزله لتعلم آية أو سورة من كتاب الله أو سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه و سلم أو مذاكرة في علم أو في نعم الله أو مؤانسة في شعر فيه حكمة ليس فيه غناء مكروه ولا صحبه شطح ولا زفن ولا صياح وغير ذلك من المنكرات ثم ألقى إليهم من الطعام على غير وجه التكلف والمباهاة ولم يقصد بذلك بدعة ولا امتيازا لفرقة تخرج بأفعالها وأقوالها عن السنة فلا شك في استحسان ذلك لأنه داخل في حكم المأدبة المقصود بها حسن العشرة بين الجيران والإخوان والتودد بين الأصحاب وهي في حكم الاستحباب فإن كان فيها تذاكر في علم أو نحوه فهي من باب التعاون على الخير
ومثال ما يحكى عن محمد بن حنيف قال : دخلت يوما على القاضي علي بن أحمد فقال لي : يا أبا عبد الله ! قلت : لبيك أيها القاضي قال : ها هنا أحكي لكم حكاية تحتاج أن تكتبها بماء الذهب فقلت : أيها القاضي ! ما الذهب فلا أجده ولكني أكتبها بالحبر الجيد فقال : بلغني أنه قيل أبي عبد الله أحمد بن حنبل : أن الحارث المحاسبي يتكلم في علوم الصوفية ويحتج عليه بالآي فقال أحمد : أحب أن أسمع كلامه من حيث لا يعلم فقال أنا أجمعك معه فاتخذ دعوة ودعا الحارث وأصحابه ودعا أحمد فجلس بحيث يرى الحارث فحضرت الصلاة فتقدم وصلى بهم المغرب وأحضر الطعام فجعل يأكل ويتحدث معهم فقال أحمد : هذا منالسنة
فلما فرغوا من الطعام وغسلوا أيديهم جلس الحارث وجلس أصحابه فقال : من أراد منكم أن يسأل شيئا فليسأل فسئل عن الإخلاص وعن الرياء ومسائل كثيرة فاستشهد بالآي والحديث أحمد يسمع لا ينكر شيئا من ذلك فلما مضى هدي من الليل أمر الحارث قارئا يقرأ شيئا من القرآن على الحدو فقرأ فبكى بعضهم وانتخب آخرون ثم سكت القارىء فدعا الحارث بدعوات خفاف ثم قام إلى الصلاة فلما أصبحوا قال أحمد : قد كان بلغني أن ها هنا مجالس للذكر يجتمعون عليها فإن كان هذا من تلك المجالس فلا أنكر منها شيئا
ففي هذه الحكاية أن أحوال الصوفية توزن بميزان الشرع وأن مجالس الذكر ليست ما زعم هؤلاء بل ما تقدم لنا ذكره وأما ما سوى ذلك مما اعتادوه فهو مما ينكر
والحارث المحاسبي من كبار الصوفية المقتدى بهم فإذا ليس في كلام المجيب ما يتعلق به هؤلاء المتأخرون إذ باينوا المتقدمين من كل وجه وبالله التوفيق
والأمثلة في الباب كثيرة لو تتبعت لخرجنا عن المقصود وإنما ذكرنا أمثلة تبين من استلالاتهم الواهية ما يضاهيها وحاصلها الخروج في الاستدلال عن الطريق الذي أوضحه العلماء وبينه الأئمة وحصر أنواعه الراسخون في العلم
ومن نظر إلى طريق أهل البدع في الاستدلالات عرف أنها لا تنضبط لأنها سيالة لا تقف عند حد وعلى كل وجه يصح لكل زائغ وكافر أن يستدل على زيغه وكفره حتى ينسب النحلة التي التزمها إلى الشريعة
فقد رأينا وسمعنا عن بعض الكفار أنه استدل على كفره بآيات القرآن كما استدل بعض النصارى على تشريك عيسى بقوله تعالى : { وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } واستدل على أن الكفار من أهل الجنة بإطلاق قوله تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر } واستدل بعض اليهود على تفضيلهم علينا بقوله سبحانه : { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } وبعض الحلولية استدل على قوله تعالى : { ونفخت فيه من روحي } والتناسخي استدل بقوله : { في أي صورة ما شاء ركبك }
وكذلك كل من اتبع المتشابهات أو حرف المناطات أو حمل الآيات ما لا تحمله عند السلف الصالح أو تمسك بالأحاديث الواهية أو اخذ الأدلة ببادي الرأي له أن يستدل على كل فعل أو قول أو اعتقاد وافق غرضه بآية أو حديث لا يفوز بذلك أصلا والدليل عليه استدلال كل فرقة شهرت بالبدعة على بدعتها يآية أو حديث من غير توقف ـ حسبما تقدم ذكره ـ وسيأتي له نظائر أيضا إن شاء الله
فمن طلب خلاص نفسه تثبت حتى يتضح له الطريق ومن تساهل رمته أيدي الهوى في معاطب لا مخلص له منها إلا ما شاء الله
الباب الخامس في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما
ولا بد قبل النظر في ذلك من تفسير البدعة الحقيقية والإضافية فنقول وبالله التوفيق
إن البدعة الحقيقية : هي التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل ولذلك سميت بدعة - كما تقدم ذكره - لأنها شئ مخترع على غير مثال سابق وإن كان المبتدع يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشرع إذ هو مدع أنه داخل بما استنبط تحت مقتضى الأدلة لكن تلك الدعوى غير صحيحة لا في نفس الأمر ولا بحسب الظاهر أما بحسب نفس الأمر فبالعرض وأما بحسب الظاهر فإن أدلته شبه ليست بأدلة إن ثبت أنه استدل وإلا فالأمر واضح
وأما البدعة الإضافية فهي التي لها شائبتان : إحداهما لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة والأخرى ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية وهي البدعة الإضافية أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لأنها مستندة إلى دليل وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو غير مستندة إلى شيء
والفرق بينهما من جهة المعنى أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم ومن دهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها مع أنها محتاجة إليه لأن الغالب وقوعها في التعبديات لا في العاديات المحضة كما سنذكره إن شاء الله
ثم نقول بعد هذا : إن الحقيقية لما كانت أكثر وأعم وأشهر في الناس ذكرا وافترقت الفرق وكان الناس شيعا وجرى من أمثلتها ما فيه الكفاية وهي أسبق في فهم العلماء ـ تركنا الكلام فيما يتعلق بها من الأحكام ومع ذلك فقلما تختص بحكم دون الإضافية بل هما معا يشتركان في أكثر الأحكام التي هي مقصودا هذا الكتاب أن تشرح فيه بخلاف الإضافية فإن لها أحكاما خاصة وشرحا خاصا ـ وهو المقصود في هذا الباب إلا أن الإضافية أولا على ضربين : أحدهما يقرب من الحقيقية حتى تكاد البدعة تعد حقيقية والآخر يبعد منها حتى يكاد سنة محضة
ولما انقسمت هذا الانقسام صار من الأكيد على كل قسم على حدته فلنعقد في كل واحد منهما فصولا بحسب ما يقتضيه الوقت وبالله التوفيق
فصل من فصول البدع الإضافية قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام ومن اتبعه : وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة إلى آخر الآية
قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام ومن اتبعه : { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون }
فخرج عبد بن حميد وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهما [ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على أليتيه واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة آذت الملوك وقاتلتهم على دين الله ـ ودين عيسى ابن مريم عليهما السلام ـ فساحوا في الجبال وترهبوا فيها هم الذين قال الله عز و جل فيهم : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } فالمؤمنين الذين آمنوا بي وصدقوا بي والفاسقون الذين كذبوا وحجدوا ] وهذا الحديث من أحاديث الكوفيين والرهبانية فيه بمعنى اعتزال الخلق في السياحة واطراح الدنيا ولذاتها من النساء وغير لك ومنه لزوم الصوامع والديارة ـ على ما كان عليه أمر النصارى قبل الإسلام ـ مع التزام العبادة وعلى هذا التفسير جماعة من المفسرين
ويحتمل أن يكون الاستثناء في قوله تعالى : { إلا ابتغاء رضوان الله } متصلا ومنفصلا فإذا بنينا على الاتصال فكأنه يقول : ما كتبناها عليهم إلا على هذا الوجه الذي هو العمل بها ابتغاء رضوان الله فالمعنى أنها مما كتبت عليهم ـ أي مما شرعت لهم ـ لكن بشرط قصد الرضوان فما رعوها حق رعايتها بدليل أنهم تركوا رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو قول طائفة من المفسرين لأن قصد الرضوان إذا كان شرطا في العمل بما شرع لهم فمن حقهم أن يتبعوا ذلك القصد فإلى أين سار بهم ساروا وإنما شرع لهم على شرط أنه إذا نسخ بغيره رجعوا إلى ما أحكم وتركوا ما نسخ وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة فإذا لم يفعلوا وأصروا على الأول كان ذلك ابتاعا للهوى لا اتباعا للمشروع واتباع المشروع هو الذي يحصل له الرضوان وقصد الرضوان بذلك
قال تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } فالذين أمنوا هم الذين اتبعوا الرهبانية ابتغاء رضوان الله والفاسقون هم الخارجون عن الدخول فيها بشرطها إذ لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه و سلم
إلا أن هذا التقرير يقتضي أن المشروع لهم يسمى ابتداعا وهو خلاف ما دل عليه حد البدعة
والجواب أنه يسمى بدعة من حيث أخلوا بشرط المشروع إذ شرط عليهم فلم يقوموا به وإذا كانت العبادة مشروطة بشرط فيعمل بها دون شرطها لم تكن عبادة على وجهها وصارت بدعة كالمخل قصدا بشرط من شروط الصلاة مثل استقبال القبلة أو الطهارة أو غيرها فحيث عرف بذلك وعلمه فلم يلتزمه ودأب على الصلاة دون شرطها فذلك العمل من قبيل البدع فيكون ترهب النصارى صحيحا قبل بعث محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما بعث وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع وهو عين البدعة
وإذا بنينا على أن الاستثناء منقطع ـ وهو قول فريق من المفسرين ـ فالمعنى : ما كتبناها عليهم أصلا ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فلم يعملوا بها بشرطها وهو الإيمان برسول الله صلى الله عليه و سلم إذ بعث إلى الناس كافة وإنما سميت بدعة على هذا الوجه لأمرين :
أحدهما : يرجع إلى أنها بدعة حقيقية ـ كما تقدم ـ لأنها داخلة تحت حد البدعة
والثاني : يرجع إلى أنها بدعة إضافية لأن ظاهر القرآن دل على أنها لم تكن مذمومة في حقهم بإطلاق بل لأنهم أخلوا بشرطها فمن لم يخل منهم بشرطها وعمل بها قبل بعث النبي صلى الله عليه و سلم حصل له فيها أجر حسبما دل عليه قوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } أي أن من عمل بها في وقتها ثم آمن بالنبي صلى الله عليه و سلم بعد بعثه وفيناه أجره
وإنما قلنا : إنها في هذا الوجه إضافية لأنها لو كانت حقيقية لخالفوا بها شرعهم الذي كانوا عليه لأن هذا حقيقة البدعة فلم يكن لهم بها أجر بل كانوا يستحقون العقاب لمخالفتهم لأوامر الله ونواهيه فدل على أنهم فعلوا ما كانوا جائزا لهم فعله فلا تكون بدعتهم حقيقية لكنه ينظر على أي معنى أطلق عليها لفظ البدعة وسيأتي بعد بحول الله
وعلى كل تقدير فهذا القول لا يتعلق بهذه الأمة منه حكم لأنه نسخ في شريعتنا فلا رهبانية في الإسلام وقال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ من رغب عن سنتي فليس مني ]
على أن ابن العربي نقل في الآية أربعة أقوال : الأول ما تقدم والثاني أن الرهبانية رفض النساء وهو المنسوخ في شرعنا والثالث اتخاذ الصوامع للعزلة والرابع السياحة قال : وهو مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان
وطاهره يقتضي أنها بدعة لأالذين ترهبوا قبل الإسلام إنما فعلوا ذلك فرارا منهم بدينهم وسميت بدعة والندب إليها يقتضي أن لا ابتداع فيها فكيف يجتمعان ؟ ولكن للمسألة بيان فقد يذكر بحول الله
وقيل : إن معنى قوله تعالى : { ورهبانية ابتدعوها } إنهم تركوا الحق وأكلوا لحوم الخنازير وشربوا الخمر ولم يغتسلوا من جنابة وتركوا الختان { فما رعوها } يعني الطاعة والملة { حق رعايتها } فالهاء راجعة إلى غير مذكور وهو الملة المفهوم معناها من قوله : { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة } لأنه يفهم منه أن ثم ملة متبعة كما دل قوله : { إذ عرض عليه بالعشي } على الشمس حتى عاد عليها الضمير في قوله : { توارت بالحجاب } وكان المعنى على هذا القول : ما كتبناها عليهم على هذا الوجه الذي فعلوه وإنما أمرناهم بالحق فالبدعة فيه إذا حقيقية لا إضافية وعلى كل تقدير فهذا الوجه هو الذي قال به أكثر العلماء فلا نظر فيه بالنسبة إلى هذه الأمة
وخرج سعيد بن منصور و إسماعيل القاضي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال : أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم إنما كتب عليكم الصيام فدموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه فإن أناسا من يني إسرائيل ابتدعوها بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال : { ورهبانية ابتدعوها } الاية
وفي رواية : فإن أناسا من بني إسرائيل ابتدعوها بدعة ابتغاء رضوان الله فلم يرعوها حق رعايتها فعاتبهم الله بتركها وتلا هذه الآية : { ورهبانية ابتدعوها } الآية
وهذا القول يقرب من قول بعض المفسرين في قوله ك { فما رعوها حق رعايتها } يريد أنهم قصروا فيها ولم يدوموا عليها
قال بعض نقلة التفسير : وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونقل وأن يرعوه حق رعايته
قال ابن العربي ـ وقد زاغ عن منهج الصواب ـ من يظن أنها رهبانية كتبت عليهم بعد أن التزموها قال : وليس يخرج هذا عن مضمون الكلام ولا يعطيه أسلوبه ولا معناه ولا يكتب على أحد شيء إلا بشرع أو نذر قال : وليس في هذا اختلاف بين أهل الملل والله أعلم
وهذا القول محتاج إلى النظر والتأمل إذا بنينا العمل على وقفه إذ أكثر العلماء على القول الأول فإن هذ الملة لا بدعة فيها ولا تحتمل القول بجواز الابتداع بحال للقطع بالدليل غذ كل بدعة ضلالة ـ حسبما تقدم ـ فالأصل أن يتبع الدليل ولا عمل على خلافه
ومع ذلك فلا نخلي ـ بحول الله ـ قول أبي أمامة رضي الله عنه من نظر صحيح على وفق الدليل الشرعي وإن كان فيه بعد بالنسبة إلى ظاهر الأمر وذلك أنه عد عمل عمر رضي الله عنه في جمع الناس في المسجد على قارىء واحد في رمضان بدعة لقوله حين دخل المسجد وهم يصلون : نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل
وقد مر أنه إنما سماها باعتبار ما وأن قيام الإمام بالناس في المسجد في رمضان سنة عمل بها صاحب السنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما تركها خوفا من الافتراض فلما انقضى زمن الوحي زالت العلة فعاد العمل بها إلى نصابه إلا أن ذلك لم يتأت لأبي بكر رضي الله عنه زمان خلافته لمعارضة ما هو أولى بالنظر فيه وكذلك صدر خلافة عمر رضي الله عنه حتى تأتى النظر فوقع منه لكنه صار في ظاهر الأمر كأنه أمر لم يجر به عمل من تقدمه دائما فسماه بذلك الاسم لا أنه أمر على خلاف ما ثبت من السنة
فكأن أبا أمامة رضي الله عنه اعتبر فيه نظر ذلك العمل به فسماه إحداثا موافقة لتسمية عمر رضي الله عنه ثم أمر بالمداومة عليه بناء على ما فهم من هذه الآية من أن ترك الرعاية هو ترك دوامهم على التزام عمل ليس بمكتوب بل هو مندوب فلم يوفوا بمقتضى ما التزموه لأن الأخذ في التطوعات غير اللازمة ولا السنن الراتبة يقع على وجهين :
أحدهما : أن تؤخذ على أصلها فيما استطاع الإنسان فتارة بنشط لها وتارة لا ينشط أو يمكنه تارة بحسب العادة ولا يمكنه أخرى لمزاحمة أشغال ونحوها وما أشبه ذلك كالرجل يكون له اليوم ما يتصدق به قيتصدق ولا يكون له ذلك غدا أو يكون له إلا أنه لا ينشط للعطاء أو يرى إمساكه أصلح في عادته الجارية له أو غير ذلك من الأمور الطارئة للإنسان فهذا الوجه لا حرج على أحد ترك التطوعات كلها فيه ولا لوم عليه إذ لو كان ثم لوم أو عتب لم يكن تطوعا وهو خلاف الفرض
والثاني : أن تأخذ مأخذ الملتزمات كالرجل يتخذ لنفسه وظيفة راتبه من عمل صالح في وقت من الأوقات كالتزام قيام حظ من الليل مثلا وصيام يوم بعينه لفضل ثبت فيه على الخصوص كعاشوراء وعرفة أو يتخذ وظيفة من ذكر الله بالغداوة والعشي وما أشبه ذلك فهذا الوجه أخذت فيه التطوعات مأخذ الواجبات من وجه أنه لما نوى الدؤوب عليها في الاستطاعة اشبهت الواجبات والسنن الراتبة كما أنه لو كان ذلك الإيجاب غير لازم بالشرع لم يصر واجبا إذ تركه أصلا لا حرج فيه في الجملة أعني ترك الالتزام ونظيره عندنا النوافل الراتبة بعد الصلوات فإنها مستحبة في الأصل ومن حيث صارت رواتب أشبهت السنن والواجبات
وهذا المعنى هو المفهوم من قوله صلى الله عليه و سلم في الركعتين بعد العصر حين صلاهما فسئل عنهما فقال :
[ يا ابنة أبي أمية سألت عن الركعتين بعد العصر ؟ أتى ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان ] لأنه سئل عن صلاته لهما بعد ما نهى عنهما فإنه صلى الله عليه و سلم كان يصليهما بعد الظهر كالنوافل الراتبة فإما فاتتاه صلاهما بعد وقتهما كالقضاء لهما حسبما يقضى الواجب
فصار حينئذ لهذا النوع حالة من التطوع بين حالتين إلا أنه راجع إلى خيرة المكلف بحسب ما فهمنا من الشرع وإذا كان كذلك فقد فهمنا من مقصود الشرع أيضا الأخذ بالرفق والتيسير وأن لا يلزم المكلف ما لعله يعجز عنه أو يحرج بالتزامه فإن ترك الالتزام إن لم يبلغ مبلغ القدر الذي يكره ابتداء فهو يقرب من العهد الذي يجعله الإنسان بينه وبين ربه والوفاء بالعهد مطلوب في الجملة فصار الإخلال به مكروها
والدليل على صحة الأخذ بالرفق والدليل على صحة الأخذ بالرفق وأنه الأولى والأحرى ـ وإن كان الدوام على العمل أيضا مطلوبا عيتدا ـ في الكتاب والسنة { واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } على قول طائفة من المفسرين : أن الكثير من الأمر واقع في التكاليف الإسلامية ومعنى لعنتم لحرجتم ولدخلت عليكم المشقة ودين الله لا حرج فيه { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } بالتسهيل والتيسير { وزينه في قلوبكم } الآية
وإنما بعث النبي صلى الله عليه و سلم بالحنيفية السمحة ووضع الإصر والأغلال التي كانت على غيرهم وقال الله تعالى في صفة نبيه صلى الله عليه و سلم : { عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } وقال تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال : { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } وسمى الله تعالى الأخذ بالتشديد على النفس اعتداء فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا } ومن الأحاديث كثير كمسألة الوصال ففي الحديث [ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
نهاهم النبي صلى الله عليه و سلم عن الوصال رحمة لهم قالوا : إنك تواصل قال : إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي ـ يطعمني ويسقيني ]
وعن أنس رضي الله عنه قال :
[ واصل رسول الله صلى الله عليه و سلم في آخر شهر رمضان فواصل ناس من المسلمين فبلغه ذلك فقال : لو مد لنا شهر لواصلنا وصلا حتى يدع المتعمقون تعمقهم ] وهذا إنكار
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الوصال فقال رجل من المسلمين فإنك يا رسول الله تواصل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : وأيكم مثلي ؟ إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ] فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : لو تأخر الشهر لزدتكم كالمنكل حين أبوا أن ينتهوا
ومن ذلك مسألة قيام النبي صلى الله عليه و سلم بهم في رمضان فإنه تركه مخافة أن يفرض عليهم فيعجزوا عنه فيقعوا في الإثم والحرج فكان ذلك رفقا منه بهم
قال القاضي أبو الطيب : يحتمل أن يكون الله تعالى أوحى إليه أنه إن واصل وفقا هذه الصلاة معهم فرضت عليهم
و [ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها :
إن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم ]
وقد قيل هذا المعنى في قوله صلى الله عليه و سلم :
[ لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ]
قال المهلب : وجهه خشيت أن يستمر عليه فيفرض
وبهذا المعنى يجتمع النهي مع قول مالك رضي الله عنه في الموطأ ولا يكون به إشكال
ومن ذلك حديث الحولاء بنت تويت [ قالت عائشة رضي الله عنها : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم وعندي امرأة فقال : من هذه ؟ فقلت ؟ امرأة لا تنام تصلي فقال صلى الله عليه و سلم لا تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا ]
فأعاد لفظ لا تنام منكرا عليها ـ والله أعلم ـ غير راض فعلها لما خافه عليها من الكلل والسآمة أو تعطيل حق أوكد ونحوه حديث أنس رضي الله عنه قال : [ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد ـ وحبل ممدود بين سارتين ـ فقال : ما هذا ؟ قالوا : حبل لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به فقال : حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد ] وفي رواية : [ لا حلوه ]
و [ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنها قال : بلغ النبي صلى الله عليه و سلم أني أصوم أسرد وأصلي الليل فإما أرسل إلي وإما لقيته : فقال : ألم أخبر أنك تصوم لا تفطر وتصلي الليل ؟ فلا تفعل فإن لعينك حظا ولنفسك حظا ولأهلك حظا فصم وأفطر وصل ونم ] الحديث
وفي رواية عن ابن سلمة قال : [ حدثني عبد الله بن عمرو العاص رضي الله عنهما قال : كنت أصوم الدهر وأقرأ القرآن كل ليلة فإما ذكرت للنبي صلى الله عليه و سلم وإما أرسل إلي فأتيته فقال : ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ فقلت : بلى يا رسول الله ولم أر في ذلك إلا الخير قال : فإن كان كذلك ـ أو قال كذلك ـ فحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام فقلت : يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال : فإن لزوجك عليك حقا ولزوارك عليك حقا ولجسدك عليك حقا قال : فصم صوم داود نبي الله فإنه كان أعبد الناس قال : فقلت يا نبي الله ـ وما صوم داود ؟ قال : كان يصوم يوما ويفطر يوما ـ قال واقرأ القرآن في كل شهر قال : فقلت يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال : فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك فإن لزوجك عليك حقا ولزوارك عليك حقا ولجسدك عليك حقا قال : فشددت فشدد الله علي قال : وقال لي النبي صلى الله عليه و سلم : إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر قال : فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه و سلم فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه و سلم ] وفي رواية قال : [ صم يوما وأفطر يوما وذاك صيام داود وهو أعدل الصيام قال فقلت : إني أطيق أفضل من ذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا أفضل من ذلك قال عبد الله بن عمرو : لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب إلي من أهلي ومالي ]
وفي الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال : ذكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بعبادة واجتهاد وذكر عنده آخر بدعة فقال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ لا يعدل بالدعة ] والدعة المراد بها هنا الرفق والتيسير قال فيه الترمذي : حسن غريب
وعن أنس رضي الله عنه قال :
[ جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه و سلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه و سلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه و سلم ؟ وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ فقال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال الآخر : إني أصوم الدهر ولا أفطر وقال الآخر : إني أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وارقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ]
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي بجملتها تدل على الأخذ في التسهيل والتيسير وإنما يتصور ذلك على الوجه الأول من عدم الالتزام وإن تصور مع الالتزام فعلى جهة ما لا يشق الدوام فيه حسبما نفسره الآن
فصل فأما إن التزم ذلك أحد التزاما فأما إن التزم أحد ذلك التزاما فعلى وجهين : إما على جهة النذر وذلك مكروه ابتداء ألا ترى إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : [ أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما ينهانا عن النذر يقول : إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من الشحيح ـ وفي رواية ـ النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره وإنما يستخرج به من البخيل ]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج به من البخيل ]
وإنما ورد هذا الحديث ـ والله أعلم ـ تنبيها على عادة العرب في أنها كانت تنذر إن شفى الله مريضي فعلي صوم كذا وإن قدم غائبي أو أن أغناني الله فعلي صدقة كذا فيقول : لا يغني من قدر الله شيئا بل من قدر الله له الصحة أو المرض أو الغنى أو الفقر أو غير ذلك فالنذر لم يوضع سببا لذلك كما وضعت صلة الرحم سببا في الزيادة في العمر مثلا على الوجه الذي ذكره العلماء بل النذر وعدمه في ذلك سواء ولكن الله يستخرج به من البخيل بشرعية الوفاء به لقوله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } وقوله صلى الله عليه و سلم :
[ من نذر أن يطيع الله فليطعه ] وبه قال جماعة من العلماء كمالك و الشافعي
ووجه النهي أنه من باب التشديد على النفس وهو الذي تقدم الاستشهاد على كراهته وأما على جهة الالتزام غير النذري فكأنه نوع من الوعد والوفاء بالعهد مطلوب فكأنه أوجب على نفسه ما لم يوجبه عليه الشرع فهو تشديد أيضا وعليه يأتي ما تقدم من
حديث الثلاثة الذين أتوا يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه و سلم : وقولهم أين نحن من النبي صلى الله عليه و سلم ؟ ألخ وقال أحدهم : أما أنا فأفعل كذا ألخ
ونحوه وقع في بعض الروايات :
[ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبر أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول : لأقومن الليل ولأصومن النهار ما عشت ] وليس بمعنى النذر إذ لو كان كذلك لم يقل له : [ صم من الشهر ثلاثة أيام ] صم كذا ولقال له : أوف بنذرك لأنه صلى الله عليه و سلم قال :
[ من نذر أن يطيع الله فليطعه ]
فأما الالتزام بالمعنى النذري فلا بد من الوفاء به وجوبا لا ندبا ـ على ما قاله العلماء ـ وجاء في الكتاب والسنة ما يدل عليه وهو مذكور في كتب الفقه فلا نطيل به
وأما المعنى الثاني فالأدلة تقتضي الوفاء به في الجملة ولكن لا تبلغ مبلغ العتاب على الترك حسبما دلت عليه الأدلة في مأخذ أبي أمامة رضي الله عنه للقيام في المسجد جماعة كان ذلك بصورة النوافل الراتبة المقتضية للدوام في القصد الأول فأمرهم بالدوام حتى لا يكونوا كمن عاهد ثم لم يوف بعهده فيصير معاتبا لكن هذا القسم على وجهين :
الوجه الأول : أن يكون في نفسه مما لا يطاق أو مما فيه حرج أو مشقة فادحة أو يؤدي إلى تضييع ما هو أولى فهذه هي الرهبانية التي قال فيها النبي صلى الله عليه و سلم :
[ من رغب عن سنتي فليس مني ] وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله
والوجه الثاني : أن لا يكون في الدخول فيه مشقة ولا حرج ولكنه عند الدوام عليه تلحق بسببه المشقة والحرج أو تضييع ما هو أوكد فها هنا أيضا يقع النهي ابتداء وعليه دلت الأدلة المتقدمة وجاء في بعض روايات مسلم تفسير ذلك حيث قال : فشددت فشدد علي وقال لي النبي صلى الله عليه و سلم :
[ إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر ]
فتأملوا كيف اعتبر في التزام ما لا يلزم ابتداء أن يكون بحيث لا يشق الدوام عليه إلى الموت قال : فصرت إلى الذي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما كبرت وددت أنني قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه و سلم
وعلى ذلك المعنى ينغبي أن يحمل قوله صلى الله عليه و سلم في حديث أبي قتادة رضي الله عنه كيف بمن يصوم يومين ويفطر يوما ؟ قال :
ويطيق أحد ذلك ؟ ثم قال في صوم يوم وإفطار يوم : وددت أني طوقت ذلك فمعناه ـ والله أعلم ـ وددت أني طوقت الدوام عليه وإلا فقد كان يواصل الصيام ويقول :
[ إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي ـ يطعمني ويسقيني ]
وفي الصحيح :
[ كان يصوم حتى نقول : لا يفطر ويفطر حتى نقول : لا يصوم ]
فصل إذا ثبت هذا فالدخول في عمل على نية الإلتزام له إذا ثبت هذا فالدخول في عمل على نية الإلتزام له إن كان في المعتاد بحيث إذا داوم عليه أورث مللا ينبغي أن يعتقد أن هذا الالتزام مكروه ابتداء إذ هو مؤد إلى أمور جميعها منهي عنه :
أحدها : أن الله ورسوله أهدى في هذا الدين التسهيل والتيسير وهذا الملتزم يشبه من لم يقبل هديته وذلك يضاهي ردها على مهديها وهو غير لائق بالمملوك مع سيده فكيف يليق بالعبد مع ربه ؟
والثاني : خوف التقصير أو العجز عن القيام بما هو أولى وآكد في الشرع وقال صلى الله عليه و سلم إخبارا عن داود عليه السلام :
[ إنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى ] تنبيها على أنه لم يضعفه الصيام عن لقاء لعدو فيفر ويترك الجهاد في مواطن نكيده بسبب ضعفه
وقيل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه : إنك لتقل الصوم فقال : إنه يشغلني عن قراءة القرآن وقراءة أحب إلي منه
ولذلك كره مالك إحياء الليل كله وقال : لعله يصبح مغلوبا وفي رسوله الله صلى الله عليه و سلم أسوة ثم قال : لا بأس به ما لم يضر بصلاة الصبح
وقد جاء في : صيام يوم عرفة أنه يكفر سنتين ثم إن الإفطار فيه للحاج أفضل لأنه قوة على الوقوف والدعاء ولابن وهب في ذلك حكاية وقد جاء في الحديث :
[ إن لأهلك عليك حقا ولزوارك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ] فإذا انقطع إلى عباده لا تلزمه الأصل فربما أخل بشيء من هذه الحقوق
وعن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال :
[ آخر ما آخى رسول الله صلى الله عليه و سلم بين سلمان وأبي الدرداء فزارسلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال : ما شأنك مبتذلة ؟ قالت : إن أخاك أبا الدرداء ليست له حاجة في الدنيا قال : فلما جاء ابو الدرداء قرب إليه طعاما فقال : كل فإني صائم قال : ما أنا بآكل حتى تأكل قال : فأكل فلما كان الليل ذهب ابو الدرداء ليقوم فقال له سلمان : نم فنام ثم ذهب يقوم فقال له : نم فنام فلما كان عند الصبح قال له سلمان : قم الآن فقاما فصليا فقال سلمان : إن لنفسك عليك حقا ولربك عليك حقا ولضيفك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط لكل ذي حق حقه فأتيا النبي صلى الله عليه و سلم فذكرا ذلك له فقال : صدق سلمان ] قال الترمذي : صحيح وهذا الحديث قد جمع التنبيه على حق الأهل بالوطء والاستمتاع وما يرجع إليه والضيف بالخدمة والتأنيس والمؤاكلة وغيرها والولد يالقيام عليهم بالاكتساب والخدمة والنفس بترك إدخال المشتقات عليها وحق الرب سبحانه بجميع ما تقدم وبوظائف أخر فرائض ونوافل آكد مما هو فيه
والواجب أن يعطى لكل ذي حق حقه وإذا التزم الإنسان أمرا من الأمور المندوبة أو أمرين أو ثلاثة فقد يصده ذلك عن القيام بغيرها أو عن كماله على وجهة فيكون ملوما
والثالث : خوف كراهية النفس لذلك العمل الملتزم لأنه قد فرض من جنس ما يشق الدوام عليه فتدخل المشقة بحيث لا يقرب من وقت العمل إلا والنفس تشمئز منه وتود لو لم تعمل أو تتمنى لو لم تلتزم وإلى هذا المعنى يشير حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا لأنفسكم عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ] يشبه الموغل بالعنف بالمنبت وهو المنقطع في بعض الطريق تعنيفا على الظهر ـ وهو المركوب ـ حتى وقف فلم يقدر على السير ولو رفق بدايته لوصل إلى رأس المسافة
فكذلك الإنسان عمره مسافة والغاية الموت ودابته نفسه فكما هو المطلوب الرفق بنفسه حتى يسهل عليها قطع مسافة العمر بحمل التكليف فنهى في الحديث عن التسبب في تبغيض العبادة للنفس وما نهى الشرع عنه لا يكون حسنا
وخرج الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال :
[ لما نزلت : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا ومعاذا فقال : انطلقا فبشرا ويسرا ولا تعسرا فإني أنزلت علي : { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } ]
وخرج مسلم [ عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه و سلم بعثه ومعاذا إلى اليمن فقال :
بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا ]
وعنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال : بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا ] وهذا نهي عن التعسير الذي التزام الحرج في التعبد نوع منه
وفي الطبري عن جابر بن عبد الله قال : [ مر النبي صلى الله عليه و سلم على رجل يصلي على صخرة بمكة فأتى ناحية مكة فمكث مليا ثم انصرف فوجد الرجل يصلي على حاله فقال : أيها الناس عليكم بالقصد والقسط ـ ثلاثاـ فإن الله لن يمل حتى تملوا ]
وعن بريدة الأسلمي :
[ أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى رجلا يصلي فقال : من هذا ؟ فقلت : هذا فلان فذكرت من عبادته وصلاته فقال : إن خير دينكم يسره ]
وهذا يشعر بعدم الرضا بتلك الحالة وإنما ذلك مخافة الكراهية للعمل وكراهية العمل مظنة للترك الذي هو مكروه لمن ألزم نفسه لأجل نقض العهد
وهو الوجه الرابع : وقد مر في الوجه الثالث ما يدل عليه فإن قوله صلى الله عليه و سلم : [ فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ومع قوله : ولا تبغضوا إلى أنفسكم العبادة ] يدل على أن بعض العمل وكراهيته مظنة الانقطاع ولذلك مثل صلى الله عليه و سلم بالمنبت ـ وهو المنقطع عن استيفاء المسافة ـ وهو الذي دل عليه قول الله تعالى : { فما رعوها حق رعايتها } على التفسير المذكور
والخامس : الخوف من الدخول تحت الغلو في الدين فإن الغلو هو المبالغة في الأمر ومجاوزة الحد فيه إلى حيز الإسراف وقد دل عليه مما تقدم أشياء حيث قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ يا ايها الناس عليكم أنفسكم بالقصد ] الحديث وقال الله عز و جل : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم }
[ وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم غداة العقبة : اجمع لي حصيات من حصى الحذف فلما وضعتهن في يده قال : بأمثال هؤلاء ؟ بأمثال هؤلاء ؟ إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ]
فأشار إلى أن الآية في النهي عن الغلو يشتمل معناها على كل ما هو غلو وإفراط واكثر هذه الأحاديث المقيدة آنفا اخرجها الطبري
وخرج أيضا عن يحيى بن جعدة قال : كان يقال اعمل وأنت مشفق ودع العمل وأنت تحبه : عمل دائم وإن قل خير من عمل كثير منقطع وأتى معاذا رجل فقال : أوصني قال : أمطيعي أنت ؟ قال : نعم قال : صل ونم وأفطر وصم واكتسب ولا تأت الله إلا وأنت مسلم وإياك ودعوة المظلوم
وعن إسحاق بن سويد [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعبد بن مطرف : يا عبد الل ه العلم أفضل من العمل والحسنة بين السيئتين وخير الأمور أوسطها وشر السير الحقحقة ]
ومعنى قوله : [ إن الحسنة بين السيئتين ] أن الحسنة هي القصد والعدل والسيئتين مجاوزة الحد والتقصير وهو الذي دل على معناه قول الله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } الآية وقوله : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } الآية ومعنى الحقحقة ارفع السير وإتعاب الظهر وهو راجع إلى الغلو والإفراط
ونحوه عن يزيد بن مرة الجعفي قال : العلم خير من العمل والحسنة بين السيئتين
وعن كعب الأحبار : إن هذا الدين متين فلا تبغض إليك دين الله وأوغل برفق فإن المنبت لم يقطع بعدا ولم يسبق ظهرا واعمل عمل المرء الذي يرى أنه لا يموت اليوم واحذر حذر المرء الذي يرى أنه يموت غدا
وخرج ابن وهب نحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص
وهذه إشارة إلى الأخذ بالعمل الذي يقتضي المداومة عليه من غير حرج
وعن عمر بن إسحاق قال أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر ممن سبقني منهم ؟ فمارأيت قوما أيسر سيرة ولا أقل تشديدا منهم
وقال الحسن : دين الله وضع فوق التقصير ودون الغلو
والأدلة في هذا المعنى جميعها راجع إلى أنه لا حرج في الدين والحرج كما ينطبق على الحرج الحالي ـ كالشروع في عبادة شاقة في نفسها ـ كذلك ينطلق على الحرج المآلي إذ كان الحرج لازما مع الدوام كقصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وغيرها ـ مما تقدم ـ مع أن الدوام مطلوب حسبما اقتضاه قول ابي أمامة رضي الله عنه في قوله تعالى : { فما رعوها حق رعايتها } وقوله صلى الله عليه و سلم :
[ أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل ] فلذلك كان صلى الله عليه و سلم إذا عمل عملا أثبته حتى قضى ركعتين ما بين الظهر والعصر بعد العصر
هذا إن كان العامل لا ينوي الدوام فيه فكيف إذ عقد في نيته أن لا يتركه ؟ فهو أحرى بطلب الدوام فلذلك [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعبد الله بن عمرو : يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل ] وهو حديث صحيح فنهاه صلى الله عليه و سلم أن يكون مثل فلان وهو ظاهر في كراهته الترك من ذلك الفلان وغيره
فالحاصل أن هذا القسم الذي هو مظنة للمشقة عند الدوام ـ مطلوب الترك لعلة كثرته ففهم عند تقريره أنه إذا فقدت زال طلب الترك وإذا ارتفع طلب الترك رجع إلى أصل العمل ـ وهو طلب الفعل ـ
فالداخل فيه على التزام شرطه داخل في مكروه ابتداء من وجه لإمكان عدم الوفاء بالشرط وفي المندوب إليه حملا على ظاهر العزيمة على الوفاء
فمن حيث الندب أمره الشارع بالوفاء ومن حيث الكراهية كره له أن يدخل فيه
وحين صارت الكراهة هي المقدمة كان دخوله في العمل لقصد القربة يشبه الدخول فيه بغير أمر فأشبه المبتدع الداخل في عبادة غير مأمور بها فقد يستسهل بهذا الاعتبار إطلاق البدعة عليها كما استسهله أبو أمامة رضي الله عنه
ومن حيث كان العمل مأمورا به ابتداء قبل النظر في المآل أو مع قطع النظر عن المشقة أو مع اعتقاد الوفاء بالشرط أشبه صاحبه من دخل في نافلة قصدا للتعبد بها وذلك صحيح جار على مقتضى أدلة الندب ولذلك أمر بعد الدخول فيه بالوفاء كان نذرا أو التزاما بالقلب غير نذر ولو كان بدعة داخلة في حد البدعة لم يؤمر بالوفاء ولكان عمله باطلا
ولذلك جاء في الحديث [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رأى رجلا قائما في الشمس فقال : مابال هذا ؟ فقالوا : نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم فقال صلى الله عليه و سلم : مروه فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صيامه ]
فأنت ترى كيف أبطل عليه التبدع بما ليس بمشروع وأمره بالوفاء بما هو مشروع في الأصل فلولا الفرق بينهما معنى لم يكن للتفرقة بينهما معنى مفهوم وأيضا فإذا كان الداخل مأمورا بالدوام لزم من ذلك أن يكون الدخول طاعة بل لا بد لأن المباح فضلا عن المكروه والمحرم لا يؤمر بالدوام عليه ولا نظير لذلك في الشريعة عليه أيد قوله صلى الله عليه و سلم :
[ من نذر أن يطيع الله فليطعه ] ولأن الله مدح من أوفى بنذره في قوله سبحانه : { يوفون بالنذر } في معرج المدح وترتب الجزاء الحسن وفي آية الحديد : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } ولا يكون الأجر إى على مطلوب شرعا
فتأملوا هذا المعنى فهو الذي يجري عليه عمل السلف الصالح رضي الله عنهم بمقتضى الأدلة وبه يرتفع إشكال التعارض الظاهر لبادي الرأي حتى تنتظم الآيات والأحاديث وسير من تقدم والحمد لله غير أنه يبقى بعدها إشكالان قويان وبالنظر في الجواب عنهما ينتظم معنى المسألة على تمامه فنعقد في كل إشكال فصلا
فصل الإشكال الأول : أن ما تقدم في الآية الإشكال الأول : إن ما تقدم من الأدلة على كراهية الالتزامات التي يشق دوامها معارض بما دل على خلافه فقد [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقوم حتى تورمت قدماه فيقال له : أو ليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : أفلا أكون عبدا شكورا ] ويظل اليوم الطويل في الحر الشديد صائما وكان صلى الله عليه و سلم يواصل الصيام ويبيت عند ربه يطعمه ويسقيه ونحو ذلك من اجتهاده في عبادة ربه وفي رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة ونحن مأمورون بالتأسي به
فإن أبيتم هذا الدليل بسبب أنه صلى الله عليه و سلم كان مخصوصا بهذه القضية ولذلك كان ربه يطعمه ويسقيه وكان يطيق من العمل ما لا تطيقه أمته فما قولكم فيما ثبت من ذلك عن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين العارفين بتلك الأدلة التي استدللتم بها على الكراهية ؟ حتى أن بعضهم قعد من رجليه من كثرة التبتل وصارت جبهة بعضهم كركبة البعير من كثرة السجود
وجاء عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله وكم من رجل صلى الصبح بوضوء العشاء كذا كذا سنة ؟ ! وسرد الصيام كذا وكذا سنة ؟ ! وكانوا هم العارفين بالسنة لا يميلون عنها لحظة
وروي عن ابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهما كانا يواصلان الصيام وأجاز مالك ـ وهو إمام في الاقتداء ـ صيام الدهر يعني إذإ أفطر أيام العيد
ومما يحكى عن أويس القرني رضي الله عنه أنه كان يقوم ليلة حتى يصبح ويقول : بلغني أن لله عبادا سجودا أبدا أنه ينتفل بالصلاة فتارة يطول فيها القيام وتارة الركوع وتارة السجود
وعن الأسود بن يزيد أنه كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يخضر جسده ويصفر فكأن علقمة يقول له : ويحك لم تعذب هذا الجسد ؟ فيقول : إن الأمر جد إن الأمر جد
وعن انس بن مالك رضي الله عنه أم امرأة مسروق قالت : كانت يصلي حتى تورمت قدماه فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه
وعن الشعبيني قال : غشي على مسروق في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
وعن الربيع بن خيثم أنه قال : أتيت أويسا القرني فوجدته قد صلى الصبح وقعد فقلت : لا أشغله عن التسبيح فلما كان وقت الصلاة قام فصلى إلى الظهر فلما صلى الظهر صلى إلى العصر فلما صلى العصر قعد يذكر الله إلى المغرب فلما صلى المغرب صلى العشاء فلما العشاء صلى إلى الصبح جلس فأخذته عينه ثم انتبه فسمعته يقول : اللهم إني أعوذ بك من عين نوامه وبطن لا تشبع
والآثار في هذا المعنى كثيرة عن الأولين وهي تدل على الأخذ بما هو شاق في الدوام ولم يعدهم بذلك مخالفين للسنة بل عدوهم من السابقين جعلنا الله منهم
وأيضا فإن النهي ليس عن العبادة المطلوبة بل هو عن الغلو فيها غلوا يدخل المشقة على العامل فإذا فرضنا من فقدت في حقه تلك العلة فلا ينتهض النهي في حقه كما إذا قال الشارع :
لا يقضي القاضي وهو غضبان ـ وكانت علة النهي تشويش الفكر عن استيفاء الحجج ـ اطرد النهي مع كل مشويش وانتفى عند انتفائه حتى إنه منتف مع وجود الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الحجج وهذا صحيح جار على الأصول
وحال من فقدت في حقه العلة حال من يعمل بحكم غلبة الخوف أو الرجاء أو المحبة فإن الخوف سوط سائق والرجاء حاد قائد والمحبة سيل حامل فالخائف إن وجد المشقة فالخوف مما هو أشق يحمله على الصبر ما هو أهون وإن كان العمل شاقا والراجي يعمل وإن وجد المشقة لأن رجاء الراحة التامة يحمله على الصبر على بعض التعب والمحب يعمل ببذل المجهود شوقا إلى المحبوب فيسهل عليه الصعب ويقرب عليه البعيد وهو القوي ( كذا ) ولا يرى أنه أوفى بعهد المحبة ولا قام بشكر النعمة ويعمر الأنفاس ولا يرى أنه أقصى نهمته
وإذا كان كذلك صح الجمع بين الأدلة وجاز الدخول في العمل التزاما مع الإيغال فيه إما مطلقا وإما مع ظن انتفاء العلة وإن دخلت المشقة فيما بعد إذا صح مع العامل الدوام على العمل ويكون ذلك جاريا على مقتضى الأدلة وعمل السلف الصالح
والجواب : أن ما تقدم من أدلة النهي صحيح صريح وما نقل عن الأولين يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يحمل أنهم إنما عملوا على التوسط الذي هو مظنة الدوام فلم يلزموا أنفسهم بما لعله يدخل عليهم المشقة حتى يتركوا بسببه ما هو أولى أو يتركوا العمل أو يبغضوه لثقله على أنفسهم بل التزموا ما كان النفوس سهلا في حقهم فإنما طلبوا اليسر لا العسر وهو الذي كان حال رسول الله صلى الله عليه و سلم وحال من تقدم النقل عنه من المتقدمين بناء على أنهم إنما عملوا بمحض السنة والطريقة العامة لجميع المكلفين وهذه طريقة الطبري في الجواب وما تقدم في السؤال مما يظهر منه خلاف ذلك فقضايا أحوال يمكن حملها على وجه صحيح إذا ثبت أن العامل ممن يقتدى به
والثاني : يحتمل أن يكونوا عملوا على المبالغة فيما استطاعوا لكن لا على جهة الالتزام لا بنذر ولا غيره وقد يدخل الإنسان في أعمال يشق الدوام عليها ولا يشق في الحال فيغتنم نشاطه في حالة خاصة غير ناظر فيها فيما يأتي ويكون جاريا فيه على أصل رفع الحرج حتى إذا لم يستطعه تركه ولا حرج عليه لأن المندوب لا حرج في تركه في الجملة
ويشعر بهذا المعنى ما في هذا الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت :
[ كان رسول الله يصوم حتى نقول : لا يفطر ويفطر حتى نقول : لا يصوم وما رأيته استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ] الحديث
فتأملوا وجه اعتبار النشاط والفراغ من الحقوق المتعلقة أو القوة في الأعمال وكذلك قول عبد الله بن عمرو في صيام يوم وإفطار يومين ليتني طوقت ذلك إنما يريد المداومة لأنه قد كان يوالي الصيام حتى يقولوا لا يفطر ولا يعترض هذا المأخذ بقوله صلى الله عليه و سلم :
[ أحب العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل ] وإن كان عمله دائما لأنه محمول على العمل الذي يشق فيه الدوام
وأما ما نقل عنهم أدلة صلاة الصبح بوضوء العشاء وقيام جميع الليل وصيام الدهر ونحوه فيحتمل أن يكون على الشرط المذكور وهو أن لا يلتزم ذلك وإنما يدخل في العمل ما لا يغتنم نشاطه فإذا أتى زمان آخر وجد فيه النشاط أيضا وإذا لم يخل بما هو أولى عمل كذلك فيتفق أن يدوم له هذا النشاط زمانا طويلا وفي كل حالة هو في فسحه الترك لكنه ينتهز الفرصة مع الأوقات فلا بعد في أن يصحبه النشاط إلى آخر العمر فيظنه الظان التزاما وليس بالتزام وهذا صحيح ولا سيما مع سائق الخوف أو حادي الرجاء أو حامل المحبة وهو معنى قول صلى الله عليه و سلم :
[ وجعلت قرة عيني في الصلاة ] فلذلك قام صلى الله عليه و سلم حتى تورمت قدماه وامتثل أمر ربه في قوله تعالى : { قم الليل إلا قليلا } الآية
والثالث : أن دخول المشقة وعدمه على المكلف في الدوام أو غيره ليس أمرا منضبطا بل هو إضافي مختلف بحسب اختلاف الناس في قوة أجسامهم أو في قوة عزائمهم أو في قوة يقينهم أو نحو ذلك من أوصاف أجسامهم أو أنفسهم فقد يختلف العمل الواحد بالنسبة إلى رجلين لأن أحدهما أقوى جسما أو أقوى عزيمة أو يقينا بالموعود والمشقة قد تضعف بالنسبة إلى قوة هذه الأمور وأشباهها وتقوى مع ضعفها
فنحن نقول : كل عمل يشق الدوام على مثله بالنسبة إلى زيد فهو منهي عنه ولا يشق على عمرو فلا ينهى عنه فنحن نحمل ما داوم عليه الأولون من الأعمال على أنه لم يكن شاقا عليهم وإن كان ما هو أقل منه شاقا علينا فليس عمل مثلهم بما عملوا به حجة لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه إلا بشرط أن يمتد مناط المسألة فيما بيننا وبينهم وهو أن يكون ذلك العمل لا يشق الدوام على مثله
وليس كلامنا في هذا لمشاهدة الجميع فإن التوسط والأخذ بالرفق هو الأولى والأحرى بالجميع وهو الذي دلت عليه الأدلة دون الإيغال الذي لا يسهل مثله على جميع الخلق ولا أكثرهم إلا على القليل النادر منهم
والشاهد لصحة هذا المعنى قوله صلى الله عليه و سلم :
[ إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي ـ يطعمني ويسقيني ] يريد صلى الله عليه و سلم أنه لا يشق عليه الوصال ولا يمنعه عن قضاء حق الله وحقوق الخلق فعلى هذا : من رزق أنموذجا مما أعطيه صلى الله عليه و سلم فصار يوغل في العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه فلا حرج
وأما رده صلى الله عليه و سلم على عبد الله بن عمرو فيمكن أن يكون شهد بأنه لا يطيق الدوام ولذلك وقع له ما كان متوقعا حتى قال : ليتني قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه و سلم ويكون عمل ابن الزبير وابن عمر وغيرهما في الوصال جاريا على انهم أعطوا حظا مما أعطيه رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا بناء على أصل مذكور في كتاب الموافقات والحمد لله وإذا كان كذلك لم يكن في العمل المنقول عن السلف مخالفة لما سبق
فصل لكن يبقى النظر في تعليل النهي لكن يبقى النظر في تعليل النهي وأنه يقتضي انتفاءه عند العلة وما ذكروه فيه صحيح في الجملة وفيه في التفصيل نظر وذلك أن العلة راجعة إلى أمرين :
أحدهما : الخوف من الانقطاع والترك إذا التزم فيما يشق فيه الدوام والآخر : الخوف من التقصير فيما هو الآكد من حق الله وحقوق الخلق
أما الأول : فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أصل فيه أصلا راجعا قاعدة معلومة لا مظنونة وهي بيان أن العمل المورث للحرج عند الدوام منفي عن الشريعة كما أن أصل الحرج منفي عنها لأنه :
صلى الله عليه و سلم بعث بالحنيفية السمحة ولا سماح مع دخول الحرج فكل من ألزم نفسه ما يلقى فيه الحرج فقد يخرج عن الاعتدال في حق نفسه وصار إدخاله للحرج على نفسه من تلقاء نفسه لا من الشارع فإن دخل في العمل على شرط الوفاء فإن وفى فحسن بعد الوقوع إذ قد ظهر أن ذلك العمل إما غير شاق لأنه قد أتى به بشرطه وإما شاق صبر عليه فلم يوف النفس حقها من الرفق وسيأتي وإن لم يف فكأنه نقض عهد الله وهو شديد فلو بقي على أصل براءة الذمة من الالتزام لم يدخل عليه ما يتقي منه
لكن لقائل أم يقول : إن النهي ها هنا معلق بالرفق الراجع إلى العامل كما قالت عائشة رضي الله عنها :
[ نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الوصال رحمة لهم ] فكأنه قد اعتبر حظ النفس في التعبد فقيل له : افعل واترك أي لا تتكلف ما يشق عليك كما لا تتكلف في الفرائض ما يشق عليك لأن الله إنما وضع الفرائض على العباد على وجه من التيسير يشترك فيه القوي والضعيف والصغير والكبير والحر والعبد والرجل والمرأة حتى إذا كان بعض الفرائض يدخل الحرج على المكلف يسقط عنه جملة أو يعوض عنه ما لا حرج فيه كذلك النوافل المتكلم فيها
وإذا روعي حظ النفس فقد صار الأمر في الإيغال إلى العامل فله أن لا يمكنها من حظها وأن يستعملها فيما قد يشق عليها بالدوام ـ بناء على القاعدة المؤصلة في أصول الموافقات في إسقاط الحظوظ فلا يكون إذا منهيا ـ على ذلك التقدير ـ فكما يجب على الإنسان حق لغيره ما دام طالبا له وله الخيرة في ترك الطلب به فيرتفع الوجوب كذلك جاء النهي حفظا على حظوظ النفس فإذا أسقطها صاحبها زال النهي ورجع العمل إلى أصل الندب
والجواب : أن حظوظ النفوس بالنسبة إلى الطلب بها قد يقال : إنه من حقوق الله على العباد وقد يقال : إنه من حقوق العباد فلا ينهض ما قلتم إذ ليس للمكلف خيرة فيه فكما أنه متعبد بالرفق بغيره كذلك هو مكلف بالرفق بنفسه ودل على ذلك قوله صلى الله عليه و سلم :
[ إن لنفسك عليك حقا ] إلى آخر الحديث فقرن حق النفس بحق الغير في الطلب في قوله : [ فأعط كل ذي حق حقه ] ثم جعل ذلك حقا من الحقوق
ولا يطلق هذا اللفظ إلا على ما كان لازما ويدل عليه أنه لا يحل للإنسان أن يبيح لنفسه ولا لغيره دمه ولا قطع طرف من أطرافه ولا إيلامه بشيء من الآلام ومن فعل ذلك إثم واستحق العقاب وهو ظاهر
وإن قلنا : إنه من حق العبد وراجع إلى خيرته فليس ذلك على الإطلاق إذ قد تبين في الأصول أن حقوق العباد ليست مجردة من حق الله
والدليل على ذلك ـ فيما نحن فيه ـ أنه لو كان إلى خيرتنا بإطلاق لم يقع النهي فيه علينا بل كنا نخير فيه ابتداء وإلى ذلك ( ؟ ) فإنه لو كان بخيرة المكلف محضا لجاز للناذر العبادة أن يتركها متى شاء ويفعلها متى شاء
وقد اتفق الأئمة على وجوب الوفاء بالنذر فيجري ما يشبه مجراه وايضا فقد فهمنا من الشرع أنه حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ومن جملة التزيين تشريعه على وجه يستحسن الدخول فيه ولا يكون هذا مع شرعية المشقات وإذا كان الإيغال في الأعمال من شأنه في العادة أن يورث الكلل والكراهية والانقطاع ـ الذي كالضد لتحبيب الإيمان وتزيينه في القلوب ـ كان مكروها لأنه على خلاف وضع الشريعة فلم ينبغ أن يدخل فيه على ذلك الوجه
وأما الثاني : فإن الحقوق المتعلقة بالمكلف على أصناف كثيرة وأحكامها تختلف حسبما تعطيه أصول الأدلة ومن المعلوم أنه إذا تعارض على المكلف حقان ولم يمكن الجمع بينهما فلا بد من تقديم ما هو آكد في مقتضى الدليل فلو تعارض على المكلف واجب ومندوب لقدم الواجب على المندوب وصار المندوب في ذلك الوقت غير مندوب بل صار واجب الترك عقلا أوشرعا من باب ما لا يتم الواجب إلا به
وبقي النظر في المندوب : هل وقع موقعه في الندب أم لا ؟ فإن قلت : إن ترك المندوب هنا واجب عقلا فقد ينهض المندوب سببا للثواب مع ما فيه من كونه مانعا من أداء الواجب وإن قلت : إنه واجب شرعا بعد من انتهاضه سببا للثواب إلا على وجه ما وفيه أيضا ما فيه
فأنت ترى ما في التزام النوافل على كل تقدير فرضا إذا كان مؤديا للحرج وهذا كله إذا كان الالتزام صادا عن الوفاء بالواجبات مباشرة قصدا أو غير قصد ويدخل فيه ما في حديث سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهما إذ كان التزام قيام الليل مانعا له من أداء حقوق الزوجة من الاستمتاع الواجب عليه في الجملة وكذلك التزام صيام النهار
ومثله لو كان التزام صلاة الضحى أو غيرها من النوافل مخلا بقيامه على مريضه المشرف والقيام على إعانة أهله بالقوت أو ما أشبه ذلك ويجري مجراه ـ وإن لم يكن في رتبته ـ أن لو كان ذلك الالتزام يفضي به إلى ضعف بدنه أو نهك قواه حتى لا يقدر على الاكتساب لأهله أو أداء فرائضه على وجهها أو الجهاد أو طلب العلم كما نبه عليه حديث داود عليه السلام أنه كان يصوم يوما ويفطر ولا يفر إذا لا قى
وقد جاء في مفروض الصيام في السفر من التخيير ما جاء ثم [ إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عام الفتح : إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر قال : ثم سرنا فنزلنا منزلا فقال : إنكم تصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا قال : فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه و سلم ]
وهذه إشارة إلى أن الصيام ربما أضعف عن ملاقاة العدو وعمل الجهاد فصيام النفل أولى بهذا الحكم
وعن جابر رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى رجلا يظلل عليه والزحام عليه فقال : ليس من البر الصيام في السفر ] يعني أن الصيام [ في السفر ] وإن كان واجبا ليس برا في السفر إذا بلغ به الإنسان ذلك الحد مع وجود الرخصة فالرخصة إذا مطلوبة في مثله بحيث تصير به آكد من أداء الواجب فما ليس بواجب في أصله أولى
فالحاصل أن كل من ألزم نفسه شيئا يشق عليه فلم يأت طريق البر على حده
فصل إذا ثبت ما تقدم ورد الإشكال الثاني إذا ثبت ما تقدم ورد الإشكال الثاني وهو أن التزام النوافل التي يشق التزامها مخالفة للدليل وإذا خالفت فالمتعبد بها على ذاك التقدير متعبد بما لم يشرع وهو عين البدعة فإما أن تنتظمها أدلة ذم البدعة أو لا فإن انتظمتها أدلة الذم فهو غير صحيح لأمرين
أحدهما : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما كره لعبد الله بن عمرو ما كره وقال له : إني أطيق أفضل من ذلك فقال له صلى الله عليه و سلم : [ لا أفضل من ذلك ] تركه بعد على التزامه ولولا أن عبد الله فهم منه بعد نهيه الإقرار عليه لما التزمه ودوام عليه حتى قال : ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه و سلم ! فلو قلنا : إنها بدعة ـ وقد ذم كل بدعة ـ وقد ذم كل بدعة على العموم ـ لكان مقرا له على خطا وذلك لا يجوز كما أنه لا ينبغي أن يعتقد في الصحابي أنه خالف أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم قصدا للتعبد بما نهاه عنه فالصحابة رضي الله تعالى عنهم أتقى لله من ذلك وكذلك ما ثبت عن غيره من وصال الصيام وأشباهه وإذا كان كذلك لم يمكن أن يقال : إنها بدعة
الثاني : أن العامل بها دائما بشرط الوفاء إن التزم الشرط فأداها على وجهها فلقد حصل مقصود الشارع فارتفع النهي إذا فلا مخالفة للدليل فلا ابتداع وإن لم يلتزم أداءها فإن كان باختيار فلا إشكال في المخالفة المذكورة كالناذر يترك المندوب بغير عذر ومع ذلك فلا يسمى تركه بدعة ولا عمله في وقت العمل بدعة ولا يسمى بالمجموع مبتدعا وإن كان لعارض مرض أو غيره من الأعذار فلا نسلم أنه مخالف كما لا يكون مخالفا في الواجب إذا عارضه فيه عارض كالصيام للمريض والحج لغير المستطيع فلا ابتداع إذا
وأما إن لم تنتظمها أدلة الذم فقد ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بمنهي بل هو مما يتعبد به وليس من قبيل المصالح المرسلة ولا غيرها مما له أصل على الجملة وحيئنذ يشمل هذا الأصل كل ملتزم تعبدي كان له أصل أم لا ؟ لكن فحيث يكون له أصل على الجملة على التفصيل كتخصيص ليلة مولد النبي صلى الله عليه و سلم بالقيام فيها ويومه بالصيام أو بركعات مخصوصة وقيام ليلة أول جمعة من رجب وليلة النصف من شعبان والتزام الدعاء جهرا بآثار الصلوات مع انتصاب الإمام وما أشبه ذلك مما له أصل جلي وعند ذلك ينخرم كل ما تقدم تأصيله
والجواب عن الأول ـ أن الإقرار ـ صحيح ولا يمتنع أن يجتمع مع النهي الإرشاد لأمر خارجي فإن النهي لم يكن لأجل خلل في نفس العبادة ولا في ركن من أركانها وإنما كان لأجل الخوف من أمر متوقع كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : إن النهي عن الوصال كالتنكيل بهم ولو كان منهيا عنه بالنسبة إليهم لما فعل
فانظر كيف اجتمع في الشيء الواحد كونه عبادة ومنهيا عنه لكن باعتبارين ونظيره في الفقهيات ما يقوله جماعة من المحققين في البيه بعد نداء الجمعة فإنه نهى عنه لا من جهة كونه بيعأ بل من جهة كونه مانعا من حضور الجمعة فيجيزون البيع بعد الوقوع ويجعلونه فاسدا وإن وجد التصريح بالنهي فيه للعلم بأن النهي ليس براجع إلى نفس البيع بل إلى أمر يجاوره ولذلك يعلل جماعة ممن يقول بفسخ البيع لأنه زجر للمتبايعين لا لأجل النهي عنه فليس عند هؤلاء ببيع فاسد أيضا ولا النهي راجع إلى نفس البيع
فالأمر بالعبادة شيء وكون المكلف يوفي بها أو لا شيء آخر فإقرار النبي صلى الله عليه و سلم لابن عمرو رضي الله عنهما على ما التزم ونهيه إياه ابتداء لا يدل على الفساد وإلا لزم التدافع وهو محال إلا أن ها هنا نظرا آخر : وهو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صار في هذه المسائل كالمرشد للمكلف وكالمبتدىء ( ؟ ) بالنصيحة عند وجود مظنة الاستنصاح فلما تكلف المكلف على اجتهاده دون نصيحة الناصح الأعرف بعوارض النفوس صار كالمتبع لرأيه مع وجود النص وإن كان بتأويل فإن سمي في اللفظ فبهذا الاعتبار وإلا فهو متبع للدليل المنصوص من صاحب النصيحة وهو الدال على الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة
ومن هنا قيل فيها إنها بدعة إضافية لا حقيقية ومعنى كونها إضافية أن الدليل فيها مرجوع بالنسبة لمن يشق عليه الدوام عليها وراجح بالنسبة إلى من وفى بشرطها ولذلك وفى بها عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بعد ما ضعف وإن دخل عليه فيها بعض الحرج حتى تمنى قبول الرخصة بخلاف البدعة الحقيقية فإن الدليل عليها مفقود حقيقة فضلا عن أن يكون مرجوحا فهذه المسألة تشبه مسألة خطأ المجتهد فالقول فيهما متقارب وسيأتي الكلام فيهما إن شاء الله تعالى
وأما قول السائل في الإشكال : إن التزم الشرط فأدى العبادة على وجهها ـ إلى آخره ـ فصحيح إلا قوله : فإن تركها لعارض فلا حرج كالمريض فإن ما نحن فيه ليس كذلك بل ثم قسم آخر وهو أن يتركها بسبب تسبب هو فيه وإن ظهر أن ليس من سببه فإن ترك الجهاد ـ مثلا ـ باختياره مخالفة ظاهرة وتركه لمرض أو نحوه لا مخالفة فيه فإن عمل في سبب يلحقه عادة بالمريض حتى لا يقدر على الجهاد فهذه واسطة بين الطرفين فمن حيث تسببه في المانع لا يكون محمودا عليه وهو نظير الإيغال في العمل الذي هو سبب في كراهية العمل أو التقصير على الواجب وهذا المكلف قد خالف النهي ومن حيث وقع له الحرج المانع في العبادة من أدائها على وجهها قد معذورا فصار هنا نظر بين نظرين لا يتخلص مع العمل إلى واحد منهما
وأما قوله : ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بنمهي عنه فليس كما قال وذاك أن المندوب هو من حيث هو مندوب يشبه الواجب من جهة مطلق الأمر ويشبه المياح من جهة رفع الحرج على التارك فهو واسطة بين الطرفين لا يتخلى إلى واحد منهما إلا أن قواعد الشرع شرطت في ناحية العمل شرطا كما شرطت في ناحية تركه شرطا فشرط العمل به أن لا يدخل فيه مدخلا يؤديه إلى الحرج المؤدي إلى انخرام الندب فهي رأسا أو انخرام ما هو أولى منه وما وراء هذا موكول إلى خيرة المكلف فإذا دخل فيه فلا يخلو أن يدخل فيه على قصد انخرام الشرط أو لا فإن كان كذلك فهو القسم الذي يأتي إن شاء الله وحاصله أن الشارع طالبه برفع الحرج وهو يطالب نفسه بوضعه وإدخاله على نفسه وتكليفها ما لا يستطاع مع زيادة الإخلال بكثير من الواجبات والسنن التي هي أولى مما دخل فيه ومعلوم أن هذه بدعة مذمومة
وإن دخل على غير ذلك القصد فلا يخلو أن يجري المندوب على مجراه أو لا فإن أجراه كذلك بأن يفعل منه ما استطاع إذا وجد نشاطا ولم يعارضه ما هو أولى مما دخل فيه فهو محض السنة التي لا مقال فيها لاجتماع الأدلة على صحة ذلك العمل إذ قد أمر فهو غير تارك ونهى عن الإيغال وإدخال الحرج فهو متحرز فلا إشكال في صحته وهو كان شأن السلف الأول ومن بعدهم وإن لم يجره على مجراه ولكنه أدخل فيه رأي الالتزام والدوام فذلك الرأي مكروه ابتداء
لكن فهم من الشرع أن الوفاء ـ إن حصل ـ فهو ـ إن شاء الله ـ كفارة النهي فلا يصدق عليه في هذا القسم معنى البدعة لأن الله تعالى مدح الموفين بالنذر والموفين بعهدهم إذا عاهدوا وإن لم يحصل الوفاء تمحض وجه النهي وربما أثم في الالتزام غير النذري ولأجل احتمال عدم الوفاء أطلق عليه لفظ البدعة لا لأجل أنه عمل لا دليل عليه بل الدليل عليه قائم
ولذلك إذا التزم الإنسان بعض المندوبات التي يعلم أو يظن أن الدوام فيها لا يوقع في حرج أصلا ـ وهو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة المبنه عليها ـ لم يقع في نهي بل في محض المندوبات كالنوافل الرواتب مع الصلوات والتسبيح والتحميد والتكبير في آثارها والذكر اللساني الملتزم بالعشي والإبكار وما أشبه ذلك مما لا يخل بما هو أولى ولا يدخل حرجا بنفس العمل به ولا بالدوام عليه
وفي هذا القسم جاء التحريض على الدوام صريحا ومنه كان جمع عمر رضي الله عنه الناس في رمضان في المسجد ومضى عليه الناس لأنه كان أولا سنة ثابتة من رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم إنه أقام للناس بما كانوا قادرين عليه ومحبين فيه وفي شهر واحد من السنة لا دائما وموكولا إلى اختيارهم لأنه قال : والتي ينامون عنها أفضل
وقد فهم السلف الصالح أن القيام في البيوت أفضل فكان كثير منهم ينصرفون فيقومون في منازلهم ومع ذلك فقد قال : نعمت البدعة هذه فأطلق عليها لفظ البدعة ـ كما ترى ـ نظرا ـ والله أعلم ـ إلىاعتبار الدوام وإن كان شهرا في السنة وأنه لم يقع فيمن قبله عملا دائما أو أنه أظهره في المسجد الجامع مخالفا لسائر النوافل وإن كان ذلك واقعا في أصله كذلك فلما كان الدليل على ذلك القيام على الخصوص واضحا قال : نعمت البدعة هذه فحسنها بصيغة نعم التي تقتضي من المدح ما تقتضيه صيغة التعجب لو قال : ما أحسنها من بدعة ! وذلك يخرجها قطعا عن كونها بدعة
وعلى هذا المعنى جرى كلام أبي أمامة رضي الله عنه مستشهدا بالآية حيث قال : أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم إنما معناه ما ذكرناه ولأجله قال : فدوموا عليه ولو كان بدعة على الحقيقة لنهى عنه ومن هذه الجهة أجرينا الكلام على ما نهى صلى الله عليه و سلم عنه من التعبد المخوف الحرج في المآل واستسهلنا وضع ذلك في قسم البدع الإضافية تنبيها على وجهها ووضعها في الشرع مواضعها حتى لا يغتر بها مغتر فيأخذها على غير وجهها ويحتج بها على العمل بالبدعة الحقيقية قياسا عليها ولا يدري ما عليه في ذلك وإنما تجشمنا إطلاق اللفظ هنا وكان ينبغي أن لا يفعل لولا الضرورة وبالله التوفيق
فصل قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم إلى آخر الآيتين
قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } { وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } روي في سبب نزول هذه الآية أخبار جملتها تدور على معنى واحد وهو يتحريم ما أحل الله من الطيبات تدينا أو شبه التدين والله نهى عن ذلك وجعله اعتداء والله لا يحب المعتدين ثم قرر الإباحة تقريرا زائدة على ما تقرر بقوله : { وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } ثم أمرهم بالتقوى وذلك مشعر بأن تحريم ما أحل الله خارج عن درجة التقوى
فخرج إسماعيل القاضي من حديث أبي قلابة رضي الله عنه قال : [ أراد ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرفضوا الدنيا وتركوا النساء وترهبوا فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فغلظ فيهم المقالة فقال : إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم بكم ] قال : نزلت فيهم : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم }
وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
[ إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت علي اللحم فأنزل الله الآية ] حديث حسن
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
[ نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد بن الأسودالكندي وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون الجمحي فتوافقوا أن يجبوا أنفسهم بأن يعتزلوا النساء ولا يأكلوا لحما ولا دسما وأن يلبسوا المسوح ولا يأكلوا من الطعام إلا قوتا وأن يسيحوا في الأرض كهيئة الرهبان فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم من أمرهم فأتى عثمان بن مظعون في منزله فلم يجده فيه ولا إياهم فقال لامرأة عثمان أم حكيم ابنة أبي أمية بن حارثة السلمي : أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟ قالت : ما هو يا رسول الله ؟ فأخبرها فكرهت أن لا تحدث رسول الله صلى الله عليه و سلم وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت إن كان أخبرك عثمان فقد صدق فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : قولي لزوجك وأصحابه إذا رجعوا : إن رسول الله يقول لكم : إني آكل وأشرب وآكل اللحم والدسم وأنام وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرتهم امرأته بما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : لقد بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرنا فما أعجبه فذروا ما كره رسول الله صلى الله عليه و سلم ونزل فيها : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ] قال : من الطعام والشراب والجماع { ولا تعتدوا } قال : في قطع المذاكير { إن الله لا يحب المعتدين } قال : الحلال إلى الحرام
وفي الصحيح [ عن عبد الله قال :
كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس معنا نساء فقلنا : ألا نختصي ؟ فنهانا عن ذلك فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل ] يعني ـ والله أعلم ـ نكاح المتعة المنسوخ [ ثم قرأ ابن مسعود : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ]
ثم ذكر إسماعيل عن يحيى بن يعمر : [ أن عثمان بن مظعون هم بالسياحة وهو يصوم النهار ويقوم الليل وكانت امرأته عطرة فتركت الكحل والخضاب فقالت لها امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم : أشهيد أنت أم مغيب ؟ فقالت : بل شهيد غير أن عثمان لا يريد النساء فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فلقيه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : أتؤمن بما نؤمن به ؟ قال : نعم قال : فاصنع مثل ما نصنع { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ] الآية
وخرج سعيد بن منصور عن خضير عن أبي مالك قال : نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه كانوا حرموا عليهم كثيرا من الطعام والنساء وهم بعضهم أن يقطع ذكره فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا } الآية
وعن قتادة قال : نزلت في ناس م نأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أرادوا أن يتخلوا عن الدنيا وتركوا النساء وترهبوا منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون
وخرج ابن المبارك [ أن عثمان بن مظعون أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أئذن لي في الإختصاء فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ليس منا من خصى أو اختصى إن اختصاء أمتي الصيام قال يا رسول الله ! ائذن لي في السياحة قال : إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله قال : يا رسول الله ! ائذن لي في الترهب قال : إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة ]
وفي الصحيح :
رد رسول الله صلى الله عليه و سلم التبتل على عثمان بن مظعون ولو أذن له لاختصى
وهذا كله واضح في أن جميع هذه الأشياء تحريم لما هو حلال في الشرع وإهمال لما قصد الشارع إعماله ـ وإن كان يقصد سلوك طريق الآخرة ـ لأنه نوع من الرهبانية في الإسلام
وإلى منع تحريم الحلال ذهب الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلا أنه إذا كان التحريم غير محلوف عليه فلا كفارة وإن كان محلوفا عليه ففيه الكفارة ويعمل الحالف بما أحل الله له
ومن ذلك ما ذكر إسماعيل القاضي عن معقل أنه سأل ابن مسعود رضي الله عنه فقال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة فتلا عبد الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا } الآية ادن فكل وكفر عن يمينك ونم على فراشك
وفي رواية : كان معقل يكثر الصوم والصلاة فحلف أن لا ينام على فراشه فأتى ابن مسعود رضي الله عنه فسأله عن ذلك فقرأ عليه الآية
وعن المغيرة قال : قلت لإبراهيم في هذه الآية : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } أهو الرجل يحرم الشيء مما أحل الله له ؟ قال : نعم
وعن مسروق قال : أتى عبد الله بضرع فقال للقوم : ادنوا فأخذوا يطعمون فقال رجل : إني حرمت الضرع فقال عبد الله : هذا من خطوات الشيطان { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ادن فكل وكفر عن يمينك
وعلى ذلك جرت الفتيا في الإسلام : إن كل من حرم على نفسه شيئا مما أحل الله له فليس ذلك التحريم بشيء فليأكل إن كان مأكولا وليشرب إن كان مشروبا وليلبس إن كان ملبوسأ وليملك إن كان مملوكا وكأنه إجماع منهم منقول عن مالك و أبي حنيفة و الشافعي وغيرهم واختلفوا في الزوجة ومذهب مالك أن التحريم طلاق كالطلاق الثلاث وما سوى ذلك فهو باطل لأن القرآن شهد بكونه اعتداء حتى إنه إن حرم على نفسه وطء أمة غيره قاصدا به العتق فوطؤها حلال وكذلك سائر الأشياء من اللباس والمسكن والصمت والاستظلال والاستضحاء وقد تقدم الحديث في الناذر للصوم قائما في الشمس ساكتا فإنه تحريم للجلوس والكلام والاستظلال والنبي صلى الله عليه و سلم أمره بالجلوس والتكلم والاستظلال قال مالك : أمره ليتم ما كان له فيه طاعة ويترك ما كان عليه فيه معصية
فتأملوا كيف جعل مالك ترك الحلال معصية ! وهو مقتضى الآية في قوله تعالى : { ولا تعتدوا } الآية ومقتضى قول ابن مسعود رضي الله عنه لصاحب الضرع : هذا من خطوات الشيطان
وقد ضعف ابن رشد الحفيد الاستدلال من المالكية بالحديث وتفسير مالك له وذكر أن قوله في الحديث : ويترك ما كان عليه فيه معصية ليس بالظاهر أن ترك الكلام معصية وقد أخبر الله تعالى أنه نذر مريم ـ قال ـ وكذلك يشبه أن يكون القيام للشمس ليس معصية إلا ما يتعلق من جهة تعب الجسم والنفس وقد يستحب للحاج أن لا يستظل فإن قيل : فيه معصية فالقياس على ما نهي عنه من التعب لا بالنص والأصل فيه أنه من المباحات
وما قاله ابن رشد غير ظاهر ولم يقل مالك في الحديث ما قال استنباطا منه بل الظاهر أنه استدل بالآية المتكلم فيها وحمل الحديث عليها بترك الكلام وإن كان في الشرائع الأول مشروعا فهو منسوخ بهذه الشريعة فهو عمل في مشروع بغير مشروع وكذلك القيام في الشمس زيادة من باب تحريم الحلال وإن استحب في موضع فلا يلزم استحبابه في آخر
فصل ويتعلق بهذا الموضع مسائل إحداها أن تحريم الحلال ويتعلق بهذا الموضع مسائل
إحداها : أن تحريم الحلال وما أشبه ذلك يتصور في أوجه
الأول : التحريم الحقيقي وهو الواقع من الكفار كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وجيمع ما ذكر الله تعالى تحريمه عن الكفار بالرأي المحض ومنه قوله تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } وما أشبهه من التحريم الواقع في الإسلام رأيا مجردا
الثاني : أن يكون مجرد ترك لا لغرض بل لأن النفس تكرهه بطبعها أو لا تكرهه حتى تستعمله أو لا تجد ثمنه أو تشتغل بما هو آكد وما أشبه ذلك ومنه ترك النبي صلى الله عليه و سلم لأكل الضب لقوله فيه :
[ إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ] ولا يسمى مثل هذا تحريما لأن التحريم يستلزم القصد إليه وهذا ليس كذلك
الثالث : أن يمتنع لنذره التحريم أو ما يجري مجرى النذر من العزيمة القاطعة للعذر كتحريم النوم على الفراش سنة وتحريم الضرع وتحريم الادخار لغد وتحريم اللين من الطعام واللباس وتحريم الوطء والاستلذاذ بالنساء في الجملة وما أشبه ذلك
الرابع : أن يحلف على بعض الحلال أن لا يفعله ومثله قد يسمى تحريما
قال إسماعيل القاضي : إذا قال الرجل لأمته : والله لا أقربها فقد حرمها على نفسه باليمين فإذا غشيها وجبت عليه كفارة اليمين وأتى بمسألة ابن مقرن في سؤاله ابن مسعود رضي الله عنه إذ قال : إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة ـ قال ـ فتلا عبد الله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية وقال له : كفر عن يمينك ونم على فراشك
فأمره أن لا يحم ما أحل الله له وأن يكفر من أجل اليمين
فهذا الإطلاق يقتضي أنه نوع من التحريم وله وجه ظاهر فقد أشار إسماعيل إلى أن الرجل كان إذا حلف أن لا يفعل شيئا من الحلال لم يجز له أن يفعله حتى نزلت كفارة اليمين لأجل ما كان قبل من التحريم ولما وردت الكفارة سمي تحريما ومن ثم ـ والله أعلم ـ سميت كفارة
فصل المسألة الثانية : أن الآية التي نحن بصددها المسألة الثانية : أن الآية التي نحن بصددها ينظر فيها على أي معنى يطلق التحريم أما الأول فلا مدخل له ها هنا لأن التحريم تشريع كالتحليل والتشريع ليس إلا لصاحب الشرع اللهم إلا أن يدخل مبتدع رأيا كان من أهل الجاهلية أو من أهل الإسلام فهذا أمر آخر يجل السلف الصالح عن مثله فضلا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على الخصوص
وقد وقع للمهلب في شرح البخاري ما قد يشعر بأن المراد في الآية التحريم بالمعنى الأول فقال : التحريم إنما هو لله ولرسوله فلا يحل لأحد أن يحرم شيئا وقد وبخ الله من فعل ذلك فقال : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا } فجعل ذلك من الاعتداء وقال : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } قال : فهذا كله حجة في أن تحريم الناس ليس بشيء
وما قاله المهلب يرده السبب في نزول الآية وليس كما تقرر ولذلك لم يعد المحرم الحكم لغيره كما هو شأن التحريم بالمعنى الأول فصار مقصورا على المحرم دون غيره
وأما التحريم بالمعنى الثاني فلا حرج فيه في الجملة لأن بواعث النفوس على الشيء أو صوارفها عنه لا تنضبط بقانون معلوم فقد يمتنع الإنسان من الحلال لأمر يجده في استعماله ككثير ممن يمتنع من شرب العسل لوجع يعتريه به حتى يحرمه على نفسه لا بمعنى التحريم الأول ولا الثالث بل بمعنى التوقي منه كما تتوقى سائر المؤلمات
ويدخل ها هنا بالمعنى :
امتناع النبي صلى الله عليه و سلم من أكل الثوم لأنه كان يناجي الملائكة وهي تتأذى من رائحته وكذلك كل ما تكره رائحته
ولعل هذا المحل أولى من قول من قال : إن الثوم ونحوه كانت محرمة عليه بالمعنى المختص بالشارع والمعنيان متقاربان وكلاهما غير داخل في معنى الأمر
وأما التحريم بالمعنى الرابع فيحتمل أن يدخل في عبارة التحريم فيكون قوله تعالى : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } قد شمل التحريم بالنذر والتحريم باليمين والدليل على ذلك ذكر الكفارة بعدها بقوله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } إلخ
وما تقدم من أنه كان تحريما مجردا قبل نزول الكفارة وأن جماعة من المفسرين قالوا في قوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } : إن التحريم كان باليمين حين حلف النبي صلى الله عليه و سلم أن لا يشرب العسل وسيأتي ذكر ذلك بحول الله
فإن قيل : هل يكون [ قول الرجل لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء ] ـ الحديث ـ من قبيل التحريم الثاني لا من الثالث ـ لأن الرجل قد يحرم الشيء للضرر الحاصل به وقد تقدم آنفا أنه ليس بتحريم حقيقة فكذلك ها هنا لا يريد بالتحريم النذر بل يريد به التوقي أي إني أخاف على نفسي العنت وكان هذا المعنى ـ والله أعلم ـ هو مقصود الصحابي رضي الله عنه
فالجواب : أن من يلحقه الضرر وقت ما يتناول شيئا يمكنه أن يمسك عنه من غير تحريم والتارك لأمر لا يلزمه أن يكون محرما له فكم من رجل ترك الطعام الفلاني أو النكاح لأنه في ذلك الوقت لا يشتهيه أو لغير ذلك من الأعذار ! حتى إذا زال عذره تناول منه
وقد : ترك صلى الله عليه و سلم أكل الضب ولم يكن تركه موجبا لتحريمه
والدليل على أن المراد بالتحريم الظاهر وأنه لا يصح وإن كان تقدم أن النبي صلى الله عليه و سلم رد عليه بالآية فلو كان وجود مثل تلك الأعذار مبيحا للتحريم بالمعنى الثالث لوقع التفصيل في الآية بالنسبة إلى من حرم لعذر أو غير عذر
وأيضا فإن الانتشار للنساء ليس بمذموم فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ من استطاع منكم الباءة فليتزوج ] الحديث فإذا أحب الإنسان قضاء الشهوة تزوج فحصل له ما في الحديث زيادة إلى النسل المطلوب في الملة فكأن محرم ما يحصل به الانتشار ساع في التشبه بالرهبانية وكان ذلك منتفيا عن الإسلام كسائر ما ذكر في الآية
فصل والمسألة الثالثة : أن هذه الآية يشكل معناها والمسألة الثالثة : أن هذه الآية يشكل معناها مع قوله تعالى : { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة } الآية فإن الله أخبر عن نبي من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام أنه حرم على نفسه حلالا ففيه دليل لجواز مثله
والجواب : أنه لا دليل في الآية لأن ما تقدم يقرر أن لا تحريم في الإسلام فيبقى ما كان شرعا لغيرنا منفيا عن شرعنا كما تقرر في الأصول
خرج القاضي إسماعيل وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما :
أن إسرائيل النبي يعقوب عليه السلام أخذه عرق النسا فكان يبيت عليه زقاء فجعل عليه إن شفاه الله ليحرمن عليه العروق وذلك قبل نزول التوراة قالوا : فلذلك نسل اليهود لا يأكلونها وفي رواية : جعل على نفسه أن لا يأكل لحوم الإبل ـ قال ـ فحرمته اليهود
وعن الكلبي أن يعقوب عليه السلام قال :
إن الله شفاني لأحرمن أطيب الطعام والشراب ـ أو قال : ـ أحب الطعام أو الشراب إلى فحرم لحوم الإبل وألبانها
قال القاضي : الذي نحسب ـ والله أعلم ـ أن إسرائيل حين حرم على نفسه من الحلال ما حرم لم يكن في ذلك الوقت منهيا عن ذلك وأنهم كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئا من الحلال لم يجز لهم أن يفعلوه حتى نزلت كفارة اليمين قال الله تعالى : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم }
والحالف إذا حلف على شيء ولم يقل : إن شاء الله كان بالخيار إن شاء فعل وكفر وإن شاء لم يفعل قال : وهذه الأشياء وما أشبهها من الشرائع يكون فيها الناسخ والمنسوخ فكان الناسخ في هذا قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } قال : فلما وقع النهي لم يجز للإنسان أن يقول : الطعام علي حرام وما أشبه ذلك من الحلال فإن قال إنسان شيئا من ذلك كان قوله باطلا وإن حلف على ذلك بالله كان له أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه
فصل والمسألة الرابعة أن نقول : مما يسأل عنه والمسألة الرابعة : أن نقول : مما يسأل عنه قوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } الآية فإن فيها إخبارا بأنه عليه الصلاة و السلام حرم على نفسه ما أحله الله وقد يدل عليه : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا } ومثل هذا يجل مقام النبي صلى الله عليه و سلم عم مقتضى الظاهر فيه وأن يكون منهيا عنه ابتداء ثم يأتيه حتى يقال له فيه : لم تفعل ؟ فلا بد من النظر في هذه المصارف
والجواب : أن آية التحريم إن كانت هي السابقة على آية العقود فظاهر أنها مختصة بالنبي صلى الله عليه و سلم إذ أريد الأمة ـ على قول من قال من الأصوليين ـ لقال : ( لم تحرمون ما أحل الله لكم ) ؟ كما قال : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } وهو بين لأن سورة التحريم قبل آية الأحزاب لذلك لما آلى إلى النبي صلى الله عليه و سلم من نسائه شهرا بسبب هذه القصة نزل عليه في سورة الأحزاب : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن } إلخ وأيضا فيحتمل التحريم يمعنى الحلف على أن لا يفعل والحلف إذا وقع فصاحبه مخير بين أن يترك المحلوف عليه وبين أن يفعله ويكفر وقد جاء في آية التحريم : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } فدل على أنه كان يمينا حلف صلى الله عليه و سلم بها وذلك أن الناس اختلفوا في هذا التحريم فقال جماعة : إن كان تحريما لأم ولده مارية القبطية بناء على أن الآية نزلت في شأنها وممن قال به الحسن و وقتادة و الشعبي و نافع مولى ابن عمر أو كان تحرميا لعسل زينب وهو قول عطاء وعبد الله بن عتبة وقال جماعة : إنما كان تحريما بيمين
قال إسماعيل بن إسحاق : يمكن أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم حرمها ـ يعني جاريته ـ بيمين الله لأن الرجل إذا قال لأمته : والله لا أقربك فقد حرمها على نفسه باليمين فإذا غشيها وجبت عليه كفارة اليمين ثم أتى بمسألة ابن مقرن
ويمكن أن يكون السبب شرب العسل وهو الذي وقع في البخاري من طريق هشام عن ابن جريج قال فيه :
شربت عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا وإذا كان كذلك فلم يبق في المسألة إشكال ولا فرق بين الجارية والعسل في الحكم لأن تحريم الجارية كيف ما كان بمنزلة تحريم ما يؤكل ويشرب
وأما إن فرضنا أن آية العقود هي السابقة على آية التحريم فيحتمل وجهين كالأول
أحدهما : أن يكون التحريم في سورة التحريم بمعنى الحلف
والثاني : أن تكون آية العقود غير متناولة للنبي صلى الله عليه و سلم وأن قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا } لا تدخل فيه بناء على قول من قال بذلك من الأصوليين وعند ذلك لا يبقى في القضية فيه ولا يكون للمجتمع بالآية متعلق والله أعلم
فصل إذا ثبت هذا فكل من عمل على هذا إذا ثبت هذا فكل من عمل على هذا القصد فعمله غير صحيح لأنه عامل أما بغير شريعة لأنه لم يتبع أدلتها وإما عامل بشرع منسوخ والعمل بالمنسوخ مع العلم بالناسخ باطل بلا خلاف لأن الترهب والامتناع من النساء وغير ذلك إن كان مشروعا ففيما قبل هذه الشريعة من الشرائع وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه و سلم :
[ لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ] وهو معنى البدعة
فإن قيل : فقد تقدم من نقل ابن العربي في الرهبانية أنها السياحة واتخاذ الصوامع للعزلة ـ قال ـ وذلك مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان وقد بسط الغزالي هذا الفصل في الإحياء عند ذكر العزلة وذكر في كتاب آداب النكاح من ذلك ما فيه كفاية وحاصله أن ذلك مشروع بل هو الأولى عند عروض العوارض وعندما يصير النكاح ومخالطة الناس وبالا على الإنسان ومؤدبا إلى اكتساب الحرام والدخول فيما لا يجوز كما جاء في الصحيح من قوله صلى الله عليه و سلم :
[ يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن ] وسائر ما جاء في هذا المعنى وأيضا فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه و سلم : { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } والتبتل ـ على ما قاله زيد بن أسلم ـ رفض الدنيا من قولهم : بتلت الحبل بتلا إذا قطعته ومعناه القطع من كل شيء إلا منه
وقال الحسن وغيره : بتل إليه نفسك واجتهد وقال ابن زيد : تفرغ لعبادته هذا إلى ما جاء عن السلف الصالح من الانقطاع إلى عبادة الله ورفض أسباب الدنيا والتخلي عن الحواضر إلى البوادي واتخاذ الخلوات في الجبال والبراري حتى إن بعض الجبال الشامية قد خصها الله بالأولياء والمنقطعين إلى لبنان ونحوه فما وجه ذلك
فالجواب : أن الرهبانية إن كانت بالمعنى المقرر في شرائع الأول فلا نسلم أنها في شرعنا لما تقدم من الأدلة على نسخها كانت لعارض أو لغير عارض إذ لا رهبانية في الإسلام وقد رد صلى الله عليه و سلم التبتل حسبما تقدم
وإن كانت بمعنى الانقطاع إلى الله حسبما شرع وعلى حد ما انقطع إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو التخاطب بقوله : { وتبتل إليه تبتيلا } فهذا هو الذي نحن في تقريره وأنه السنة المتبعة والهدي الصالح والصراط المستقيم وليس في كلام زيد بن أسلم وغيره في معنى التبتل ما يناقض هذا المعنى لأن رفض الدنيا ليس بمعنى طرح اتخاذها جملة وترك الاستمتاع بها بل بمعنى ترك الشغل بها عما كلف الإنسان به من الوظائف الشرعية
واجعل سير السلف الصالح مرآة لك تنظر فيها معنى التبتل على وجه الاقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم فلقد كانوا رضي الله تعالى عنهم مكتسبين للمال به فيما أبيح لهم منفقين له حيث ندبوا لم يتعلق بقلوبهم منه شيء إذا عن لهم أمر أو نهي بل قدموا أمر الله ونهيه على حظوظ أنفسهم الباطلة على وجه لم يخل بحظوظهم فيه وهو التوسط الذي تقدم ذكره
ثم ندبهم الشارع إلى اتخاذ الأهل والولد فبادروا إلى الامتثال ولم يقولوا : هو شاغل لنا عما أمرنا به لأن هذا القول مشعر بالغفلة عن معنى التكليف به فإن الأصل الشرعي أن كل مطلوب هو من جملة ما يتعبد به إلى الله تعالى ويتقرب به إليه فالعبادات المحضة ظاهر فيها ذلك والعادات كلها إذا قصدت بها امتثال أمر الله عبادات إلا أنه إذا لم يقصد بها ذلك القصد ويجيء بها نحو الحظ مجردا فإذا ذاك لا تقع متعبدا بها ولا مثابا عليها وإن صح وقوعها شرعا
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم قد فهموا هذا المعنى ولا يمكن مع فهمهم أن تتعارض الأوامر في حقهم ولا في حق من فهم منها ما فهموا منها فالتبتل على هذا الوجه صحيح أصيل في الجريان على السنة وكذلك كلام الحسن وغيره في تفسير الآية صحيح إذا أخذ هذا المأخذ أي اتبع الهدى واتبع أمر ربك فإنه العليم بما يصلح لك والقائم على تدبيرك ولذلك قال على أثرها : { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } أي بك وإنه وكيل لك بالنسبة إلى ما ليس من كسبك فكذلك هو وكيل على ما هو داخل تحت كسبك مما هو تكليف في حقك ومن جملة ما توكل لك فيه أن لا تدخل نفسك في عمل تحرج بسببه حالا ومالا
وقد فسر التبتل بأنه الإخلاص وهو قول مجاهد والضحاك وقال قتادة : أخلص له العبادة والدعوة فعلى هذا التفسير لا تعلق فيها لمورد السؤال
وإذا تقرر هذا فالسياحة واتخاذ الصوامع وسكنى الجبال والكهوف إن كان على شرط أن لا يحرموا ما أحل الله من الأمور التي حرمها الرهبان بل على حد ما كانوا عليه في الحواضر ومجامع الناس : لا يشددون على أنفسهم بمقدار ما يشق عليهم فلا إشكال في صحة هذه الرهبانية غير أنها لا تسمى رهبانية إلا بنوع من المجاز أو النقل العرفي الذي لم يجز عليه معتاد اللغة فلا تدخل في مقتضى قو له تعالى : { ورهبانية ابتدعوها } لا في الإسم ولا في المعنى
وإن كان على التزام ما التزمه الرهبان فلا نسلم أنه في هذه الشريعة مندوب إليه ولا مباح بل هو مما لا يجوز لأنه كالشرع بغير شريعة محمد صلى الله عليه و سلم فلا ينتظمه معنى قوله صلى الله عليه و سلم :
[ من رغب عن سنتي فليس مني ]
وأما ما ذكره الغزالي وغيره من تفصيله على المخالطة وترجيح الغربة على اتخاذ أهل عند اعتوار العوارض فذلك يستمد من أصل آخر لا من هنا
وبيانه أن المطلوبات الشرعية لا تخلو أن يكون المكلف قادرا على الامتثال فيها مع سلامته عند العمل لها من وقوعه في منهي عنه أو لا فإن كان قادرا في مجاري العادات بحيث لا يعارضه مكروه أو محرم فلا إشكال في كون الطلب متوجها عليه بقدر استطاعته على حد ما كان السلف الصالح عليه قبل وقوع الفتن وإن لم يقدر على ذلك إلا بوقوعه في مكروه أو محرم ففي بقاء الطلب هنا تفصيل ـ بحسب ما يظهر من كلام أبي حامد رحمه الله تعالى ـ إذ يكون المطلوب مندوبا لكنه لا يعمل به إلا بوقوعه في ممنوع فالمندوب ساقط عنه بلا إشكال كالمندوب للصدقة على المحتاج لا مال بيده إلا مال الغير فلا يجوز له العمل بالندب لأنه يقع بسببه في التصرف في مال الغير بغير إذنه وذلك لا يجوز فهو كالفاقد لما يتصدق به وكالقادم على مريضه المشرف أو دفن ميت يخاف تغييره بتركه ثم يقوم يصلي نافلة والمتزوج لا يجد إلا مالا حراما وأشباه ذلك
وقد يكون المطلوب واجبا إلا أن وقوعه فيه يدخله في مكروه وهذا غير معتد به لأن القيام بالواجب آكد أو يوقعه في ممنوع فهذا هو الذي يتعارض على الحقيقة إلا أن الواجبات ليست على وزان واحد كما أن المحرمات كذلك فلا بد من الموازنة فإن ترجح جانب الواجب صار المحرم في حكم العفو أو حكم التلافي إن كان مما تتلافى مفسدته وإن ترجح جانب المحرم سقط حكم الواجب أو طلب بالتلافي وإن تعادلا في نظر المجتهد فهو مجال نظر المجتهدين والأولى ـ عند جماعة ـ رعاية جانب المحرم لأن درء المفاسد آكد من جلب المصالح فإذا كانت العزلة مؤدية إلى السلامة فهي الأولى في أزمنة الفتن والفتن لا تختص بفتن الحروب فقط فهي جارية في الجاه والمال وغيرهما من مكتسبات الدنيا وضابطها ما صد عن طاعة الله ومثل هذا يجري بين المندوب والمكروه وبين المكروهين
وإن كانت العزلة مؤدية إلى ترك الجمعيات والجماعات والتعاون على الطاعات وأشباه ذلك فإنها أيضا سلامة من جهة أخرى ويقع التوازن بين المأمورات والمنهبات وكذلك النكاح إذا أدى إلى العمل بالمعاصي ولم يكن في تركه معصية كان تركه أولى
ومن أمثلة ذلك ـ غير أنه مشكل ـ ما ذكره الوليد بن مسلم بسنده إلى حبيب بن مسلمة أنه قال ل معن بن ثور : هل تدري لم اتخذت النصارى الديارات ؟ قال معن : ولم ؟ قال : إنه لما أحدث الملوك البدع وضيعوا أمر النبيين وأكلوا الخنازير اعتزلوهم في الديارات وتركوهم وما ابتدعوا فتخلوا للعبادة قال حبيب ل معن : فهل لك ؟ قال :
ليس بيوم ذلك
فاقتضى أن مثل ما فعلته النصارى مشروع في ديننا كذلك ومراده أن اعتزال الناس عند اشتهارهم بالبدع وغلبه الأهواء على حد ما شرع في ديننا لا أن نفس ما فعلت النصارى في رهبانيتها متيسر لنا لما ثبت من نسخه فعلى هذه الأحرف جرى كلام الإمام أبي حامد وغيره ممن نقل هو عنهم واحتج بهم ويدل على ذلك أن جماعة ممن نقل عنهم الترغيب في العزلة كانوا متزوجين ولم يكن ذلك مانعا من البقاء على ما هم عليه بناء منهم على التحري في الموازنة بين ما يلحقهم بسبب التزوج فلا إشكال إذا على هذا التقرير في كلام الغزالي ولا غيره ممن سلك مسلكه لأنهم بنوا على أصل قطعي في الشرع محكم لا ينسخه شيء وليس من مسألتنا بسبيل ولكن ثم تحقيق زائد لا يسع إيراده ها هنا وأصله مأخوذ من كتاب الموافقات من تمرن فيه حقق هذا المعنى على التمام وبالله تعالى التوفيق
والحاصل أن مضمون هذا الفصل يقتضي أن العمل على الرهبانية المنفية في الآية بدعة من البدع الحقيقية لا الإضافية لرد رسول الله صلى الله عليه و سلم لها أصلا وفرعا
فصل ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفا أن الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلا
ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفا أن الحرج منفي عن الدين جملة وتفصيلا ـ وإن كان قد ثبت أيضا في الأصول الفقهية على وجه من البرهان أبلغ ـ فلنبن عليه فنقول :
قد فهم قوم من السلف الصالح وأهل الانقطاع إلى الله ممن ثبت ولايتهم أنهم كانوا يشددون على أنفسهم ويلزمون غيرهم الشدة أيضا والتزام الحرج ديدنا في سلوك طريق الآخرة وعدوا من لم يدخل تحت هذا الالتزام مقصرا مطرودا ومحروما وربما فهموا ذلك من بعض الإطلاقات الشرعية فرشحوا بذلك ما التزموه فأفضى الأمر بهم إلى الخروج عن السنة إلى البدعة الحقيقية أو الإضافية
فمن ذلك أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للآخرة أحدهما سهل والآخر صعب وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حد واحد فيأخذ بعض المتشددين بالطريق الأصعب الذي يشق على المكلف مثله ويترك الطريق الأسهل بناء على التشديد على النفس كالذي يجد للطهارة ماءين : سخنا وباردا فيتحرى البارد الشاق استعماله ويترك الآخر فهذا لم يعط النفس حقها الذي طلبه الشارع منه وخالف دليل رفع الحرج من غير معنى زائد فالشارع لم يرض بشرعية مثله وقد قال الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } فصار متبعا لهواه ولا حجة له في قوله عليه الصلاة و السلام :
[ ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء عند الكريهات ] الحديث
من حيث كان الإسباغ مع كراهية النفس سببا لمحو الخطايا ورفع الدرجات ففيه دليل على أن للإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس ولا يكون إلا بتحري إدخال الكراهية عليها لأنا نقول : لا دليل في الحديث على ما قلتم وإنما فيه أن الإسباغ مع وجود الكراهية ففيه أمر زائد كالرجل يجد ماء باردا في زمان الشتاء ولا يجده سخنا فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ
وأما القصد إلى الكراهية فليس في الحديث ما يقتضيه بل في الأدلة المتقدمة ما يدل على أنه مرفوع عن العباد ولو سلم أن الحديث يقتضيه لكانت أدلة رفع الحرج تعارضه وهي قطعية وخبر الواحد ظني فلا تعارض بينهما للاتفاق على تقديم القطعي ومثل الحديث قول الله تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة } الآية
ومن ذلك الاقتصار من المأكول على أخشنه وأفظعه لمجرد التشديد لا لغرض سواه فهو من النمط المذكور فوقه لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس في التكليف وهو أيضا مخالف لقوله عليه الصلاة و السلام :
[ إن لنفسك عليك حقا ]
وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم : يأكل الطيب إذا وجده
وكان يحب الحلواء والعسل
ويعجبه لحم الذراع ويستعذب له الماء فأين التشديد من هذا ؟
ولا يدخل الاستعمال المباح في قوله تعالى : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } لأن المراد به الإسراف الخارج عن حد المباح بدليل ما تقدم فإذا الاقتصار على البشيع في المأكل من غير عذر تنطع وقد مر ما فيه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية
ومن ذلك الاقتصار في الملبس على الخشن من غير ضرورة فإنه من قبيل التشديد والتنطع المذموم وفيه أيضا من قصد الشهرة ما فيه
وقد روي عن الربيع بن زياد الحارثي أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : أغد بي على أخي عاصم قال : ما باله ؟ قال : لبس العباء يريد النسك فقال علي رضي الله عنه : علي به فأتي به مؤتزرا بعباءة مرتديا بالأخرى شعث الرأس واللحية فعبس في وجهه وقال : ويحك ! أما استحييت من أهلك ؟ أما رحمت ولدك ؟ أترى الله أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا ؟ بل أنت أهون على الله من ذلك أما سمعت الله يقول في كتابه : { والأرض وضعها للأنام } إلى قوله : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } ؟ أفترى الله أباح هذه لعبادة إلا ليبتذلوه ويحمدوا الله عليه فيثبتهم عليه ؟ وإن ابتذالك نعم الله بالفعل خير منه بالقول قال عاصم : فما بالك في خشونة مأكلك وخشونة ملبسك قال : ويحك ! إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس
فتأملوا كيف لم يطالب الله ا لعباد بترك الملذوذات ! وإنما طالبهم بالشكر عليها إذا تناولوها فالمتحري للامتناع من تناول ما أباحه الله من غير موجب شرعي مفتات على الشارع وكل ما جاء عن المتقدمين من الامتناع عن بعض المتناولات من هذه الجهة وإنما امتنعوا منه لعارض شرعي يشهد الدليل باعتباره كالامتناع من التوسع لضيق الحال في يده أو لأن المتناول ذريعة إلى ما يكره أو يمنع أو لأن في المتناول وجه شبهة تفطن إليه التارك ولم يتفطن إليه غيره ممن علم بامتناعه وقضايا الأحوال لا تعارض الأدلة بمجردها لاحتمالها في أنفسها وهذه المسألة مذكورة على وجهها في كتاب الموافقات
ومن ذلك الاقتصار في الأفعال والأحوال على ما يخالف محبة النفوس وحملها على ذلك في كل شيء من غير استثناء فهو من قبيل التشديد ألا ترى أن الشارع أباح أشياء مما فيه قضاء نهمة النفس وتمتعها واستلذاذها ؟ فلو كانت مخالفتها برا لشرع ولندب الناس إلى تركه فلم يكن مباحا بل مندوب الترك أو مكروه الفعل
وأيضا فإن الله تعالى وضع في الأمور المتناولة إيجابا أو ندبا أشياء من المستلذات الحاملة على تناول تلك الأمور لتكون تلك اللذات كالحادي إلى القيام بتلك الأمور كما جعل في الأوامر إذا امتثلت وفي النواهي إذا اجتنبت أجورا منتظرة ولو شاء لم يفعل وجعل في الأوامر إذا تركت والنواهي إذا ارتكبت جزاء على خلاف الأول ليكون جميع ذلك منهضا لعزائم المكلفين في الامتثال حتى إنه وضع لأهل الامتثال الثائرين على المبايعة في أنفس التكاليف أنواعا من اللذات العاجلة والأنوار الشارحة للصدور ما لا يعدله من لذات الدنيا شيء حتى يكون سببا لاستلذاذ الطاعة والفرار إليها وتفضيلها على غيرها فيخف على العامل العمل حتى يتحمل منه ما لم يكن قادرا قبل على تحمله إلا بالمشقة المنهي عنها فإذا سقطت سقط النهي
بل تأملوا كيف وضع للأطعمة على اختلافها لذات مختلفات الألوان وللأشربة كذلك وللوقوع الموضوع سببا لاكتساب العيال ـ وهو أشد تعبا عن النفس ـ لذة أعلى من لذة المطعم والمشرب إلى غير ذلك من الأمور الخارجية عن نفس المتناول كوضع القبول في الأرض وترفيع المنازل والتقدم على سائر الناس في الأمور العظائم وهي أيضا تقتضي لذات تستصغر جنبها لذات الدنيا
وإذا كان كذلك فأين هذا الموضوع الكريم من الرب اللطيف الخبير ؟ فمن يأتي متعبدا بزعمه بخلاف ما وضع الشارع له من الرفق والتيسير والأسباب الموصلة إلى محبته فيأخذ بالأشق والأصعب ويجعله هو السلم الموصل والطريق الأخص هل ذها كله إلاغاية في الجهاله وتلف في تيه الضلالة ؟ عافانا الله من ذلك بفضله فإذا سمعتم بحكاية تقتضي تشديدا على هذا السبيل أو يظهر منها تنطع أو تكلف فإما أن يكون صاحبها ممن يعتبر كالسلف الصالح أو من غيرهم ممن لا يعرف ولا ثبت إعتباره عند أهل الحل والعقد من العلماء فإن كان الأول فلا بد أن يكون على خلاف ما ظهر لبادي الرأي ـ كما تقدم ـ إن كان الثاني فلا حجة فيه وإنما الحجة في المقتدين برسول الله صلى الله عليه و سلم فهذه خمسة في التشديد في سلوك طريق الآخرة يقاس عليها ما سواها
فصل قد يكون أصل العمل مشروعا ولكنه يصير جاريا مجرى البدعة من باب الذرائع
قد يكون أصل العمل مشروعا ولكنه يصير جاريا مجرى البدعة من باب الذرائع ولكن على غير الوجه الذي فرغنا من ذكره وبيانه أن العمل يكون مندوبا إليه ـ مثلا ـ فيعمل به العامل في خاصة نفسه على وضعه الأول من الندبية فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن بأس ويجري مجراه إذا دام عليه في خاصيته غير مظهر له دائما بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من السنن الرواتب والفرائض اللوازم فهذا صحيح لا إشكال فيه وأصله ندب رسول الله صلى الله عليه و سلم لإخفاء النوافل والعمل بها في البيوت وقوله :
[ أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة ] فاقتصر في الإظهار على المكتوبات ـ كما ترى ـ وإن كان ذلك في مسجده عليع السلام أو في المسجد الحرام أو في مسجد بيت المقدس حيث قالوا : إن النافلة في البيت أفضل منها في أحد هذه المساجد الثلاثة بما اقتضاه ظاهر الحديث وجرى الفرائض في الإظهار السنن كالعيدين والخسوف والاستسقاء وشبه ذلك فبقي ما سوى ذلك حكمة الإخفاء ومن هنا ثابر السلف الصالح رضي الله عنهم على إخفاء الأعمال فيما استطاعوا أو خف عليهم الاقتداء بالحديث وبفعله عليه الصلاة و السلام لأنه القدوة والأسوة
ومع ذلك فلم يثبت فيها إذا عمل بها في البيوت دائما أن يقام جماعة في المساجد البتة ما عدا رمضان ـ حسبما تقدم ـ ولا في البيوت دائما وإن وقع ذلك في الزمان الأول في الفرط كقيام ابن عباس رضي الله عنهما مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عندما بات عند خالته ميمونة وما ثبت من قوله عليه الصلاة و السلام :
[ قوموا فلأصل لكم ]
وما في الموطأ من صلاة يرفأ ـ هو خادم عمر ـ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقت الضحى فمن فعله في بيته وقتا ما فلا حرج ونص العلماء على جواز ذلك بهذا القيد المذكور وإن كان الجواز قد وقع في المدونة مطلقا فما ذكره تقييد له وأظن ابن حبيب نقله عن مالك مقيدا فإذا اجتمع في النافلة أن يلتزم السنن الرواتب إما دائما وإما في أوقات محدودة وأقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض أو المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب فذلك ابتداع والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان فعل هذا المجموع هكذا مجموعا وإن أتى مطلقا من غير تلك التقييدات فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت بدليل الشرع تقييدها رأي في التشريع فكيف إذا عارضه الدليل وهو الأمر بإخفاء النوافل مثلا ؟
ووجه دخول الابتداع هنا أن كل ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم من النوافل وأظهره في لجماعات فهو سنة فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العمل بالسنة إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعا ثم يلزم من ذلك اعتقاد العوام فيها ومن لا علم عنده أنها سنة وهذا فساد عظيم لأن اعتقاد ما ليس بسنة والعمل بها على حد العمل بالسنة نحو من تبدليل الشريعة كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض أو فيما ليس بفرض أنه فرض ثم عمل وفق اعتقاده فإنه فاسد فهب العمل في الأصل صحيحا فإخراجه عن بابه اعتقادا وعملا من باب إفساد الأحكام الشرعية ومن هنا ظهر عذر السلف الصالح في تركهم سننا قصدا لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض كالأضحية وغيرها ـ كما تقدم ذلك ـ
ولأجله أيضا نهى أكثرهم عن اتباع الآثار كما خرج الطحاوي و ابن وضاح وغيرهما عن معرور بن سويد الأسدي قال : وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما انصرفنا إلى المدينة انصرفت معه فلما صلى لنا صلاة الغداة فقرأ فيها : { ألم تر كيف فعل ربك } و { لإيلاف قريش } ثم رأى ناسا يذهبون مذهبا فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ قالوا : يأتون مسجدا ها هنا صلى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إنما هلك من كان قبلكم بهذا يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فليصل فيها وإلا فلا يتعمدها
وقال ابن وضاح : سمعت عيسى بن يونس مفتي أهل طرسوس يقول : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه و سلم فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة
قال ابن وضاح : وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي صلى الله عليه و سلم ما عدا قباء وحده وقال : وسمعتهم يذكرون أن سفيان دخل مسجد بيت المقدس فصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها وكذلك فعل غيره أيضا ممن يقتدى به وقدم وكيع أيضا مسجد بيت المقدس فلم يعد فعل سفيان
قال ابن وضاح : فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين فقد قال بعض من مضى : كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكرا عند من مضى
وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير
وجميع هذا ذريعة لئلا يتخذ سنة ماليس بسنة أو يعد مشروعا ماليس معروفا
وقد كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة وكان يكره مجيء قبور الشهداء ويكره مجيء قباء خوفا من ذلك مع ما جاء في الآثار من الترغيب فيه
ولكن لما خاف العلماء عاقبه ذلك تركوه
وقال ابن كتانة و أشهب : سمعنا مالكا لما أتاه سعد بن أبي وقاص قال : وددت أن رجلي تكسرت وأني لم أفعل
وسئل ابن كتانة عن الآثار التي تركوا بالمدينة فقال : أثبت ما في ذلك عندنا قباء إلا أن مالكا كان يكره مجيئها خوفا من أن يتخذ سنة
وقال سعيد بن حسان : كنت أقرأ على ابن نافع فلما مررت بحديث التوسعة ليلة عاشوراء قال لي : حوق عليه قلت : ولم ذلك يا أبا محمد ؟ قال : خوفا من أن يتخذ سنة
فهذه امور جائزة أو مندوب إليها ولكنهم كرهوا فعلها خوفا من البدعة لأن اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها وهذا شأن السنة وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك
فإن قيل : كيف صارت هذه الأشياء من البدع الإضافية ؟ والظاهر منها أنها بدع حقيقية ! لأن تلك الأشياء إذا عمل بها على اعتقاد أنها سنة فهي حقيقية إذ لم يضعها صاحب السنة رسول الله صلى الله عليه و سلم على هذا الوجه فصارت مثل ما إذا صلى الظهر على أنها غير واجبة واعتقدها عبادة فإنها بدعة من غير إشكال
هذا إذا نظرنا إليها بمآلها وإذا نظرنا إليها أولا فهي مشروعة من غير نسبة إلى بدعة أصلا
فالجواب : أن السؤال صحيح إلا أن لوضعها أولا نظرين :
أحدهما : من حيث هي مشروعة فلا كلام فيها
والثاني : من حيث صارت كالسبب الموضوع الاعتقاد البدعة أو للعمل بها على غير السنة فهي من هذا القبيل غير مشروعة لأن وضع الأسباب للشارع لا للمكلف والشارع لم يضع الصلاة في مسجد قباء أو بيت المقدس ـ مثلاـ سببا لأن تتخذ سنة فوضع المكلف لها كذلك رأي غير مستند إلى الشرع فكان ابتداعا
وهذا معنى كونها بدعة إضافية أما إذا استقر السبب وظهر عنه مسببه الذي هو اعتقاد العمل سنة والعمل على وفقه فذلك بدعة حقيقية لا إضافية ولهذا الأصل أمثلة كثيرة وقعت الإشارة إليها في أثناء الكلام فلا معنى للتكرار
وإذا ثبت في الأمور المشروعة أنها قد تعد بدعا بالإضافة فما ظنك بالبدع الحقيقية فإنها قد تجتمع فيها أن تكون حقيقية وإضافية معا لكن من جهتين فإذا بدعة أصبح ولله الحمد في نداء الصبح ظاهرة ثم لما عمل بها في المساجد والجماعات مواظبا عليها لا تترك كما لا تترك الواجبات وما أشبهها كان تشريعا أولا يلزمه أن يعتقد فيه الوجوب أو السنة وهذا ابتداع ثان إضافي ثم إذا اعتقد فيها ثانيا السنية أو الفرضية صارت بدعة من ثلاثة أوجه ومثله يلزم في كل بدعة أظهرت والتزمت وأما إذا خفيت واختص بها صاحبها فالأمر عليه أخف فيا لله ويا للمسلمين ! ماذا يجني المبتدع على نفسه مما لا يكون في حسابه ؟ وقانا الله شرور أنفسنا بفضله
فصل من تمام ما قبله وذلك أنه وقعت نازلة من تمام ما قبله :
وذلك أنه وقعت نازلة : إمام مسجد ترك ما عليه الناس بالأندلس من الدعاء للناس بآثار الصلوات بالهيئة الاجتماعية على الدوام وهو أيضا معهود في أكثر البلاد فإن الإمام إذا سلم من الصلاة يدعو للناس ويؤمن الحاضرون وزعم التارك أن تركه بناء منه على أنه لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا فعل الأئمة حسبما نقله العلماء في دواوينهم عن السلف والفقهاء أما أنه لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم فظاهر لأن حاله عليه السلام في أدبار الصلوات مكتوبات أو نوافل كانت بين أمرين : إما أن يذكر الله تعالى ذكرا هو العرف غير دعاء فليس للجماعة منه حظ إلا أن يقولوا مثل قوله أو نحوا من قوله كما في غير أدبار الصلوات كما جاء أنه كان يقول في دبر كل صلاة :
[ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد ] وقوله :
[ اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام ] وقوله : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } ونحو ذلك فإنما كان يقول في خاصة نفسه كسائر الأذكار فمن قال مثل قوله فحسن ولا يمكن في هذا كله هيئة اجتماع
وإن كان دعاء فعامة ما جاء عن دعائه عليه السلام بعد الصلاة مما سمع منه إنما كان يخص به نفسه دون الحاضرين كما في الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه [ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة رفع يديه ] الحديث إلى قوله : [ ويقول عند انصرافه من الصلاة : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت ] حسن صحيح وفي رواية أبي داود : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سلم من الصلاة قال :
اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ]
وخرج أبو داود : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول دبر كل صلاة :
اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة اللهم ربنا ورب كل شيء اجعلني مخلصا لك وأهلي في كل ساعة في الدنيا والآخرة يا ذا الجلال والإكرام اسمع واستجب الله أكبر الله أكبر الله نور السموات والأرض الله أكبر الله أكبر حسبي الله ونعم الوكيل ]
ول أبي داود في رواية :
[ رب أعني ولا تعن علي وانصرني ولاتنصر علي وأمكن لي ولا تمكن علي واهدني ويسر هداي إلي وانصرني على من بغى علي ] إلى آخر الحديث
وفي النسائي [ أنه عليه الصلاة و السلام كان يقول في دبر الفجر إذا صلى : اللهم اغفر إني أسألك علما نافعا وعملا متقبلا ورزقا طيبا ] وعن بعض الأنصار قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول في دبر الصلاة : اللهم اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور ] حتى يبلغ مائة مرة وفي رواية أن هذه الصلاة كانت صلاة الضحى
فتأملوا سياق هذه الأدعية كلها مساق تخصيص نفسه بها دون الناس ! فيكون مثل هذا حجة لفعل الناس اليوم إلا أن يقال : قد جاء الدعاء للناس في مواطن كما في الخطبة التي استسقى فيها ونحو ذلك فيقال : نعم : فأين التزام ذلك جهرا للحاضرين في دبر كل صلاة
ثم نقول : إن العلماء يقولون في مثل الدعاء والذكر الوارد على أثر الصلاة إنه مستحب لا سنة ولا واجب وهو دليل على أمرين :
أحدهما : أن هذه الأدعية لم تكن منه عليه والسلام على الدوام
والثاني : أنه لم يكن يجهر بها دائما ولا يظهرها للناس في غير مواطن التعليم إذ لو كانت على الدوام وعلى الإظهار لكانت سنة ولم يسع العلماء أن يقولوا فيها بغير السنة إذ خاصيته ـ حسبما ذكروه ـ الدوام والإظهار في مجامع الناس ولا يقال : لو كان دعاؤه عليه السلام سرا لم يؤخذ عنه لأنا نقول : من كانت عادته الإسرار فلا بد أن يظهر منه إما بحكم العادة وإما بقصد التنبيه على التشريع
فإن قيل : ظواهر الأحاديث تدل على الدوام بقول الرواة : كان يفعل فإنه يدل على الدوام كقولهم : كان حاتم يكرم الضيفان قلنا ليس كذلك بل يطلق على الدوام وعلى الكثير والتكرار على الجملة كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها [ أنه عليه الصلاة و السلام كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة ] وروت أيضا أنه :
[ كان عليه الصلاة و السلام ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء ] بل قد يأتي في بعض الأحاديث :
[ كان يفعل فيما لم يفعله إلا مرة واحدة ] نص عليه أهل الحديث
ولو كان يدوام المداومة التامة للحق بالسنن كالوتر وغيره ولو سلم : فأين هيئة الاجتماع ؟
فقد حصل أن الدعاء بهيئة الاجتماع دائما لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم كما لم يكن قوله ولا إقراره
وروى البخاري من حديث أم سلمة أنه صلى الله عليه و سلم :
[ كان يمكث إذا سلم يسيرا ] قال ابن شهاب : حتى ينصرف الناس فيما نرى وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها :
[ كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ]
وأما فعل الأئمة بعده نقل الفقهاء من حديث أنس في غير كتب الصحيح :
صليت خلف النبي صلى الله عليه و سلم فكان إذا سلم يقوم وصليت خلف أبي بكر رضي الله عنه فكان إذا سلم وثب كأنه على رفضه ( يعني الحجر المحمى ) ونقل ابن يونس الصقلي عن ابن وهب عن خارجة أنه كان يعيب على الأئمة قعودهم بعد السلام وقال : إنما كانت الأئمة ساعة تسلم تقوم وقال ابن عمر : جلوسه بدعة وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : لأن يجلس على الرضف خير له من ذلك وقال مالك في المدونة : إذا سلم فليقم ولا يقعد إلا أن يكون في سفر أو في فنائه
وعد الفقهاء إسراع القيام ساعة يسلم من فضائل الصلاة ووجهوا ذلك بأن جلوسه هنالك يدخل عليه فيه كبر وترفع على الجماعة وانفراده بموضوع عنهم يرى به الداخل أنه إمامهم وأما انفراده به حال الصلاة فضروري قال بعض شيوخنا الذين استفدنا منهم وإذا كان هذا في انفراده في الموضع فكيف بنا انضاف إليه من تقدمه أمامهم في التوسل به بالدعاء والرغبة وتأمينهم على دعائه جهرا ؟ قال : ولو كان هذا حسنا لفعله النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله عنهم ولم ينقل ذلك أحد من العلماء مع تواطئهم على نقل جميع أموره حتى : هل كان ينصرف من الصلاة عن اليمين أو عن الشمال ؟
وقد نقل ابن بطال عن علماء السلف إنكار ذلك والتشديد فيه على من فعله بما فيه كفاية
هذا ما نقله الشيخ بعد أن جعل الدعاء بإثر الصلاة بهيئة الاجتماع دائما بدعة قبيحة واستدل على عدم ذلك في الزمان الأول بسرعة القيام والانصراف لأنه مناف للدعاء لهم وتأمينهم على دعائه بخلاف الذكر ودعاء الإنسان لنفسه فإن الانصراف وذهاب الإنسان لحاجته غير مناف لهما
فبلغت الكائنة بعض شيوخ العصر فرد على ذلك الإمام ردا أمرع فيه على خلاف ما عليه الراسخون وبلغ من الرد ـ على زعمه ـ إلى أقصى غاية ما قدر عليه واستدل بأمور إذا تأملها الفطن عرف ما فيها كالأمر بالدعاء إثر الصلاة قرآنا وسنة وهو ـ كما تقدم ـ لا دليل فيه ثم ضم ذلك جواز الدعاء بهيئة الاجتماع في الجملة إلا في أدبار الصلوات ولا دليل فيه أيضا ـ كما تقدم ـ لاختلاف المتأصلين
وأما في التفصيل فزعم أنه ما زال معمولا به في جميع أقطار الأرض أوفي جلها من الأئمة في مساجد الجماعات من غير نكير إلا نكير أبي عبد الله ثم أخذ في ذمه وهذا النقل تهور بلا شك لأنه نقل إجماع يجب على الناظر فيه والمحتج به قبل التزام عهدته أن يبحث عنه بحث أصل عن الإجماع لأنه لا بد من النقل عن جميع المجتهدين من هذه الأمة من أول زمان الصحابة رضي الله عنهم إلى الآن هذا أمر مقطوع به ولا خلاف أنه لا اعتبار بإجماع العوام وإن ادعوا الإمامة
وقوله : من غير نكير تجوز بل ما زال الإنكار عليهم من الأئمة فقد نقل الطرطوشي عن مالك في ذلك أشياء تخدم المسألة فحصل إنكار مالك لها في زمانه وإنكار الإمام الطرطوشي في زمانه واتبع هذا أصحابه وهذا أصحابه ثم القرافي قد عد ذلك من البدع المكروهة على مذهب مالك وسلمه ولم ينكره عليه أهل زمانه ـ فيما نعلمه ـ مع وعمه أن من البدع ما هو حسن
ثم الشيوخ الذين كانوا بالأندلس حين جخلتها هذه البدعة ـ حسبما يذكر بحول الله ـ وقد أنكروها وكان من معتقدهم في ذلك أنه مذهب مالك وكان الزاهد أبو عبد الله بن مجاهد وتلميذه أبوعمران الميرتلي رحمهما الله ملتزمين لتركها حتى اتفق للشيخ أبي عبد الله في ذلك ما سنذكره إن شاء الله
قال بعض شيوخنا رادا على بعض من نصر هذا العمل : فإنا قد شاهدنا العمل من الأئمة الفقهاء الصلحاء المتبعين للسنة المتحفظين بأمور دينهم يفعلون ذلك أئمة ومأمورين ولم نر من ترك ذلك إلا من شذ في احواله ـ فقال ـ وأما احتجاج منكر ذلك بأن هذا لم يزل الناس يفعلونه فلم يأت بشيء لأن الناس الذين يقتدى بهم ثبت أنهم لم يكونوا يفعلونه قال ولما كانت البدع والمخالفات وتواطؤ الناس عليها صار الجاهل يقول : لو كان هذا منكرا لما فعله الناس ثم حكى أثر الموطأ : ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة ـ قال : فإذا كان هذا في عهد التابعين يقول : كثرت الإحداثات فكيف بزماننا ؟ ثم هذا الإجماع لو ثبت لزم منه محظور لأنه مخالف لما نقل عن الأولين من تركه فصار نسخ إجماع بإجماع وهذا محال في الأصول
وأيضا فلا تكون مخالفة المتأخرين لإجماع المتقدمين على سنة حجة على تلك السنة أبدا فما أشبه هذه المسألة بما حكى عن أبي علي بشاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري قال : كان عبد الله بن الحسن ـ يعني ابن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ـ يكثر الجلوس إلى ربيعة فتذكروا يوما فقال رجل كان في المجلس : ليس العمل على هذا فقال عبد الله أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام أفهم الحجة على السنة ؟ فقال ربيعة : أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء انتهى إلا أني أقول : أرأيت إن كثر المقلدون ثم أحدثوا بآرائهم فحكموا بها أفهم الحجة على السنة ولا كرامة ؟
ثم عضد ما ادعاه بأشياء من جملتها قوله ومن أمثال الناس : أخطىء مع الناس ولا تصب وحدك أي أن خطأهم هم الصواب وصوابك هو الخطأ قال ومعنى ما جاء في حديث :
[ عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ] فجعل تارك الدعاء على الكيفية المذكورة مخالفا للإجماع ـ كما ـ ترى ـ وحض على اتباع الناس وترك المخالفة لقوله عليه الصلاة و السلام :
[ لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ] وكل ذلك مبني على الإجماع الذي ذكروا وأن الجماعة هم جماعة الناس كيف كانوا وسيأتي معنى الجماعة المذكورة في حديث الفرق وأنها المتبعة للسنة وإن كانت رجلا واحدا في العالم
قال بعض الحنابلة : لا تعبأ بما يعرض من المسائل ويدعي فيها الصحة بمجرد التهويل أو بدعوي أن لا خلاف في ذلك : وقال ذلك لا يعلم أحدا قال فيها بالصحة فضلا عن نفي الخلاف فيها ليس الحكم فيها من الجليات التي لا يقدر المخالف قال : وفي مثل هذه المسائل قال الإمام أحمد بن حنبل : من ادعى الإجماع فهو كاذب وإنما هذه دعوى كثير وابن عليه يريدون أن يبطلوا السنن بذلك يعني أحمد أن المتكلمين في الفقه على أهل البدع إذا ناظرتهم بالسنن والآثار قالوا : هذا خلاف الإجماع وذلك القول الذي يخالف ذلك الحديث لا يحفظونه إلا عن بعض فقهاء المدينة أو فقهاء الكوفة ـ مثلا ـ فيدعون الإجماع من قلة معرفتهم بأقاويل العلماء واجترائهم على رد السنن بالآراء حتى كان بعضهم يسرد عليه الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام فلا يجد لها معتصما إلا أن يقول : هذا لم يقل به أحد من العلماء وهو لا يعرف إلا أبا حنيفة أو مالكا لم يقولوا بذلك ولو له علم لرأي من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن قال بذلك خلقا كثيرا
ففي هذا الكلام إرشاد لمعنى ما نحن فيه وأنه لا ينبغي أن ينقل حكم شرعي عن أحد من أهل العلم إلا بعد تحققه والتثبت لأنه مخبر عن حكم الله فإياكم والتساهل فإنه مظنة الخروج عن الطريق الواضح إلى السيئات
ثم عد من المفاسد في مخالفة الجمهور أنه يرميهم بالتجهيل والتضليل وهذا دعوى من خالفه فيما قال وعلى تسليمها فليست بمفسدة على فرض اتباع السنة وقد جاء عن السلف الحض على العمل بالحق وعدم الاستيحاش من قلة أهله
وأيضا فمن شنع على المبتدع بلفظ الابتداع فاطلق العبارة بالنسبة إلى المجتمعين يوم عرفة بعد العصر للدعاء في غير عرفة ـ إلى نظائرها ـ فتشنيعه حق كما يقول بالنسبة إلى بشر المريسي ومعبد الجهني وفلان ولا يدخل بذلك ـ إن شاء الله ـ في حديث :
[ من قال : هلك الناس فهو أهلكهم ] لأن المراد أن يقول ذلك ترفعا على الناس واستحقارا وأما إن قاله تحزنا وتحسرا فلا بأس قال بعضهم : ونحن نرجو أن نعرج على ذلك ـ إن شاء الله ـ فالاستدلال به ليس على وجهه
وعد من المفاسد الخوف من فساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة المنهي عنها فكأنه يقول : اترك اتباع السنة في زمان الغربة خوف الشهرة ودخول العجب وهذا شديد من القول وهو معارض بمثله فإن انتصابه لأن يكون داعيا للناس بأثر صلواتهم دائما مظنة لفساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة وهو تعليل القرافي وهو أولى في طريق الاتباع فصار تركه للدعاء لهم مقرونا بالاقتداء بخلاف الداعي فإنه في غير طريق من تقدم فهو أقرب إلى فساد النية
وعد منها ما يظن به من القول برأي أهل البدع القائلين بأن الدعاء غير نافع وهذا كالذي قبله لأنه يقول للناس : اتركوا اتباع النبي صلى الله عليه و سلم في ترك الدعاء بهيئة الاجتماع بعد الصلوات لئلا يظن بكم الابتداع وهذا كما ترى
قال ابن العربي : ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس منه وهو مذهب مالك و الشافعي وتفعله الشيعة ـ قال ـ فحضر عندي يوما في محرس أبي الشعراء بالثغر موضع تدريس عند صلاة الظهر ودخل المسجد من المحرس المذكور فتقدم إلى الصف الأول وأنا في مؤخرة قاعدا على طاقات البحر أتنسم الريح من شدة الحر ومعي في صف واحد أو ثمنة رئيس البحر وقائده في نفر من أصحابه ينتظر الصلاة ويتطلع على مراكب المنار فلما رفع الشيخ الفهري يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال قال أبو ثمنة وأصحابه : ألا ترى إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا ؟ قوموا إليه فاقتلوه وارموا به في البحر فلا يراكم أحد فطار قلبي من بين جوانحي ؟ وقلت : سبحان الله ! هذا الطرطوشي فقيه الوقت فقالوا لي : ولم يرفع يديه ؟ فقلت : كذلك كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعل وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه وجعلت أسكنهم وأسكنهم حتى فرغ من صلاته وقمت معه إلى المسكن من المحرس ورأى تغير وجهي فأنكر وسألني فأعلمته فضحك وقال : من أين لي أن أقتل على سنة ؟ فقلت له : ويحل لك هذا فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك وربما ذهب دمك فقال : دع هذا الكلام وخذ في غيره
فتأملوا في هذه القصة ففيها الشفاء إذ لا مفسدة في الدنيا توازي مفسدة إماتة السنة وقد حصلت النسبة إلى البدعة ولكن الطرطوسي رحمه الله لم ير ذلك شيئا فكلامه للاتباع أولى من كلام هذا الراد إذ بينهما في العلم ما بينهما
وأيضا فلو اعتبر ما قال لزم اعتباره بمثله في كل من أنكر الدعاء بهيئة الاجتماع يوم عرفة في غير عرفة ومنهم نافع مولى ابن عمر و مالك و الليث وغيرهم من السلف ولما كان ذلك غير لازم فمسألتنا كذلك
ثم ختم هذا الاستدلال الإجماعي بقوله : وقد اجتمع أئمة الإسلام في مساجد الجماعات في هذه الأعصار في جميع الأقطار على الدعاء أدبار الصلاة : فيشبه أن يدخل ذلك مدخل حجة إجماعية عصرية
فإن أراد الدعاء على هيئة الاجتماع دائما لا يترك كما يفعل بالسنن ـ وهي مسألتنا المفروضة ـ فقد تقدم ما فيه
فصل ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال على صحة ما زعم وهو أن الدعاء على ذلك الوجه لم يرد في الشرع نهي عنه مع وجود الترغيب فيه على الجملة ووجود العمل به فإن صح أن السلف لم يعملوا به فالترك ليس بموجب لحكم في المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج خاصة لا تحريم ولا كراهية
وجميع ما قاله مشكل على قواعد العلم وخصوصا في العبادات ـ التي هي مسألتنا ـ إذ ليس لأحد من خلق الله أن يخترع في الشريعة من رأيه أمرا لايوجد عليه منها دليل لأنه عين البدعة وهذا كذلك إذ لا دليل فيها على اتخاذ الدعاء جهرا للحاضرين في آثار الصلوات دائما على حد ما تقام بحيث يعد الخارج عنه خارجا عن جماعة أهل الإسلام متحيزا ومتميزا إلى سائر ما ذكر وكل ما لا يد ل عليه دليل فهو البدعة
وعلى هذا فإن ذلك الكلام يوهم أن اتباع المتأخرين المقلدين خير من اتباع الصالحين من السلف ولو كان في أحد جائزين فكيف إذا كان أمرين أحدهما متيقن أنه صحيح والآخر مشكوك فيه ؟ فيتبع المشكوك في صحته ويترك ما لا مرية في صحته ولو لعا من يتبعه
ثم إطلاقه بأن الترك لا يوجب حكما في المتروك إلا جواز الترك غير جار على أول الشرع الثابتة فنقول إن هنا أصلا لهذه المسألة لعل الله ينفع به من أنصف في نفسه وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم في مسألة أو تركه لأمر ما على ضربين :
أحدهما : أن يسكت عنه أو يتركه لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يقرر لأجله ولا وقع سبب تقريره كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي صلى الله عليه و سلم فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها وإنما حدثت بعد ذلك فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم يسنه رسول الله صلى الله عليه و سلم على الخصوص مما هو معقول المعنى كتضمين الصناع ومسألة الحرام والجد مع الأخوة وعول الفرائض ومنه المصحف ثم تدوين الشرائع وما أشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه عليه السلام إلى تقريره للتقديم كلياته التي تستنبط بها منها وإذا لم تقع أسباب الحكم فيها ولا الفتوى بها منه عليه الصلاة و السلام فلم يذكر لها حكم مخصوص
فهذا الضرب إذا حدثت أسبابه فلا بد من النظر فيه وإجرائه على أصوله إن كان من العاديات أو من العبادات التي لا يمكن الاقتصار فيها على ما سمع كمسائل السهو والنسيان في إجراء العبادات ولا إشكال في هذا الضرب لأن أصول الشرع عتيدة وأسباب تلك الأحكام لم تكن في زمان الوحي فالسكوت عنها على الخصوص ليس بحكم يقتضي جواز الترك أو غير ذلك بل إذا عرضت النوازل روجع بها أصولها فوجدت فيها ولا يجدها من ليس بمجتهد وإنما يجدها المجتهدون الموصوفون في علم أصول الفقه
والضرب الثاني : أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمرا ما من الأمور وموجبه المقتضى له قائم وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت إلا أنه لم يحدد فيه أمر زائد على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا ينقص منه لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلي الخاص موجودا ثم لم يشرع ولا نبه على السبطا كان صريحافي أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة ومخالفة لقصد الشارع إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه
ولذلك مثال فيما نقل عن مالك بن أنس في سماع أشهب و ابن نافع هو غاية فيما نحن فيه وذلك أن مذهبه في سجود الشكر الكراهية وأنه ليس بمشروع وعليه بنى كلامه قال في العتبية : وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز و جل شكرا ؟ فقال لا يفعل هذا مما مضى من أمر الناس قيل له : إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ـ فيما يذكرونه ـ سجد يوم اليمامة شكرا لله أفسمعت ذلك قال : ما سمعت ذلك وأنا أرى أنهم قد كذبوا على أبي بكر وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول : هذا لم تسمعه مني قد فتح الله على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى المسلمين بعده أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا ؟ إذ ما قد كان في الناس وجرى على أيديهم سمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم فهل سمعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجماع وإذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه ـ تمام الرواية ـ وقد احتوت على فرض سؤال والجواب بما تقدم
وتقرير السؤال أن يقال في البدعة ـ مثلا ـ إنها فعل سكت الشارع عن حكمه في الفعل والترك فلم يحكم عليه بحكم على الخصوص فالأصل جواز فعله كما أن الأصل جواز تركه إذ هو معنى الجائز فإن كان له أصل جملي فأحرى أن يجوز فعله حتى يقوم الدليل على منعه أو كراهته وإذا كان كذلك فليس هنا مخالفة لقصد الشارع ولا ثم دليل خالفه هذا النظر بل حقيقة ما نحن فيه أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع والسكوت عند الشارع لا يقتضي مخالفة ولا موافقة ولا يعين الشارع قصدا ما دون ضده وخلافه وإذا ثبت هذا فالعمل به ليس بمخالف إذ لم يثبت في الشريعة نهي عنه
وتقرير الجواب : معنى ما ذكره مالك رحمه الله وهو أن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضى له إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان إذ لو كان ذلك لائقا شرعا أو سائغا لفعلوه فهم كانوا أحق بإداركه والسبق إلى العمل به وذلك إذا نظرنا إلى المصلحة فإنه لا يخلو إما أن يكون في هذه الأحداث مصلحة أو لا والثاني لا يقول به أحد والأول إما أن تكون تلك المصلحة الحادثة آكد من المصلحة الموجودة في زمان التكليف أو لا ولا يمكن أن يكون مع كون المحدثة زيادة تكليف ونقصه عن المكلف أحرى بالأزمنة المتأخرة لما يعلم من قصور الهمم واستيلاء الكسل ولأنه خلاف بعث النبي صلى الله عليه و سلم بالحنفية السمحة ورفع الحرج عن الأمة وذلك في تكليف العبادات لأن العادات أمر آخر ـ كما سيأتي ـ وقد مر شيء منه فلم يبق إلا أن تكون المصلحة الظاهرة الآن مساوية للمصلحة الموجودة في زمان التشريع أو أضعف منها وعند ذلك تصير الأحداث عيثا أو استدراكا على الشارع لأن تلك المصلحة الموجودة في زمان التشريع إن حصلت للأولين من غير هذا الإحداث فهي إذا عبث إذ لا يصح أن يحصل للأولين دون الآخرين فقد صارت هذه الزيادة تشريعأ بعد الشارع إلا بسبب الآخرين ما فات الأولين فلم يكمل الدين إذا دونها ومعاذ الله من هذا المأخذ
وقد ظهر من العادات الجارية فيما نحن فيه أن ترك الأولين لأمر ما من غير أن يعينوا فيه وجها مع احتماله في الأدلة الجملية ووجود المظنة دليل على أن ذلك الأمر لا يعمل به وأنه إجماع منهم على تركه
قال ابن رشد في شرح مسألة العتبية : الوجه في ذلك أنه لم يرد مما شرع في الدين ـ يعني سجود الشكر ـ فرضا ولا نفلا إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه و سلم ولا فعله ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله والشرائع لا تثبت إلا من أحج هذه الأمور قال : واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنقل صحيح إذ يصح أن تتوفر الدواعي على ترك نقل شريعة من شرائع الدين وقد أمر بالتبليغ قال : وهذا أصل من الأصول وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجود الزكاة فيها لعموم قول النبي صلى الله عليه و سلم :
[ فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر ] لأنا نزلنا ترك نقل أخذ النبي صلى الله عليه و سلم الزكاة منها كالسنة القائمة في أن لا زكاة فيها فكذلك نزل ترك نقل السجود عن النبي صلى الله عليه و سلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيها ثم حكي خلاف الشافعي والكلام عليه والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة ولا توجيه أنها بدعة على الإطلاق
وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل وأنه بدعة منكرة فمن حيث وجد في زمانه عليه السلام المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليتراجعا كما كان أول مرة وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها وهو أصل صحيح إذا اعتبر وضح به ما نحن بصدده لأن التزام الدعاء بآثار الصلوات جهرا للحاضرين في مساجد الجماعات لو كان صحيحا شرعا أو جائزا لكان النبي صلى الله عليه و سلم أولى بذلك أن يفعله
وقد علل المنكر هذا الموضع بعلل تقتضي المشروعية وبنى على فرض أنه لم يأت ما يخالفه وأن الأصل الجواز في كل مسكوت عنه
أما أن الأصل الجواز فيمتنع لأن طائفة من العلماء يذهبون إلى أن الأشياء قبل وجود الشرع على المنع دون الإباحة فما الدليل على ما قال من الجواز ؟ وإن سلمنا له من قال : فهل هو على الإطلاق أم لا ؟ أما في العاديات فمسلم ولا نسلم أن ما نحن فيه من العاديات بل من العبادات ولا يصح أن يقال فيما فيه تعبد : إنه مختلف فيه على قولين هل هو على المنع ؟ أم هو على الإباحة ؟ بل هو أمر زائد على المنع لأن التعبدبات إنما وضعها للشارع فلا يقال في صلاة سادسة ـ مثلا ـ إنها على الإباحة فللمكلف وضعها ـ على أحد القولين ليتعبد بها لله لأنه باطل بإطلاق وهو اصل كل مبتدع يريد أن يستدرك على الشارع ولو سلم أنه من قبيل العاديات أو من قبيل ما يعقل معناه فلا يصح العمل به أيضا لأن ترك العمل به من النبي صلى الله عليه و سلم في جميع عمره وترك السلف الصالح له على توالي أزمنتهم قد تقدم أنه نص في الترك وإجماع من كل من ترك لأن عمل الإجماع كنصه كما أشار مالك في كلامه
وأيضا فيما يعلل له لا يصح التعليل به وقد أتى الراد بأوجه منه :
أحدهما : أن الدعاء بتلك الهيئة ليظهر وجه التشريع في الدعاء وأنه بآثار الصلوات مطلوب وما قاله يقتضي أن يكون سنة بسبب الدوام والإظهار في الجماعات والمساجد وليس بسنة اتفاقا منا ومنه فانقلب إذا وجه التشريع
وأيضا فإن إظهار التشريع كان في زمان النبي صلى الله عليه و سلم أولى فكانت تلك الكيفية المتكلم فيها أولى للإظهار ولما لم يفعله عليه الصلاة و السلام دل على ترك مع وجود المعنى المقتضي فلا يمكن بعد زمانه في تلك الكيفية إلا الترك
والثاني : أن الإمام يجمعهم على الدعاء ليكون باجتماعهم أقرب إلى الإجابة وهذه العلة كانت في زمانه عليه الصلاة و السلام لأنه لا يكون أحد أسرع إجابة لدعائه منه إذ كان مجاب الدعوة بلا إشكال بخلاف غيره وإن عظم قدره في الدين فلا يبلغ رتبته فهو كان أحق بأن يزيدهم الدعاء لهم خمس مرات في اليوم والليلة زيادة إلى دعائهم لأنفسهم
وأيضا فإن قصد الاجتماع على الدعاء لا يكون بعد زمانه أبلغ في البكطة من اجتماع يكون فيه سيد المرسلين صلى الله عليه و سلم وأصحابه فكانوا بالتنبيه لهذه المنقبة أولى
والثالث : قصد التعليم للدعاء ليأخذوا من دعائه ما يدعون به لأنفسهم لئلا يدعوا بما لا يجوز عقلا أو شرعا وهذا التعليل لا ينهض فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان المعلم الأول ومنه تلقينا ألفاظ الأدعية ومعانيها وقد كان من العرب من يجهل قدر الربوبية فيقول :
( رب العباد ما لنا وما لك ... أنزل علينا الغيث لا أبا لك )
وقال الآخر :
( لا هم إن كنت الذي بعهدي ... ولم تغيرك الأمور بعدي )
وقال الآخر :
( أبني ليتني لا أحبكم ... وجد الإله بكم كما أجد )
وهي ألفاظ يفتقر أصحابها إلى التعليم وكانوا أقرب عهد بجاهلية تعامل الأصنام معاملة الرب الواحد سبحانه ولا تنزهه كما يليق بجلاله فلم يشرع لهم دعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات دائما ليعلمهم أو يعنيهم على التعلم إذ صلوا معه بل علم في مجالس التعليم ودعا لنفسه إثر الصلاة حين بدا له ذلك ولم يلتفت إذ ذاك إلى النظر للجماعة وهو كان أولى الخلق بذلك
والرابع : أن في الاجتماع على الدعاء تعاونا على البر والتقوى وهو مأمور به وهذا الاجتماع ضعيف فإن النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي أنزل عليه : { وتعاونوا على البر والتقوى } وكذلك فعل ولو كان الاجتماع للدعاء إثر الصلاة جهرا للحاضرين من باب البر والتقوى لكان أول سابق إليه لكنه لم يفعله أصلا ولا أحد بعده حتى حدث ما حدث فدل على أنه ليس على ذلك الوجه بر ولا تقوى
والخامس : أن عامة الناس لا علم لهم باللسان العربي فربما لحن فيكون اللحن سبب عدم الإجابة وحكي عن الأصمعي في ذلك حكاية شعرية لا فقهية وهذا الاجتماع إلى اللعب أقرب منه إلى الجد وأقرب ما فيه أن أحدا من العلماء لا يشترط في الدعاء أن لا يلحن كما يشترط الإخلاص وصدق التوجيه وعزم المسألة وغير ذلك من الشروط وتعلم اللسان العربي لإصلاح الألفاظ في الدعاء وإن كان الإمام أعرف به هو كسائر ما يحتاج إليه الإنسان من أمر دينه فإن كان الدعاء مستحبا فالقراءة واجبة والفقه في الصلاة كذلك فإن كان تعليم الدعاء إثر الصلاة مطلوبا فتعليم فقه الصلاة آكد فكان من حقه أن يجعل ذلك من وظائف آثار الصلاة
فإن قيل بموجبه في المحرف المتعارف فهذه القاعدة تجتث أصله لأن السلف الصالح كانوا أحق بالسبق إلى فضله لجميع ما ذكر فيه من الفوائد ولذلك قال مالك فيها : أترى الناس اليوم كانوا أرغب في الخير ممن مضى ؟ وهو إشارة إلى الأصل المذكور وهو أن المعنى المقتضى للإحداث ـ وهو الرغبة في الخير ـ كان أتم في السلف الصالح وهم لم يفعلوه فدل على أنه لا يفعل
وأما ما ذكر من آداب الدعاء فكله لا يتعين له إثرالصلاة بدليل أن رسول الله عليه وسلم علم منها جملة كافية ولم يعلم منها شيئا إثر الصلاة ولا تركهم دون تعليم ليأخذوا ذلك منه في آخر الصلاة أو ليستغنوا بدعائه عن تعليم ذلك ومع أن الحاضرين للدعاء لا يحصل لهم في الإمام في ذلك كبير شيء وإن حصل فلمن كان قريبا منه دون من بعد
فصل ثم استدل المستنصر بالقياس ثم استدل المستنصر بالقياس فقال : وإن صح أن السلف لم يعملوا به فقد عمل السلف بما لم يعمل به من قبلهم مما هو خير ـ ثم قال بعد ـ قد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور فكذلك تحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما أحدثوا من الفتور
وهذا الاستدلال غير جار على الأصول :
أما أولا : فإنه في مقابلة النص وهو ما أشار إليه مالك في مسألة العتبية فذلك من باب فساد الاعتبار
وأما ثانيا : فإنه قياس على نص لم يثبت بعد من طريق مرضي وهذا ليس كذلك
وأما ثالثا : فإن كلام عمر بن عبد العزيز فرع اجتهادي جاء عن رجل مجتهد يمكن أن يخطىء فيه كما يمكن أن يصيب وإنما حقيقة الأصل أن يأتي عن النبي صلى الله عليه و سلم أو عن أهل الإجماع وهذا ليس عن واحد منهما
وأما رابعا : فإنه قياس بغير معنى جامع أو بمعنى جامع غير طردي ولكن الكلام فيه سيأتي ـ إن شاء الله ـ في الفرق بين المصالح المرسلة والبدع
وقوله : إن السلف عملوا بما لم يعمل به من قبلهم حاش لله أن يكونوا ممن يدخل تحت هذه الترجمة
وقوله : مما هو خير أما بالنسبة إلى السلف فما عملوا خير وأما فرعه المقيس فكونه خيرا دعوى لأن كون الشيء خيرا أو شرا لا يثبت إلا بالشرع أو لأن الدعاء على تلك الهيئة خير شرعا
وأما قياسه على قوله : تحدث للناس أقضية فمما تقدم يعلم بطلانه وفيه أمر آخر وهو التصريح بأن إحداث العبادات جائز قياسا على قول عمر وإنما كلام عمر بعد تسليم القياس عليه في معنى عادي يختلف فيه مناط الحكم الثابت فيما تقدم كتضمين الصناع أو الظنة في توجيه الأيمان دون مجرد الدعاوى فيقول
إن الأولين توجهت عليهم بعض الأحكام لصحة الأمانة والديانة والفضيلة فلما حدثت أضدادها اختلف المناط فوجب اختلاف الحكم وهو حكم رادع أهل الباطل عن باطلهم فأثر هذا المعنى ظاهر مناسب بخلاف ما نحن فيه فإنه على الضد من ذلك ألا ترى أن الناس إذا وقع فيهم الفتور عن الفرائض فضلا عن النوافل ـ وهي ما هي من القلة والسهولة ـ فما ظنك بهم إذا زيد عليهم أشياء أخرى يرغبون فيها ويحضون على استعمالها فلا شك أن الوطائف تتكاثر حتى يؤدي إلى أعظم من الكسل الأول وإلى ترك الجميع فإن حدث للعامل بالبدعة هو في بدعته أو لمن شايعه فيها فلا بد من كسله مما هو أولى
فنحن نعلم أن ساهر ليلة النصف من شعبان لتلك الصلاة المحدثة لا يأتيه الصبح إلا وهو نائم أو في غاية الكسل فيخل بصلاة الصبح وكذلك سائر المحدثات فصارت هذه الزيادة عائدة على ما هو أولى منها بالإبطال أو الإخلال وقد مر أن ما من بدعة تحدث إلا ويموت من السنة ما هو خير منها
وأيضا فإن هذا القياس مخالف لأصل شرعي وهو طلب النبي صلى الله عليه و سلم السهولة والرفق والتيسير وعدم التشديد وزيادة وظيفة لم تشرع فتظهر ويعمل بها دائما في مواطن السنن فهو تشديد بلا شك وإن سلمنا ما قال فقد وجد كل مبتدع من العامة السبيل إلى إحداث البدع وأخذ هذا الكلام بيده حجة وبرهانا على صحة ما يحدثه كائنا ما كان وهو مرمى بعيد
فصل ثم استدل على جواز الدعاء أثر الصلوات ثم استدل على جواز الدعاء إثر الصلاة في الجملة ونقل في ذلك عن مالك وغيره أنواعا من الكلام وليس هذا محل النزاع بل جعل الأدلة شاملة لتلك الكيفية المذكورة وعقب ذلك بقوله : وقد تظاهرت الأحاديث والآثار وعمل الناس وكلام العلماء على هذا المعنى كما قد ظهر ـ قال ـ ومن المعلوم أنه عليه السلام كان الإمام في الصلوات وأنه لم يكن ليخص نفسه بتلك الدعوات إذ قد جاء من سنته :
[ لا يحل لرجل أن يؤم قوما إلا بإذنهم ولا يخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم ] فتأملوا يا أولي الألباب ! فإن عامة النصوص فيما سمع من أدعيته في أدبار الصلوات إنما كان دعاء لنفسه وهذا الكلام يقول فيه : إنه لم يكن ليخص نفسه بالدعاء دون الجماعة وهذا تناقض ومن الله نسأل التوفيق
وإنما حمل الناس الحديث على دعاء الإمام في نفس الصلاة من السجود وغيره لا فيما حمله عليه هذا المتأول ولما لم يصح العمل بذلك الحديث عند مالك أجاز للإمام أن يخص نفسه بالدعاء دون المأمومين ذكره في النوادر ولما اعترضه كلام العلماء وكلام السلف مما تقدم ذكره أخذ يتأول ويوجه كلامهم على طريقتة المرتبكة ووقع له في كلام على غير تأمل لا يسلم ظاهره من التناقض والتدافع لوضوح أمره وكذلك في تأويل الأحاديث التي نقلها لكن تركت هنا استيفاء الكلام عليها لطوله وقد ذكرته في غير هذا الموضع والحمد لله على ذلك
فصل ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة
ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فينهى عنه ؟ أم غير بدعة فيعمل به ؟ فإنا إذا اعتبرناه بالأحكام الشرعية وجدناه من المشتبهات التي قد ندبنا إلى تركها حذرا من الوقوع في المحظور والمحظور هنا هو العمل بالبدعة فإذا العامل به لا يقطع أنه عمل ببدعة كما أنه لا يقطع أنه عمل بسنة فصار من جهة هذا التردد غير عامل ببدعة حقيقية ولا يقال أيضا : إنه خارج عن العمل بها جملة
وبيان ذلك أن النهي الوارد في المشتبهات إنما هو حماية أن يقع في ذلك الممنوع الواقع فيه الاشتباه فإذا اختلطت الميتة بالذكية نهيناه عن الإقدام فإن أقدم أمكن عندنا أن يكون آكلا للميتة في الاشتباه فالنهي الأخف إذا منصرف نحو الميتة في الاشتباه كما انصرف إليها النهي الأشد في التحقق
وكذلك اختلاط الرضيعة بالأجنبية : النهي في الاشتباه منصرف إلى الرضيعة كما انصرف إليها في التحقق وكذلك سائر المشتبهات إنما ينصرف نهي الإقدام على المشتبه إلى خصوص الممنوع المشتبه فإذا الفعل الدائر بين كونه سنة أو بدعة إذا نهي عنه في باب الاشتباه نهي عن البدعة في الجملة فمن أقدم على منهي عنه في باب البدعة لأنه محتمل أن يكون بدعة في نفس الأمر فصار من هذا الوجه كالعامل بالبدعة المنهي عنها وقد مر أن البدعة الإضافية هي الواقعة ذات وجهين فلذلك قيل : إن هذا القسم من قبيل البدع الإضافية ولهذا النوع أمثلة :
أحدهما : إذا تعارضت الأدلة على المجتهد في أن العمل الفلاني مشروع يتعبد به أو غير مشروع فلا يتعبد به ولم يتبين جمع بين الدليلين أو إسقاط أحدهما بنسخ أو ترجيح أو غيرهما فقد ثبت في الأصول أن فرضه التوقف فلو عمل بمقتضى دليل التشريع من غير مرجح لكان عاملا بمتشابه لإمكان صحة الدليل بعدم المشروعية فالصواب الوقوف عن الحكم رأسا وهو الفرض في حقه
والثاني : إذا تعارضت الأقوال على المقلد في المسألة بعينها فقال بعض العلماء : يكون العمل بدعة وقال بعضهم : ليس ببدعة ولم يتبين له الأرجح من العالمين بأعلمية أو غيرها فحقه الوقوف والسؤال عنهما حتى يتبين له الأرجح فيميل إلى تقليده دون الآخر فإن أقدم على تقليد أحدهما من غير مرجح كان حكمه حكم المجتهد إذا أقدم على العمل بأحد الدليلين من غير ترجيح فالمثالان في المعنى واحد
والثالث : أنه ثبت في الصحاح عن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبركون بأشياء من رسول الله صلى الله عليه و سلم ففي البخاري عن [ أبي جحيفة رضي الله عنه قال :
خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالهاجرة فأتي بوضوء فتوضأ فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به ] الحديث وفيه : كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه
وعن المسور رضي الله عنه في حديث الحديبية : [ وما انتخم النبي صلى الله عليه و سلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ] وخرج غيره من ذلك كثيرا في التبرك بشعره وثوبه وغيرهما حتى أنه مس بإصبعه أحدهم بيده فلم يحلق ذلك الشعر الذي مسه عليه السلام حتى مات
وبالغ بعضهم في ذلك حتى شرب دم حجامته إلى أشياء كهذا كثيرة فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعا في حق ولايته واتباعه لسنة رسول الله صلىالله عليه وسلم وأن يتبرك بفضل وضوئه ويتدلك بنخامته ويستشفى بآثاره كلها ويرجى نحو مما كان في آثار المتبوع الأصل صلى الله عليه و سلم
إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه مشكل في تنزيله وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه إذ لم يترك النبي صلى الله عليه و سلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو كان خليفته ولم يفعل به شيء من ذلك ولا عمر رضي الله عنهما وهو كان في الأمة ثم كذلك عثمان ثم علي ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي صلى الله عليه و سلم فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء
أحدهما : أن يعتقدوا فيه الاختصاص وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير لأنه عليه السلام كان نورا كله في ظاهره وباطنه فمن التمس منه نورا وجده على أي جهة التمسه بخلاف غيره من الأمة ـ وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله ـ لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبته ولا تقاربه فصار هذا النوع مختصا به كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع وإحلال بضع الواهبة نفسها له وعدم وجوب القسم عليه للزوجات وشبه ذلك فعلى هذا المأخذ : لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة
الثاني : أن لا يعتقدوا الاختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب الذرائع خوفا من أن يجعل ذلك سنة ـ كما تقدم ذكره في اتباع الآثار ـ والنهي عن ذلك أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد بل تتجاوز فيه الحدود وتبالغ بجهلها في التماس البركة حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد فربما اعتقد فيالمتبرك به ما ليس فيه وهذا التبرك هو أصل العبادة ولأجله قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه و سلم بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية ـ حسبما ذكره أهل السير ـ فخاف عمر رضي الله عنه أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تعبد من دون الله فكذلك يتفق عند التوغل في التعظيم
ولقد حكى الفرغاني مذيل تاريخ الطبري عن الحلاج أن أصحابه بالغوا في التبرك به حتى كانوا يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته حتى ادعوا فيه الإلهية تعالى الله عنا يقولون علوا كبيرا
ولأن الولاية وإن ظهر لها في الظاهر آثار فقد يخفى أمرها لأنها في الحقيقة راجعة إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله فربما ادعيت الولاية لمن ليس بولي أو ادعاها هو لنفسه أو أظهر خارقة من خوارق العادات هي من باب الشعوذة لا من باب الكرامة أو من باب السحر أو الخواص أوغير ذلك والجمهور لا يعرف الفرق بين الكرامة والسحر فيعظمون من ليس بعظيم ويقتدون بمن لا قدوة فيه ـ وهو الضلال البعيد ـ إلى غير ذلك من المفاسد وتركوا العمل بما تقدم ـ وإن كان له أصل ـ لما يلزم عليه من الفساد في الدين
وقد يظهر بأول وهلة أن هذا الوجه الثاني أرجح لما ثبت في الأصول العلمية أن كل قربة أعطيها الني صلى الله عليه و سلم فإن لأمته أنموذجا منها ما لم يدل دليل على الاختصاص
إلا أن الوجه الأول راجح من جهة أخرى وهو إطباقهم على الترك إذ لو كان اعتقادهم التشريع لعمل بع بعضهم بعده أو عملوا به ولو في بعض الأحوال إما وقوفا مع أصل المشروعية وإما بناء على اعتقاد انتقاء العلة الموجبة للامتناع
وقد خرج ابن وهب في جامعه من حديث يونس ين يزيد عن ابن شهاب قال :
حدثني رجل من الأنصار :
[ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم : لم تفعلون هذا ؟ قالوا : نلتمس الطهور والبركة بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من كان منكم يحب الله ورسوله فليصدق الحديث وليؤد الأمانة ولا يؤذ جاره ] فإن صح هذا النقل فهو مشعر بأن الأولى تركه وأن يتحرى ما هو آكد والأحرى من وظائف التكليف ولا يلزم الإنسان في خاصة نفسه ولم يثبت من ذلك كله إلا ما كان من قبيل الرقية وما يتبعها أو دعاء الرجل لغيره على وجه سيأتي بحول الله
فقد صارت المسألة من أصلها دائرة بين أمرين : أن تكون مشروعة فدخلت تحت حكم المتشابه أو تكون غير مشروعة والله أعلم
فصل ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعا
ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعا إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل توهما أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي أو يطلق تقييدها وبالجملة فتخرج عن حدها الذي حد لها
ومثال ذلك أن يقال : إن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصه الشارع بوقت دون وقت ولا حد فيه زمانا دون زمان ما عدا ما نهي عن صيامه على الخصوص كالعيدين وندب إليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء بقول فإذا خص منه يوما من الجمعة بعينه أو أياما من الشهر بأعيانها ـ لا من جهة ما عينه الشارع ـ فإن ذلك ظاهر بأنه من جهة اختيار المكلف كيوم الأربعاء مثلا في الجمعة والسابع والثامن في الشهر وما أشبه ذلك بحيث لا يقصد بذلك وجها بعينه مما لا ينثني عنه فإذا قيل له : لم خصصت تلك الأيام دون غيرها ؟ لم يكن له بذلك حجة غير التصميم أو يقول : إن الشيخ الفلاني مات فيه أو ما أشبه ذلك فلا شك أنه رأي محض بغير دليل ضاهى به تخصيص الشارع أياما بأعيانها دون غيرها فصار التخصيص من المكلف بدعة إذ هي تشريع بغير مستند
ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصا كتخصيص اليوم بكذا وكذا من الركعات أو بصدقة كذا وكذا أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط كان تشريعا زائدا
ولا حجة له في أن يقول : إن هذا الزمان ثبت فضله على غيره فيحسن فيه إيقاع العبادات لأنا نقول : هذا الحسن هل ثبت له أصل أم لا ؟ فإن ثبت فهو مسألتنا كما ثبت الفضل في قيام ليالي رمضان وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وصيام الأثنين والخميس فإن لم يثبت فما مستندك فيه العقل لا يحسن ولا يقبح ولا شرع يستند إليه ؟ فلم يبق إلا أنه ابتداع في التخصيص كإحداث الخطب وتحري ختم القرآن في بعض ليالي رمضان
ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه فإنه من باب وضع الحكمة غير موضعها فسامعها إنا أن يفهمها على غير وجهها ـ وهو الغالب ـ وهو فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق وإلى العمل بالباطل وإما لا يفهم منها شيئا وهو أسلم ولكن المحدث لم يعط الحكمة حقها من الصون بل صار التحدث بها كالعابث بنعمة الله
ثم إن ألقاها لمن لا يعقلها في معرض الانتفاع بعد تعقلها كان من باب التكليف بما لا يطاق وقد جاء النهي عن ذلك فخرج أبو داود حديثا عن النبي صلى الله عليه و سلم :
[ أنه نهى عن الغلوطات ] قالوا : وهي صعاب المسائل أو شرار المسائل وفي الترمذي ـ أو غيره ـ [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! أتيتك لتعلمني من غرائب العلم فقال عليه السلام : ما صنعت في رأس العلم ؟ قال : وما رأس العلم ؟ قال : هل عرفت الرب ؟ قال : نعم قال : فما صنعت في حقه ؟ قال : ما شاء الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اذهب فأحكم ما هنالك ثم تعال أعلمك من غرائب العلم ] وهذا المعنى هو مقتضى الحكمة لا تعلم الغرائب إلا يعد إحكام الأصول وإلا دخلت الفتنة وقد قالوا في العالم الرباني : إنه الذي يربي بصغار العلم قبل كباره
وهذه الجملة شاهدها في الحديث الصحيح مشهور وقد ترجم على ذلك البخاري فقال : ( باب من رخص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا ) ثم أسند عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : حدثوا الناس بما يعرفون اتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ ثم ذكر حديث معاذ الذي أخبر به عند موته تأثيما وإنما لم يذكره إلا عند موته لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأذن له في ذلك لما خشي من تنزيله غير منزلته وعلمه معاذا لأنه من أهله
وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :
ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة : قال ابن وهب : وذلك أن يتأولوه غير تأويله ويحملوه على غير وجهه
وخرج شعبة عن كثير بن مرة الحضرمي أنه قال : إن عليك في عملك حقا كما أن عليك في مالك حقا لا تحدث بالعلم غير أهله فتجهل ولا تمنع العلم أهله فتأثم ولا تحدث بالحكمة عند السفهاء فيكذبوك ولا تحدث بالباطل عند الحكماء فيمقتوك
وقد ذكر العلماء هذا المعنى في كتبهم وبسطوه بسطا شافيا والحمد لله وإنما نبهنا عليه لأن كثيرا ممن لا يقدر قدر هذا الموضع يزل فيه فيحدث الناس بما لا تبلغه عقولهم وهو على خلاف الشرع وما كان عليه سلف هذه الأمة
ومن ذلك أيضا جميع ما تقدم في فضل السنة التي يكون العمل بها ذريعة إلى البدعة من حيث إنها عمل بها ولم يعمل بها سلف هذه الأمة
ومنه تكرار السورة الواحدة في التلاوة أو في الركعة الواحدة فإن التلاوة لم تشرع على ذلك الوجه ولا أن يخص من القرآن شيئا دون شيء لا في صلاة ولا في غيرها ـ فصار المخصص لها عاملا برأيه في التعبد لله
وخرج ابن وضاح عن مصعب قال : سئل سفيان عن رجل يكثر قراءة : { قل هو الله أحد } لا يقرا غيرها كما يقرؤها فكرهه وقال : إنما أنتم متبعون فاتبعوا الأولين ولم يبلغنا عنهم نحو هذا وإنما أنزل القرآن ليقرأ ولا يخص شيء دون شيء
وخرج أيضا ـ وه في العتبية من سماع ابن القاسم ـ عن مالك رحمه الله أنه سئل على قراءة { قل هو الله أحد } مرارا في الركعة الواحدة فكره ذلك وقال : هذا من محدثات الأمور التي أحدثوا
ومحمل هذا عند ابن رشد من باب الذريعة ولأجل ذلك لم يأت مثله عن السلف
وإن كانت تعدل ثلث القرآن ـ كما في الصحيح ـ وهو صحيح فتأمله في الشرح
وفي الحديث أيضا ما يشعر بأن التكرار كذلك عمل محدث في مشروع الأصل بناء على ما قاله ابن رشد فيه
ومن ذلك قراءة القرآن بهيئة الاجتماع عشية عرفة في المسجد للدعاء تشبها بأهل عرفة ونقل الأذان يوم الجمعة من المنار وجعله قدام الإمام ففي سماع ابن القاسم وسئل عن القرى التي لا يكون فيها إمام إذا صلى بهم رجل منهم الجمعة : أيخطب بهم ؟ قال : نعم ! لا تكون الجمعة إلا بخطبة فقيل له : أفيؤذن قدامه ؟ قال : لا واحتج على ذلك بفعل أهل المدينة
قال ابن رشد : الأذان بين يدي الإمام في الجمعة مكروه لأنه محدث قال وأول من أحدثه هشام بن عبد الملك وإنما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا زالت الشمس وخرج فرقى المنبر فإذا رآه المؤذن ـ وكانوا ثلاثة ـ قاموا فأذنوا في المشرفة واحدا بعد واحد كما يؤذن في غير الجمعة فإذا فرغوا أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم في خطبته ثم تلاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فزاده عثمان رضي الله عنه لما كثر الناس أذانا بالزوراء عند زوال الشمس ويؤذن الناس فيه بذلك أن الصلاة قد حضرت وترك الأذان في المشرفة بعد جلوسه على المنبر على ما كان عليه فاستمر الأمر على ذلك إلى زمان هشام فنقل الأذان الذي كان بالزوراء إلى المشرفة ونقل الأذان الذي كان بالمشرفة بين يديه وأمرهم أن يؤذنوا صفا وتلاه على ذلك من بعده من الخلفاء إلى زماننا هذا قال ابن رشد : وهو بدعة قال : والذي فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم والخلفاء الراشدون بعده هو السنة
وذكر ابن حبيب ما كان فعله عليه السلام وفعل الخلفاء بعده كما ذكر ابن رشد وكأنه نقله من كتابه وذكر قصة هشام ثم قال : والذي كان فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم هي السنة وثد حدثني أسد بن موسى عن يحيى بن سليم عن حعفر بن محمد بن جابر بن عبيد الله [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في خطبته : أفضل الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ]
وما قاله ابن حبيب من أن الأذان عند صعود الإمام على المنبر كان باقيا في زمان عثمان رضي الله عنه موافق لما نفله أرباب النقل الصحيح وأن عثمان لم يزد على ما كان قبله إلا الأذان على الزوراء فصار إذا نقل هشام الأذان المشروع في المنار إلى ما بين يديه بدعة في ذلك المشروع
فإن قيل : فكذلك أذان الزوراء محدث أيضا بل هو محدث من أصله غير منقول من موضعه فالذي يقال هنا يقال مثله في أذان هشام بل هو أخف منه
فالجواب : أن أذان الزوراء وضع هنالك على أصله من الإعلام بوقت الصلاة وجعله بذلك الموضع لأنه لم يكن ليسمع إذا وضع بالمسجد كما كان في زمان من قبله فصارت كائنة أخرى لم تكن فيما تقدم فاجتهد لها كسائر مسائل الاجتهاد وحين كان مقصودا الأذان الإعلام فهو باق كما كان فليس وضعه هنالك بمناف إذ لم تخترع فيه أقاويل محدثة ولا ثبت أن الأذان بالمنار أ وفي سطح المسجد تعبد غير معقول المعنى فهو الملائم من أقسام المناسب بخلاف نقله من المنار إلى ما بين يدي الإمام فإنه قد أخرج بذلك أولا عن أصله من الإعلام إذ لم يشرع لأهل المسجد إعلام بالصلاة إلا بالإقامة وأذان جمع الصلاتين موقوف على محله ثم أذانهم على صوت واحد زيادة في الكيفية
ومن ذلك الأذان والإقامة في العيدين فقد نقل ابن عبد البر اتفاق الفقهاء على أن لا أذان ولا إقامة فيهما ولا في شيء من الصلوات المسنونات والنوافل وإنما الأذان للمكتوبات وعلى هذا مضى عمل الخلفاء : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجماعة الصحابة رضي الله عنهم وعلماء التابعين وفقهاء الأمصار وأول من أحدث الأذان والإقامة في العيدين ـ فيما ذكر ابن حبيب ـ هشام بن عبد الملك أراد أن يؤذن الناس بالأذان بمجيء الإمام ثم بدا بالخطبة قبل الصلاة كما بدأ بها مروان ثم أمر بالإقامة بعد فراغه من الخطبة ليؤذن الناس بفراغه من الخطبة ودخوله في الصلاة لبعدهم عنه ( قال ) : ولم يرد مروان وهشام إلا الاجتهاد فيما رأيا إلا أنه لا يجوز اجتهاد في خلاف رسول الله صلى الله عليه و سلم ( قال ) : وقد حدثني ابن الماجشون أنه سمع مالكا يقول : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خان الرسالة لأن الله يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا
وقد روي أن الذي أحدث الأذان معاوية وقيل : زياد وأن ابن الزبير فعله آخر إمارته والناس على خلاف هذا النقل
ولقائل أن يقول : إن الأذان هنا نظير أذان الزوراء لعثمان رضي الله عنه فما تقدم فيه من التوجيه الاجتهادي جار هنا ولا يكون بسبب ذلك مخالفا للسنة لأن قصة هشام نازلة لا عهد بها فيما تقدم لأن الأذان إعلام بمجيء الإمام لخفاء مجيئه عن الناس لبعدهم عنه ثم الإقامة للإعلام بالصلاة إذ لولاها لم يعرفوا دخوله في الصلاة فصار ذلك أمرا لا بد منه كأذان الزوراء
والجواب : أن مجيء الإمام لم يشرع فيه الأذان وإن خفي على بعض الناس لبعده بكثرة الناس فكذلك لا يشرع فيما بعد لأن العلة كانت موجودة ثم لم تشرع إذ لا يصح أن تكون العلة غير مؤثرة في زمان النبي صلى الله عليه و سلم والخلفاء بعده ثم تصير مؤثرة وأيضا فإحداث الأذان والإقامة انبنى على إحداث تقديم الخطبة على الصلاة وما انبنى على المحدث محدث ولأنه لما لم يشرع في النوافل أذان ولا اقامة على حال فهمنا من الشرع التفرقة بين النفل والفرض لئلا تكون النوافل كالفرائض في الدعاء إليها فكان إحداث الدعاء إلى النوافل لم يصادف محلا وبهذه الأوجه الثلاثة يحصل الفرق بين أذان الزوراء وبين ما نحن فيه فلا يصح أن يقاس أحدهما على الآخر والأمثلة في هذا المعنى كثيرة
ومن نوادرها التي لا ينبغي أن تغفل ما جرى به عمل جملة ممن ينتمي إلى طريقة الصوفية من تربصهم ببعض العبادات أوقاتا مخصوصة غير ما وقته الشرع فيها فيضعون نوعا من العبادات المشروعة في زمن الربيع ونوعا آخر في زمن الصيف ونوعا آخر في زمن الخريف ونوعا آخر في زمن الشتاء
وربما وضعوا لأنواع من العبادات لباسا مخصوصا وأشباه ذلك من الأوضاع الفلسفية يضعونها شرعية أي متقربا بها إلى الحضرة الإلهية في زعمهم وربما وضعوها على مقاصد غير شرعية كأهل التصريف بالأذكار والدعوات ليستجلبوا بها الدنيا من المال والجاه والحظوة ورفعة المنزلة بل ليقتلوا بها إن شاؤوا أو يمرضوا أو يتصرفوا وفق أغراضهم فهذه كلها بدع محدثات بعضها أشد من بعض لبعد هذه الأغراض عن مقاصد الشريعة الإسلامية الموضوعة مبرأة عن مقاصد المتخرصين مطهرة لمن تمسك بها عن أوضار اتباع الهوى إذ كل متدين بها عارف بمقاصدها ينزهها عن أمثال هذه المقاصد الواهية فالاستدلال على بطلان دعاويهم فيها من باب شغل الزمان بغير ما هو أولى وقد تقرر ـ بحول الله ـ في أصل المقاصد من كتاب الموافقات ما يؤخذ منه حكم هذا النمط والبرهان على بطلانه لكن على وجه كلي مفيد وبالله التوفيق
وهذا كله إن فرضنا أصل العبادة مشروعا فإن كان أصلها غير مشروع فهي بدعة حقيقية مركبة كالأذكار والأدعية بزعم العلماء أنها مبنية على علم الحروف وهو الذي اعتنى به البوني وغيره ممن حذا حذوه أو قاربه فإ ن ذلك العلم فلسفة ألطف من فلسفة معلمهم الأول وهو أرسطاطاليس فردوها إلى أوضاع الحروف وجعلوها هي الحاكمة في العالم وربما أشاروا عند العمل بمقتضى تلك الأذكار وما قصد بها إلى تحري الأوقات والأحوال الملائمة لطبائع الكواكب ليحصل التأثير عندهم وحيا فحكموا العقول والطبائع ـ كما ترى ـ وتوجهوا شطرها وأعرضوا عن رب العقل والطبائع وإن ظنوا أنهم يقصدونه اعتقادا في استدلالهم لصحة ما انتحلوا على وقوع الأمر وفق ما يقصدون فإذا توجهوا بالذكر والدعاء المفروض على الغرض المطلوب حصل سواء عليهم أنفعا كان أو ضرا وخيرا كان أم شرا ويبنون على ذلك اعتقاد بلوغ النهاية في إجابة الدعاء أو حصل نوع من كرامات الأولياء كلا ! ليس طريق ذلك التأثير من مرادهم ولا كرامات الأولياء أو إجابة الدعاء من نتائج أورادهم فلا تلاقي بين الأرض والسماء ولا مناسبة بين النار والماء
فإن قلت : فلم يحصل التأثير حسبما قصدوا ؟ فالجواب : إن ذلك في الأصل قبيل الفتنة التي اقتضاها في الخلق { ذلك تقدير العزيز العليم } فالنظر إلى وضع الأسباب والمسببات أحكام وضعها الباري تعالى في النفوس يظهر عندها ما شاء الله من التأثيرات على نحو ما يظهر على المعيون عند الإصابة وعلى المسحور عند عمل السحر بل هو بالسحر أشبه لاستمدادهما من أصل واحد وشاهده ما جاء في الصحيح خرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله يقول : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني ] ـ وفي بعض الروايات ـ [ أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ] وشرح هذه المعاني لا يليق بما نحن فيه
والحاصل : أن وضع الأذكار والدعوات على نحو ما تقدم من البدع المحدثات لكن تارة تكون البدعة فيها إضافية بإعتبار أصل المشروعة
فصل فإن قيل فالبدع الإضافية هل يعتد بها فإن قيل : فالبدع الإضافية هل يعتد بها عبادات حتى تكون من تلك الجهة متقربا بها إلى الله تعالى أم لا تكون كذلك ؟ فإن كان الأول فلا تأثير إذا لكونها بدعة ولا فائدة في ذكره إذ لا يخلو من أحد الأمرين : إما أن لا يعتبر بجهة الابتداع في العبادة المفروضة فتقع مشروعة يثاب عليها فتصير جهة الابتداع مغتفرة فلا على المبتدع فيها أن يبتدع وإما أن يعتبر الابتداع فقد صار للابتداع أثر في ترتب الثواب فلا يصح أن يكون منفيا عنه بإطلاق وهو خلاف ما تقرر من عموم الذم فيه وإن كان الثاني فقد تحدث البدعة الإضافية مع الحقيقية بالتقسيم الذي انبنى عليه الباب الذي نحن في شرحه ولا فائدة فيه
فالجواب : أن حاصل البدعة الإضافية أنها لا تنحاز إلى جانب مخصوص في الجملة بل ينحاز بها الأصلان ـ أصل السنة وأصل البدعة ـ لكن من وجهين وإذا كان كذلك اقتضى النظر السابق للذهن أن يثاب العامل بها من جهة ما هو مشروع ويعاتب من جهة ما هو غير مشروع إلا أن هذا النظر لا يتحصل لأنه مجمل
والذي ينبغي أن يقال في جهة البدعة في العمل : لا يخلو أن تنفرد أو تلتصق وإن التصقت فلا تخلو أن تصير وصفا للمشروع غير منفك إما بالقصد أو بالوضع الشرعي العادي أو لا تصير وصفا وإن لم تصر وصفا فإما فإن أن يكون وضعها إلى أن تصير وصفا أولا
فصل فهذه أربعة أقسام الخ ـ فأما القسم الأول : وهو أن تنفرد البدعة عن العمل
فهذه أربعة أقسام لا بد من بيانها في تحصيل هذا المطلوب بحول الله
فأما القسم الأول : وهو أن تنفرد البدعة عن العمل المشروع فالكلام فيه ظاهر مما تقدم إلا إن كان وضعه على جهة التعبد فبدعة حقيقية وإلا فهو فعل من جملة الأفعال العادية لا مدخل له فيما نحن فيه فالعبادة سالمة والعمل العادي خارج من كل وجه مثاله الرجل يريد القيام إلى الصلاة فيتنحنح مثلا أو يتمخط أو يمشي خطوات أو يفعل شيئا ولا يقصد بذا وجها راجعا إلى الصلاة وإنما يفعل ذلك عادة أو تقززا فمثل هذا لا حرج فيه في نفسه ولا بالنسبة إلى الصلاة وهو من جملة العادات الجائزة إلا أنه يشترط فيه أيضا أن لا يكون بحيث يفهم منه الانضمام إلى الصلاة عملا أو قصدا فإنه إذ ذاك يصير بدعة وسيأتي بيانه إن شاء الله
وكذلك أيضا إذا فرضنا أنه فعل قصد التقرب مما لم يشرع أصلا ثم قام بعده إلى الصلاة المشروعة ولم يقصد فعله لأجل الصلاة ولا كان مظنة لأن يفهم منه انضمامه إليها فلا يقدح في الصلاة وإنما يرجع الذم فيه إلى العمل به على الانفراد ومثله لو أرادالقيام إلى العبادة ففعل عبادة مشروعة من غير قصد الانضمام ولا جعله عرضة لقصد انضمامه فتلك العبادتان على أصالتهما وكقول الرجل عند الذبح أو العتق : اللهم منك وإليك على غير التزام ولا قصد الانضمام وكقراءة القرآن في الطواف لا بقصد الطواف ولا على الالتزام فكل عبادة هنا منفردة عن صاحبتها فلا حرج فيها
وعلى ذلك نقول : لو فرضنا أن الدعاء بهيئة الاجتماع وقع من أئمة المساجد في بعض الأوقات للأمر يحدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزا لأنه على الشرط المذكور إذ لم يقع ذلك على وجه يخاف منه مشروعية الانضمام ولا كونه سنة تقام في الجماعات ويعلن به في المساجد كما دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم دعاء الاستسقاء بهيئة الاجتماع وهو يخطب وكما أنه دعا أيضا في غير أعقاب الصلوات على هيئة الاجتماع لكن في الفرط وفي بعض الأحايين كسائر المستحبات التي لا يتربص بها وقتا بعينه وكيفية بعينها
وخرج عن أبي سعيد مولى أسيد قال كان عمر رضي الله عنه إذا صلى العشاء أخرج الناس من المسجد فتخلف ليلة مع قوم يذكرون الله فأتى عليهم فعرفهم فألقى درته وجلس معهم فجعل يقول : يا فلان ! ادع الله لنا يا فلان ادع الله لنا حتى صار الدعاء إلى غير ( ؟ ) فكانوا يقولون : عمر فظ غليظ فلم أر أحدا من الناس تلك الساعة أرق من عمر رضي الله عنه لا ثكلى ولا أحدا
وعنسلم العلوي قال : قال رجل لأنس رضي الله عنه يوما : يا أبا حمزة ! لو دعوت لنا بدعوات فقال : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة قال ـ فأعادها مرارا ثلاثا فقال يا أبا حمزة ! لو دعوت فقال مثل ذلك لا يزيد عليه فإذا كان الأمر على هذا فلا إنكار فيه حتى إذا دخل فيه أمر زائد صار بتلك الزيادة مخالفا للسنة فقد جاء في دعاء الإنسان لغيره الكراهية عن السلف لا على حكم الأصالة بل بسبب ما ينضم إليه من الأمور المخرجة عن الأصل ولنذكره هنا لاجتماع أطراف المسألة في التشبيه على الدعاء بهيئة الاجتماع بآثار الصلوات في الجماعات دائما
فخرج الطبري عن مدرك بن عمران قال : كتب رجل إلى عمر رضي الله عنه : فادع الله لي فكتب إليه عمر : إني لست بنبي ولكن إذا أقيمت الصلاة فاستغفر الله لذنبك فإباية عمر رضي الله عنه في هذا الموضع ليس من جهة أصل الدعاء ولكن من جهة أخرى وإلا تعارض كلامه مع ما تقدم فكأنه فهم من السائل أمرا زائدا على الدعاء فلذلك قال : لست بنبي وبذلك على هذا ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه لما قدم الشام أتاه رجل فقال : استغفر لي فقال : غفر لك ثم أتاه آخر فقال : استغفر لي فقال : لا غفر الله لك ولا لذاك أنبي أنا ؟ فهذا أوضح في أنه فهم من السائل أمرا زائدا وهو أن يعتقد فيه أنه مثل النبي أو أنه وسيلة إلى أن يعتقد ذلك أو يعتقد أنه سنة تلزم أو يجري في الناس مجرى السنن الملتزمة
ونحوه عن زيد بن وهب أن رجلا قال لحذيفة رضي الله عنه : استغفر لي فقال : لا غفر الله لك ثم قال : هذا يذهب إلى نسائه فيقول استغفر لي حذيفة أترضين أن أدعو الله أن تكن مثل حذيفة ؟ فدل هذا على أنه وقع في قلبه أمر زائد يكون الدعاء له ذريعة حتى يخرج عن أصله لقوله بعد ما دعا على الرجل : هذا يذهب إلى نسائه فيقول كذا أي فيأتي نساؤه لمثلها ويشتهر الأمر حتى يتخذ سنة ويعتقد في حذيفة ما لا يحبه هو لنفسه وذلك يخرج المشروع عن كونه مشروعا ويؤدي إلى التشيع واعتقاد أكثر مما يحتاج إليه
وقد تبين هذا المعنى بحديث رواه ابن علية عن ابن عون قال : جاء رجل إلى إبراهيم فقال : يا أبا عمران ! دع الله أن يشفيني فكره ذلك إبراهيم وقطب وقال : جاء رجل إلى حذيفة فقال : ادع الله أن يغفر لي فقال : لا غفر الله لك فتنحى الرجل فجلس فلما كان بعد ذلك قال : فأدخلك الله مدخل حذيفة أقد رضيت ؟ الآن يأتي أحدكم الرجل كأنه قد أحصر شأنه ثم ذكر إبراهيم السنة فرغب فيها وذكر ما أحدث الناس فكرهه
وروى منصور عن إبراهيم قال : كانوا يجتمعون فيتذاكرون فلا يقول بعضهم لبعض : استغفر لنا
فتأملوا يا أولي الألباب ما ذكره من هذه الأصنام المنضمة إلى الدعاء حتى كرهوا الدعاء إذا انضم إليه ما لم يكن عليه سلف الأمة فقس بعقلك ماذا كانوا يقولون في دعائنا بآثار الصلاة بل في كثير من المواطن وانظروا إلى اسبتارة ( ؟ ) إبراهيم ترغيبه في السنة وكراهيته ما أحدث الناس بعد تقرير ما تقدم
وهذه الآثار من تخريج الطبري في تهذيب الآثار له وعلى هذا ينبني ما خرجه ابن وهب عن الحارث بن نبهان عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الدرداء رضي الله عنه : أن ناسا من أهل الكوفة يقرأون عليك السلام ويأمرونك أن تدعو لهم وتوصيهم فقال : اقرأوا عليهم السلام ومرورهم أن يعطوا القرآن حقه فإنه يحملهم أو يأخذ بهم على القصد والسهولة ويجنبهم الجور والحزونة ولم يذكر أنه دعا لهم
فصل وأما القسم الثاني : وهو أن يصير العمل أو غيره كالوصف للعمل المشروع وأما القسم الثاني : وهو أن يصير العمل العادي أو غيره كالوصف للعمل المشروع إلا أن الدليل على أن العمل المشروع لم يتصف في الشرع بذلك الوصف فظاهر الأمر انقلاب العمل المشروع غير مشروع ويبين ذلك من الأدلة عموم قوله عليه الصلاة و السلام :
[ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ] وهذا العمل عند اتصافه بالوصف المذكور عمل ليس عليه أمره عليه الصلاة و السلام فهو إذا رد كصلاة الفرض مثلا إذا صلاها القادر الصحيح قاعدا أو سبح في موضع القراءة أو قرأ التسبيح وما أشبه ذلك
وقد نهى عليه الصلاة و السلام عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر ونهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وغروبها فبالغ كثير من العلماء في تعميم النهي حتى عدوا صلاة الفرض في ذلك الوقت داخلا تحت النهي فباشر النهي الصلاة لأجل اتصافها بأنها واقعة في زمان مخصوص كما اعتبر فيها الزمان باتفاق في الفرض فلا تصلى الظهر قبل الزوال ولا المغرب قبل الغروب
ونهى عليه الصلاة و السلام عن صيام الفطر والأضحى والاتفاق على بطلان الحج في غير أشهر الحج فكل من تعبد لله تعالى بشيء من هذه العبادات الواقعة في غير أزمانها تعبد ببدعة حقيقية لا إضافية فلا جهة لها إلى المشروع بل غلبت عليها جهة الابتداع فلا ثواب فيها على ذلك التقدير فلو فرضنا قائلا يقول بصحة الصلاة الواقعة في وقت الكراهية أو صحة الصوم الواقع يوم العيد فعلى فرض أن النهي راجع إلى أمر لم يصر للعبادة كالوصف بل الأمر منفك منفرد ـ حسبما تبين بحول الله
ويدخل في هذا القسم ما جرى به العمل في بعض الناس كالذي حكى القرافي عن العجم في اعتقاده كون صلاة الصبح يوم الجمعة ثلاث ركعات فإن قراءة سورة السجدة لما التزمت فيها وحوفظ عليها اعتقدوا فيها الركنية فعدوها ركعة ثالثة فصارت السجدة إذا وصفا لازما وجزءا من صلاة صبح الجمعة فوجب أن تبطل
وعلى هذا الترتيب ينبغي أن تجري العبادات المشروعة إذا خصت بأزمان مخصوصة بالرأي المجرد من حيث فهمنا تلبسا بالأعمال على الجملة فصيروا ذلك الزائد وصفا فيه مخرج له عن أصله وذلك أن الصفة مع الموصوف من حيث هي صفة له لا تفارقه هي من جملته
وذلك لأنا نقول : إن الصفة هي عين الموصوف إذا كانت لازمة له حقيقة أو اعتبارا ولو فرضنا ارتفاعها عنه لارتفع الموصوف من حيث هو موصوف بها كارتفاع الإنسان بارتفاع الناطق أو الضاحك فإذا كانت الصفة الزائدة على المشروع على هذه النسبة صار المجموع منهما غير مشروع فارتفع اعتبار المشروع الأصلي
ومن أمثلة ذلك أيضا قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد فإن تلك الهيئة زائدة على مشروعية القراءة وكذلك الجهر الذي اعتاده أرباب الزوايا وربما لطف اعتبار الصفة فيشك في بطلان المشروعية كما وقع في العتبية عن مالك في مسألة الاعتماد في الصلاة لا يحرك رجليه وأن أول من أحدثه رجل قد عرف ـ قال ـ وقد كان مساء ( أي يساء الثناء عليه ) فقيل له : أفعيب ؟ قال : قد عيب عليه ذلك وهذا مكروه من الفعل ولم يذكر فيها أن الصلاة باطلة وذلك لضعف وصف الاعتماد أن يؤثر في الصلاة ولطفه بالنسبة إلى كمال هيئتها وهكذا ينبغي أن يكون النظر في المسألة بالنسبة إلى اتصاف العمل بما يؤثر فيه أو لا يؤثر فيه فإذا غلب الوصف على العمل كان أقرب إلى الفساد وإذا لم يغلب لم يكن أقرب وبقي في حكم النظر فيدخل ها هنا نظر الاحتياط للعبادة إذا صار العمل في الاعتبار من المتشابهات
واعلموا أنه حيث قلنا : إن العمل الزائد على المشروع يصير وصفا لها أو كالوصف فإنما يعتبر بأحد أمور ثلاثة : إما القصد وإما بالعادة وإما بالشرع أو النقصان
أما بالعادة فكالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان فإن بينه وبين الذكر المشروع بونا بعيدا إذ هما كالمتضادين عادة وكالذي حكى ابن وضاح عن الأعمش عن بعض أصحابه قال : مر عبد الله برجل يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول : سبحوا عشرا وهللوا عشرا : فقال عبد الله : إنكم لأهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم أو أضل بل هذه ( يعني أضل ) وفي رواية عنه أن رجلا كان يجمع الناس فيقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله ـ قال ـ فيقول القوم ويقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله ـ قال ـ فيقول القوم ـ قال ـ فمر بهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال لهم : هديتم لما لم يهد نبيكم ! وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة
وذكر له أن ناسا بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم بين يديه كوما من حصى ـ قال ـ فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد ويقول : لقد أحدثتم بدعة وظلما وقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم علما ؟ فهذه أمور أخرجت الذكر المشروع كالذي تقدم من النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة أوالصلوات المفروضة إذا صليت قبل أوقاتها فإنا قد فهمنا من الشرع القصد إلى النهي عنها والمنهي عنه لا يكون متعبدا به وكذلك صيام يوم العيد
وخرج ابن وضاح من حديث أبان بن أبي عباس قال : لقيت طلحة بن عبيد الله الخزاعي فقلت له : قوم من إخوانك من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد من المسلمين يجتمعون في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوما ويجتمعون يوم النيروز والمهرجان ويصومونها فقال طلحة : بدعة من أشد البدع والله لهم أشد تعظيما للنيروز والمهرجان من عبادتهم ثم استيقظ أنس بن مالك رضي الله عنه فرقيت إليه وسألته كما سألت طلحة فرد علي مثل قول طلحة كأنهما كان على ميعاد فجعل صوم تلك الأيام من تعظيم ما تعظمه المجوس وذاك القصد لو كان أفسد للعبادة فكذلك ما كان نحوه
وعن يونس بن عبيد أن رجلا قال للـ حسن : يا أبا سعيد ! ما ترى في مجلسنا هذا ؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمع في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوما فنقرأ كتاب الله وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين ؟ قال : فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي
والنقل في هذا المعنى كثير فلو لم يبلغ العمل الزائد ذلك المبلغ كان أخف وانفرد العمل بحكمه والعمل المشروع بحكمه كما حكى ابن وضاح عن عبد الرحمن أبي بكرة قال : كنت جالسا عند الأسود بن سريع وكان مجلسه في مؤخر المسجد الجامع فافتتح سورة بني إسرائيل حتى بلغ : ( وكبره تكبيرا ) فرفع أصواتهم الذين كانوا حوله جلوسا فجاء مجالد بن مسعود متوكئا على عصاه فلما رآه القوم قالوا : مرحبا اجلس قال : ما كنت لأجلس إليكم وإن كان مجلسكم حسنا ولكنكم صنعتم قبلي شيئا أنكره المسلمون فإياكم وما أنكر المسلمون فتحسينه المجلس كان لقراءة القرآن وأما رفع الصوت فكان خارجا عن ذلك فلم ينضم إلى العمل الحسن حتى إذا انضم إليه صار المجموع غير مشروع
ويشبه هذا ما في سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون جميعا فيقرؤون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية فكره ذلك وأنكر أن يكون من عمل الناس
وسئل ابن القاسم أيضا عن نحو ذلك فحكى الكراهية عن مالك ونهى عنها ورآها بدعة
وقال في رواية أخرى عن مالك : وسئل عن القراءة بالمسجد فقال : لم يكن بالأمر القديم وإنما هو شيء أحدث ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها والقرآن حسن
قال ابن رشد : يريد التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كله ما يجامع قرطبة إثر صلاة الصبح ( قال ) : فرأى ذلك بدعة
فقوله في الرواية : والقرآن حسن يحتمل أن يقال : إنه يعني أن تلك الزيادة من الاجتماع وجعله في المسجد منفصل لا يقدح في حسن قراءة القرآن ويحتمل ـ وهو الظاهر ـ أنه يقول : قراءة حسن على غير ذلك الوجه بدليل قوله في موضع آخر : ما يعجبني أن يقرأ القرآن إلا في الصلاة والمساجد لا في الأسواق والطرق فيريد أنه لا يقرأ إلا على النحو الذي يقرؤه السلف وذلك يدل على أن قراءة الإدارة مكروهة عنده فلا تفعل أصلا وتحرز بقوله : والقرآن حسن من توهم أنه يكره قراءة القرآن مطلقا فلا يكون في كلام مالك دليل على انفكاك الاجتماع من القراءة والله أعلم
فصل وأما القسم الثالث : وهو أن يصير الوصف عرضة وأما القسم الثالث : وهو أن يصير الوصف عرضة لأن ينضم إلى العبادة حتى يعتقد فيه أنه من أوصافها أوجزء منها فهذا القسم ينظر فيه من جهة النهي عن الذرائع وهو إن كان في الجملة متفقا عليه ففيه في التفصيل نزاع بين العلماء إذ ليس كل ما هو ذريعة إلى ممنوع يمنع بدليل الخلاف الواقع في بيوع الآجال وما كان نحوها غير أن أبا بكر الطرطوشي يحكي الاتفاق في هذا النوع استقراء من مسائل وقعت للعلماء منعوها سدا للذريعة وإذا ثبت الخلاف في بعض التفاصيل لم ينكر أن يقول به قائل في بعض ما نحن فيه ولنمثله أولا ثم نتكلم حكمه بحول الله
فمن ذلك
ما جاء في حديث من : نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين ووجه ذلك عند العلماء مخافة أن يعد ذلك من جملة رمضان
ومنه ما ثبت عن عثمان رضي الله عنه أنه كان لا يقصر في السفر فيقال له : ألست قصرت مع النبي صلى الله عليه و سلم ؟ فيقول : بلى ! ولكني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقول : هكذا فرضت فالقصر في السفر سنة أو واجب ومع ذلك تركه خوف أن يتذرع به لأمر حادث في الدين غير مشروع
ومنه قصة عمر رضي الله عنه في غسله من الاحتلام حتى أسفر وقوله لمن راجعه في ذلك وأن يأخذ من أثوابهم ما يصلي به ثم يغسل ثوبه على السعة : لو فعلته لكانت سنة بل أغسل ما رأيت وأنصح ما لم أر
وقال حذيفة بن أسيد : شهدت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وكانا لا يضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة
ونحو ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إني لأترك أضحيتي ـ وإني لمن أيسركم ـ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة
وكثير من هذا عن السلف الصالح
وقد كره مالك إتباع رمضان بست من شوال وواقفه أبو حنيفة فقال : لا أستحبها مع ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح وأخبر مالك عن غيره ممن يقتدى به أنهم كانوا لا يصومونها ويخافون بدعتها
ومنه ما تقدم في اتباع الآثار كمجيء قبا ونحو ذلك
وبالجملة فكل عمل أصله ثابت شرعا إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة فتركه مطلوب في الجملة أيضا من باب سد الذرائع ولذلك كره مالك دعاء التوجه بعد الإحرام وقبل القراءة وكره غسل اليد قبل الطعام وأنكر على من جعل ثوبه في المسجد أمامه في الصف
ولنرجع إلى ما كنا فيه فاعلموا أنه إن ذهب مجتهد إلى عدم سد الذريعة في غير محل النص مما يتضمنه هذا الباب فلا شك أن العمل الواقع عنده مشروع ويكون لصاحبه أجره ومن ذهب إلى سدها ـ ويظهر ذلك من كثير من السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم ـ فلا شك أن ذلك العمل ممنوع ومنعه يقتضي بظاهره أنه ملوم عليه وموجب للذم إلا أن يذهب إلى أن النهي فيه راجع إلى أمر مجاور فهو محل نظر واشتباه ربما يتوهم فيه انفكاك الأمرين بحيث يصح أن يكون العمل مأمورا به من جهة نفسه ومنهيا عنه من جهة مآله ولنا فيه مسلكان :
أحدهما : التمسك بمجرد النهي في أصل المسألة كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا } وقوله تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } وفي الحديث أنه عليه الصلاة و السلام :
[ نهى عن أن يجمع بين المتفرق ويفرق المجتمع خشية الصدقة ]
و [ نهى عن بيع السلف ] وعلله العلماء بالربا المتذرع إليه في ضمن السلف ونهى عن الخلوة بالأجنبيات وعن سفر المرأة مع غير ذي محرم وأمر النساء بالاحتجاب عن أبصار الرجال والرجال بغض الابصار إلى أشباه ذلك مما عللوا الأمر فيه والنهي بالتذرع لا بغيره
والنهي أصله أن يقع على المنهي عنه وإن كان معللا وصرفه إلى أمر مجاور خلاف أصل الدليل فلا يعدل عن الأصل إلا بدليل فكل عبادة نهى عنها فليست بعبادة إذ لو كانت عبادة لم ينه عنها فالعامل بها عامل بغير مشروع فإذا اعتقد فيها التعبد مع هذا النهي كان مبتدعا بها
لا يقال : إن نفس التعليل يشعر بالمجاورة وإن الذي نهي عنه غير الذي أمربه وانفكاكهما متصور لأنا نقول : قد تقرر أن المجاور إذا صار كالوصف اللازم انتهض النهي عن الجملة لا عن نفس الوصف بانفراده وهو مبين في القسم الثاني
المسلك الثاني : ما دل في بعض مسائل الذرائع على أن الذرائع في الحكم بمنزلة المتذرع إليه ومنه ما ثبت في الصحيح من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه قالوا : يا رسول الله ! وهل يسب الرجل والديه ؟ قال : نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه وأمه ] فجعل سب الرجل لوالدي غيره بمنزلة سبه لوالديه نفسه حتى ترجمه عنها بقوله : [ أن يسب الرجل والديه ] ولم يقل : أن يسب الرجل والديه أو نحو ذلك وهو غاية معنى ما نحن فيه
ومثله حديث عائشة رضي الله عنها مع أم ولد زيد بن أرقم رضي الله عنه وقولها : أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لم يبت وإنما يكون هذا الوعيد فيمن فعل ما لا يحل له لا مما فعله كبيرة حتى ترغب آخرا بالآية : { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف }
وهي نازلة في غير العمل بالربا فعدت العمل بما يتذرع به إلى الربا بمنزلة العمل بالربا مع أنا نقطع أن زيد بن أرقم وأم ولده لم يقصدوا قصد الربا كما لا يمكن ذا عقل أن يقصد والديه بالسب
وإذا ثبت هذا المعنى في بعض الذرائع ثبت في الجميع إذ لا فرق فيما لم يدع مما لم ينص عليه إلا ألزم الخصم مثله في المنصوص عليه فلا عبادة أو مباحا يتصور فيه أن يكون ذريعة إلى غير جائز إلا وهو غير عبادة ولا مباح
لكن هذا القسم إنما يكون النهي بحسب ما يصير وسيلة إليه في مراتب النهي إن كانت البدعة من قبيل الكبائر فالوسيلة كذلك أو من قبيل الصغائر فهي كذلك والكلام في هذه المسألة يتسع ولكن هذه الإشارة كافية فيها وبالله التوفيق
الباب السادس في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة
اعلم أنا إذا بنينا على أن البدع منقسمة إلى الأحكام الخمسة فلا إشكال في اختلاف رتبتها لأن النهي من جهة انقسامه إلى نهي الكراهية ونهي التحريم يستلزم أن أحدهما أشد في النهي من الآخر فإذا انضم إليهما قسم الإباحة ظهر الاختلاف في الأقسام فإذا اجتمع إليها قسم الندب وقسم الوجوب كان الاختلاف فيها أوضح ـ وقد مر من أمثلتها أشياء كثيرة ـ لكنا لا نبسط القول في هذا التقسيم ولا بيان بالأشد والأضعف لأنه إما أن يكون حقيقيا فالكلام فيه عناء وإن كان غير حقيقي فقد تقدم أنه غير صحيح فلا فائدة في التفريع على ما لا يصح وإن عرض في ذلك نظر أو تفريع فإنما يذكر بحكم التبع بحول الله
فإذا خرج عن هذا التقسيم ثلاثة أقسام : قسم الوجوب وقسم الندب وقسم الإباحة انحصر النظر فيما بقي وهو الذي ثبت من التقسيم غير أنه ورد النهي عنها على وجه واحد ونسبته إلى الضلالة واحدة في قوله :
[ إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ] وهذا عام في كل بدعة فيقع السؤال : هل لها حكم واحد أم لا ؟ فنقول : ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة تخرج عنها الثلاثة فيبقى حكم الكراهية وحكم التحريم فاقتضى النظر انقسام البدع إلى القسمين فمنها بدعة محرمة ومنها بدعة مكروهة وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات وهي لا تعدو الكراهة والتحريم فالبدع كذلك هذا وجه
ووجه ثان : أن البدع إذا تؤمل معقولها وجدت رتبتها متفاوتة فمنها ما هو كفر صراح كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن كقوله تعالى : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } وقوله تعالى : { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } وقوله تعالى : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الذين ذريعة لحفظ النفس والمال وما أشبه ذلك مما يشك أنه كفر صراح
ومنها ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف هل هي كفر أم لا ! كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة
ومنها ما هو مكروه كما يقول مالك في اتباع رمضان بست من شوال وقراءة القرآن بالإدارة والإجتماع للدعاء عشية عرفة وذكر السلاطين في خطبة الجمعة ـ على ما قاله ابن عبد السلام الشافعي ـ وما أشبه ذلك
فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة فلا يصح مع هذا أن يقال : إنها على حكم واحد هو الكراهة فقط أو التحريم فقط
ووجه ثالث : إن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات فإن كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر وإن وقعت في التحسينات فهي أدنى رتبة بلا إشكال وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين
ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل ولا يمكن في المكمل أن يكون في رتبة المكمل فإن المكمل مع المكمل في نسبة الوسيلة مع المقصد ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد فقد ظهر تفاوت رتب المعاصي والمخالفات
وأيضا فإن من الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه فليست مرتبة النفس كمرتبة الدين وليس تستصغر حرمة النفس في جنب حرمة الدين فيبيح الكفر الدم والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين
ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص ؟ فالقتل بخلاف العقل والمال وكذلك سائر ما بقي وإذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب فليس قطع العضو كالذبح ولا الخدش كقطع العضو وهذا كله محل بيانه الأصول
فصل وإذا كان كذلك : فالبدع من جملة المعاصي وإذا كان كذلك : فالبدع من جملة المعاصي وقد ثبت التفاوت في المعاصي فكذلك يتصور مثله في البدع فمنها ما يقع في الضروريات ( أي أنه إخلال بها ) ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات ومنها ما يقع في رتبة التحسينيات وما يقع في رتبة الضروريات منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل أو العقل أو المال
فمثال وقوعه في الدين ما تقدم من اختراع الكفار وتغييرهم ملة إبراهيم عليه السلام من نحو قوله تعالى : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } فروي عن المفسرين فيها أقوال كثيرة وفيها عن ابن المسيب أن البحيرة من الإبل هي التي يمنح درها للطواغيت والسائبة هي التي يسيبونها لطواغيتهم والوصيلة هي الناقة تبكر بالأنثى ثم تثنى بالأنثى يقولون : وصلت انثيين ليس بينهما ذكر فيجدعونها لطواغيتهم والحامي هو الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدودة فإذا بلغ ذلك قالوا : حمي ظهره فيترك فيسمونه الحامي
وروى إسماعيل القاضي عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ إني لأعرف أول من سيب السوائب وأول من غير عهد إبراهيم عليه السلام قال قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : عمرو بن لحي أبو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي ريحه أهل النار وإني لأعرف أول من بحر البحائر قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال رجل من بني مدلج وكانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانهما ثم شرب ألبانهما بعد ذلك فلقد رأيته في النار هو وهما يعضانه بأفواههما ويخبطانه بأخفافهما ]
وحاصل ما في هذه الآية تحريم ما أحل الله على نية التقرب به إليه مع كونه حلالا بحكم الشريعة المتقدمة ولقد هم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يحرموا على أنفسهم ما أحل الله وإنما كان قصدهم بذلك الانقطاع إلى الله عن الدنيا وأسبابها وشواغلها فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين }
فصل ومثال ما يقع في النفس ما ذكر في نحل الهند في تعذيبها أنفسها ومثال ما يقع في النفس ما ذكر من نحل الهند في تعذيبها أنفسها بأنواع العذاب الشنيع والتمثيل والقتل بالأصناف التي تفزع منها القلوب وتقشعر منها الجلود كل ذلك على جهة استعجال الموت لنيل الدرجات العلى ـ في زعمهم ـ والفوز بالنعيم الأكمل بعد الخروج عن هذه الدار العاجلة ومبني على أصول لهم فاسدة اعتقدوها وبنوا عليها أعمالهم
حكى المسعودي وغيره من ذلك أشياء فطالعها من هنالك وقد وقع القتل في العرب الجاهلية ولكن على غير هذه الجهة وهو قتل الأولاد لشيئين : أحدهما خوف الإملاق والآخر دفع العار الذي كان لاحقا لهم بولادة الإناث حتى أنزل الله في ذلك قوله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } وقوله تعالى : { وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت } وقوله : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا } الآية
وهذا القتل محتمل أن يكون دينا وشرعة ابتدعوها ويحتمل أن يكون عادة تعودوها بحيث لم يتخذوها شرعة إلا أن الله تعالى ذمهم عليها فلا يحكم عليها بالبدعة بل لمجرد المعصية فنظرنا هل نجد لأحد المحتملين عاضدا يكون هو الأولى في حمل الآيات عليه ؟ فوجدنا قوله سبحانه وتعالى : { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم } فإن الآية صرحت أن لهذا التزين سببين : أحدهما الإرداء وهو الإهلاك والآخر ليس الدين وهو قوله : { وليلبسوا عليهم دينهم } ولا يكون ذلك إلا بتغيره وتبديله أو الزيادة فيه أو النقصان منه وهو الابتداع بلا إشكال وإنما كان دينهم أولا دين أبيهم ( إبراهيم ) فصار ذلك من جملة ما بدلوا فيه كالبحيرة والسائبة ونصب الأصنام وغيرها حتى عد من جملة دينهم الذي يدينون به
ويعضده قوله تعالى بعد : { فذرهم وما يفترون } فنسبهم إلى الافتراء ـ كما ترى ـ والعصيان من حيث هو عصيان لا يكون افتراء وإنما يقع الافتراء في نفس التشريع في أن هذا القتل من جملة ما جاء من الدين ولذلك قال تعالى على إثر ذلك : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا } فجعل قتل الأولاد مع تحريم ما أحل الله من جملة الافتراء ثم ختم بقوله : ( قد ضلوا ) وهذه خاصية البدعة ـ كما تقدم ـ فإذا ما فعلت الهند نحو مما فعلت الجاهلية وسيأتي مذهب المهدي المغربي في شرعية القتل
على أن بعض المفسرين قال في قوله تعالى : { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } أنه قتل الأولاد على جهة النذر والتقرب به إلى الله كما فعل عبد المطلب في ابنه عبد الله أبي النبي صلى الله عليه و سلم
وهذا القتل قد يشكل إذ يقال لعل ذلك من جملة ما اقتدوا فيه بأبيهم إبراهيم عليه السلام لأن الله أمره بذبح ابنه فلا يكون ذلك اختراعا وافتراء لرجوعها إلى أصل صحيح وهو عمل أبيهم عليه السلام وإن صح هذا القول وتؤول فعل إبراهيم عليه السلام على أنه لم يكن شريعة لمن بعده من طريته فوجه اختراعه دينا ظاهر لا سيما عند عروض شبهة الذبح وهو شأن أهل البدع إذ لا بد لهم من شبهة يتعلقون بها ـ كما تقدم التنبيه عليه
وكون ما تفعل أهل الهند من هذا القبيل ظاهر جدا
ويجري مجرى إتلاف النفس إتلاف بعضها كقطع عضو من الأعضاء أو تعطيل منفعة من منافعه بقصد التقرب إلى الله بذلك فهو من جملة البدع وعليه يدل الحديث حيث قال :
رد رسول الله صلى الله عليه و سلم التبتل على عثمان بن مظعون ولو أذن له لاختصينا فالخصاء بقصد التبتل وترك الاشتغال بملابسة النساء واكتساب الأهل والولد مردود مذموم وصاحبه معتد غير محبوب عند الله حسبما نبه قوله تعالى : { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } وكذلك فقىء العين لئلا ينظر إلى ما لا يحل له
=====================ج333333333333......................
ج444444..
الكتاب : الاعتصام
المؤلف : الشاطبي
المسألة الحادية عشرة اتباع الأمة سنن من قبلها فإن الحديث الصحيح قال :
[ لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذارع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم ـ قلنا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟ ـ قال فمن ؟ ] زيادة إلى حديث الترمذي الغريب فدل ضرب المثال في التعيين على أن الاتباع في أعيان أفعالهم
وفي الصحيح [ عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم : الله أكبر كما قالت بنو إسرائيل { إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون } لتركبن سنن من كان قبلكم ] وصار حديث الفرق بهذا التفسير صادقا على أمثال البدع التي تقدمت لليهود والنصارى وأن هذه الأمة تبتدع في دين الله مثل تلك البدع وتزيد عليها ببدعة لم تتقدمها واحدة من الطائفتين ولكن هذه البدعة الزائدة إنما تعرف بعد معرفة البدع الأخر وقد مر أن ذلك لا يعرف أو لا يسوغ التعريف به وإن عرف فكذلك لا تتعين البدعة الزائدة والله أعلم
وفي الحديث أيضا عن أي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع فقال رجل : يا رسول الله ! كما فعلت فارس والروم ؟ قال : وهل الناس إلا أولئك ] وهو بمعنى الأول إلا أنه ليس فيه ضرب مثل فقوله : [ حتى تأخذ أمتي أخذ القرون من قبلها ] يدل على أنها تأخذ بمثل ما أخذوا به إلا أنه لا يتعين في الاتباع لهم أعيان بدعهم بل قد تتبعها في أعيانها وتتبعها في أشباهها فالذي يدل على الأول قوله : [ لتتبعن سنن من كان قبلكم ] الحديث فإنه قال فيه : [ حتى لو دخلوا في جحر ضب خرب لاتبعتموهم ]
والذي يدل على الثاني قوله : [ فقلنا يا رسول الله : اجعل لنا ذات أنواط فقال عليه السلام : هذا كما قالت بنو إسرائيل : { إسرائيل البحر فأتوا } ] الحديث فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله لا أنه هو بنفسه فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه والله أعلم
المسألة الثانية عشرة كفر الفرق وفسقها ونفوذ الوعيد أو جعله في المشيئة أنه عليه الصلاة و السلام أخبر أنها كلها في النار وهذا وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت كل واحدة منها معصية كبيرة أو ذنبا عظيما إذ قدر تقرر في الأصول أن ما يتوعد الشر عليه فخصوصيته كبرة إذ لم يقل : [ كلها في النار ] إلا من جهة الوصف الذي افترقت بسببه عن السواد الأعظم وعن جماعته وليس ذلك إلا لبدعة مفرقة إلا أنه ينظر في هذا الوعيد هل هو أبدي أم لا ؟ وإذا قلنا : إنه غير أبدي : هل هو نافذ أم في المشيئة
أما المطلب الأول : فينبني على أن بعض البدع مخرجة من الإسلام أو ليست مخرجة والخلاف في الخوارج وغيرهم من المخالفين في العقائد موجود ـ وقد تقدم ذكره قبل هذه ـ فحيث نقول بالتكفير لزم منه تأبيد التحريم على القاعدة إن الكفر والشرك لا يغفره الله سبحانه
يحتمل عدم التكفير أمران أحدهما نفوذ الوعيد وإذا قلنا بعدم التكفير فيحتمل ـ على مذهب أهل السنة ـ أمرين :
أحدهما : نفوذ الوعيد من غير غفران ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث
وقوله هنا : [ كلها في النار ] أي مستقرة ثابتة فيها
والأمر الثاني من احتمال التكفير أن يكون مقيدا بالمشيئة فإن قيل : ليس إنفاذ الوعيد بمذهب أهل السنة قيل : بلى قد قال به طائفة منهم في بعض الكبائر في مشيئة الله تعالى لكن دلهم الدليل في خصوص كبائر على أنها خارجة عن ذلك الحكم ولا بد من ذلك فإن المتبع هو الدليل فكما دلهم على أن أهل الكبائر على الجملة في المشيئة كذلك دلهم على تخصيص ذلك العموم الذي في قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فإن الله تعالى قال : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } فأخبر أولا أن جزاءه جهنم وبالغ في ذلك بقوله تعالى : { خالدا فيها } عبارة عن طول المكث فيها ثم عطف بالغضب ثم بلعنته ثم ختم ذلك بقوله تعالى : { وأعد له عذابا عظيما } والإعداد قبل البلوغ إلى المعد مما يدل على حصوله للمعد له ولأن القتل اجتمع فيه حق لله وحق المخلوق وهو المقتول
قال ابن رشد : ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات إليهم وهذا مما لا سبيل إلى القاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول حيا فيعفو عنه نفسه
وأولى من هذه العبارة أن نقول : ومن شرط خروجه من تباعة القتل مع التوبة استدراك ما فات على المجني عليه : إما ببذل القيمة له وهو أمر لا يمكن بعد فوت المقتول فكذلك لا يمكن في صاحب البدعة من جهة الأدلة فراجع ما تقدم في الباب الثاني تجد فيه كثيرا من التهديد والوعيد المخوف جدا
وانظر في قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } فهذا وعيد ثم قال تعالى : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وتسويد الوجوه علامة الخزي ودخول النار ثم قال تعالى : { أكفرتم بعد إيمانكم } وهو تقريع وتوبيخ ثم قال تعالى : { فذوقوا العذاب } وهو تأكيد آخر
وكل هذا التقرير بناء على أن المراد بالآيات أهل القبلة من أهل البدع
لأن المبتدع إذا اتبع في بدعته لم يمكنه التلافي ـ غالباـ فيها ولم يزل أثرها في الأرض يستطيل إلى قيام الساعة وذلك كله بسببه فهي أدهى من قتل النفس
قال مالك رحمة الله عليه : إن العبد لو ارتكب جميع الكبائر بعد أن لا يشرك بالله شيئا وجبت له ارفع المنازل لأن كل ذنب بين العبد وربه هو منه على رجاء وصاحب البدعة ليس هو منها على رجاء إنما يهوى به في نار جهنم فهذا منه نص في إنفاذ الوعيد
والثاني : أن يكون مقيدا بأن يشاء الله تعالى إصلاءهم في النار وإنما حمل قوله : [ كلها في النار ] أي هي ممن يستحق النار كما قالت الطائفة الأخرى في قوله تعالى : { فجزاؤه جهنم خالدا فيها } أي ذلك جزاؤه إن لم يعف الله عنه فإن عفا عنه فله العفو إن شاء الله لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فكما ذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة وإن لم يكن الاستدراك كذلك يصح أن يقال هنا بمثله
المسألة الثالثة عشرة إن قوله عليه الصلاة و السلام : إلا واحدة قد أعطى بنصه إن قوله عليه الصلاة و السلام : إلا واحدة قد أعطى بنصه إن قوله عليه الصلاة و السلام : إلا واحدة قد أعطى بنصه قوله أن الحق واحد لا يختلف
إن قوله عليه الصلاة و السلام : [ إلا واحدة ] قد أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف إذ لو كان للحق فرق أيضا لم يقل [ إلا واحدة ] ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق لأنها الحاكمة بين المختلفين لقوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } إذ رد التنازع إلى الشريعة فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة وقوله : { في شيء } نكرة في سياق الشرط فهي صيغة من صيغ العموم فتنتظم كل تنازع على العموم فالرد فيها لا يكون إلا لأمر واحد فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقا وقال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } وهو نص فيما نحن فيه فإن السبيل الواحد لا يقتضي الافتراق بخلاف السبل المختلفة
فإن قيل : فقد تقدم في المسألة العاشرة في حديث ابن مسعود :
[ واختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها ] إلى آخر الحديث فلو لزم ما قلت لم يجعل أولئك الفرق ثلاثا وكانوا فرقة واحدة وحين بينوا ظهر كلهم على الحق والصواب فكذلك يجوز أن تكون الفرق في هذه الأمة لولا أن الحديث أخبر أن الناجية واحدة
فالجواب أولا : أن ذلك الحديث لم نشترط الصحة في نقله إذ لم نجده في الكتب التي لدينا المشترط فيها الصحة
وثانيا : أن تلك الفرق إن عدت هنا ثلاثا فإنما عدت هناك واحدة لعدم الاختلاف بينهم في أصل الاتباع وإنما الاختلاف في القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عدمها وفي كيفية الأمر والنهي خاصة
فهذه الفرق لا تنافي صحة الجمع بينهما فنحن نعلم أن المخاطبين في ملتنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتب : فمنهم من يقدر على ذلك باليد وهم الملوك والحكام ومن أشبههم ومنهم من يقدر باللسان كالعلماء ومن قام مقامهم ومنهم من لا يقدر إلا بالقلب ـ إما مع البقاء بين ظهرانيهم إذ لم يقدر على الهجرة أو مع الهجرة إن قدر عليها ـ وجميع ذلك خطة واحدة من خصال الإيمان ولذلك جاء في الحديث قوله عليه الصلاة و السلام : [ ليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل ]
فإذا كان كذلك فلا يضرنا عد الناجية في بعض الأحاديث ثلاثا باعتبار وعدها واحدة باعتبار آخر وإنما يبقى النظر في عدها اثنتين وسبعين فتصير بهذا الاعتبار سبعين وهو معارض لما تقدم من جهة الجمع بين فرق هذه الأمة وفرق غيرها مع قوله : [ لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ]
ويمكن أن يكون في الجواب أحد أمرين : إما أن يترك الكلام في هذا رأسا إذا خالف الحديث الصحيح لأنه ثبت فيه [ إحدى وسبعين ] وفي حديث ابن مسعود : [ ثنتين وسبعين ]
وإما أن يتأول أن الثلاثة التي نجت ليست فرقا ثلاثا وإنما هي فرقة واحدة انقمست إلى المراتب الثلاث لأن الرواية الواقعة في تفسير عبد بن حميد هي قوله [ نجا منها ثلاث ] ولم يفسرها بثلاث فرق وإن كان هو ظاهر المساق ولكن قصد الجمع بين الروايات ومعاني الحديث ألجأ إلى ذلك والله أعلم بما أراد رسوله من ذلك
وقوله عليه الصلاة و السلام : [ كلها في النار إلا واحدة ] ظاهر في العموم لأن كلا من صيغ العموم وفسره الحديث الآخر : [ ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة ] وهذا نص لا يحتمل التأويل
المسألة الرابعة عشرة أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة
أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة وإنما تعرض لعدها خاصة وأشار إلى الفرق الناجية حين سئل عنها وإنما وقع ذلك كذلك ولم يكن الأمر بالعكس لأمور :
أحدها : أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف والأحق بالذكر إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذا عينت الواحدة وأيضا لو عينت الفرق كلها إلا هذه الأمة لم يكن بد من بيانها لأن الكلام فيها يقتضي ترك أمور وهي البدع والترك للشيء لا يقتضي فعل شيء آخر لا ضدا ولا خلافا فذكر الواحدة هو المفيد على الإطلاق
أسباب تعيين النبي صلى الله عليه و سلم الفرقة الناجية فقط وهي ثلاثة أحدها أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان والثاني أن ذلك أوجز
والثاني : أن ذلك أوجز لأنه إذا ذكرت نحلة الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناج وحصل التعيين بالاجتهاد بخلاف ما إذا ذكرت الفرق إلا الناجية فإنه يقتضي شرحا كثيرا ولا يقتضي في الفرقة الناجية اجتهاد لأن إثبات العبادات التي تكون مخالفتها بدعا لا حظ للعقل في الاجتهاد فيها
السبب الثاني أنه أحرى بالستر كما تقدم بيانه والثالث : أن ذلك أحرى بالستر كما تقدم بيانه في مسألة الفرق ولو فسرت لناقض ذلك قصد الستر ففسر ما يحتاج إليه وترك ما لا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة فللعقل وراء ذلك مرمى تحت أذيال الستر والحمد لله فبين النبي صلى الله عليه و سلم ذلك بقوله [ ما أنا عليه وأصحابي ] ووقع ذلك جوابا للسؤال الذي سألوه إذ [ قالوا : من هي يا رسول الله ؟ ] فأجاب بأن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه الصلاة و السلام وأوصاف أصحابه وكان ذلك معلوما عندهم غير خفي فاكتفوا به وربما يحتاج إلى تفسير بالنسبة إلى من بعد تلك الأزمان
حال الصحابة وكون الإمام المتبع القرآن وحاصل الأمر أن أصحابه كانوا مقتدين به مهتدين بهديه وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم وأثنى على متبوعهم محمد صلى الله عله وسلم وإنما خلقه صلى الله عليه و سلم القرآن فقال تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة وجاءت السنة مبينة له فالمتبع للسنة متبع للقرآن والصحابة كانوا أولى الناس بذلك فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية الداخلية للجنة بفضل الله وهو معنى قوله عليه الصلاة و السلام : [ ما أنا عليه وأصحابي ]
الكتاب والسنة هما الصراط المستقيم وغيرهما تابع لهما فالكتاب والسنة هو الطريق المستقيم وما سواهما من الإجماع وغيره فناشىء عنهما هذا هو الوصف الذي كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى من قوله : [ وهي الجماعة ] لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف إلا أن في لفظ الجماعة معنى تراه بعد إن شاء الله
إدعاء كل من رضي بلقب الإسلام أنه من الفرقة الناجية ثم إن في هذا التعريف نظرا لا بد الكلام عليه فيه ( ؟ ) وذلك أن كل داخل تحت راية الإسلام من سني أو مبتدع مدع أنه هو الذي نال رتبة النجاة ودخل في غمار تلك الفرقة إذ لا يدعي خلاف ذلك إلا من خلع ربقة الإسلام وانحاز إلى فئة الكفر كاليهود والنصارى وفي معناهم من دخل بظاهره وهو معتقد غيره كالمنافقين وأما من لم يرض لنفسه إلا بوصف الإسلام وقاتل سائر الملل على هذه الملة فلا يمكن أن يرضى لنفسه بأخس مراتبها ـ وهو مدع أحسنها ـ وهو المعلم ( ؟ ) فلو علم المبتدع أنه مبتدع لم يبق على تلك الحالة ولم يصاحب أهلها فضلا عن أن يتخذها دينا يدين به لله وهو أمر مركوز في الفطرة لا يخالف فيه عاقل
تنازع الفرق وتعبير كل منها عن نفسها فإذا كان كذلك فكل فرقة تنازع صاحبتها في فرقة النجاة ألا ترى أن المبتدع آخذ أبدا في تحسين حاليته شرعا وتقبيح حالة غيره ؟ فالظاهر يدعي أنه المبتع للسنة
والغاش ( ؟ ) يدعي أنه الذي فهم الشريعة وصاحب نفي الصفات يدعي أنه الموحد
والقائل باستقلال العبد يدعي أنه صاحب العدل وكذلك سمى المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد
والمشبه يدعي أنه المثبت لذات الباري وصفاته لأن نفي التشبيه عنده نفي محض وهو العدم
وكذلك كل طائفة من الطوائف التي ثبت لها اتباع الشريعة أو لم يثبت لها
وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو الشنية على الخصوص فكل طائفة تتعلق بذلك أيضا
فالخوارج تحتج بقوله عليه الصلاة و السلام : [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله ] وفي رواية :
[ لا يضرهم خلاف من خالفهم ومن قتل منهم دون ماله فهو شهيد ]
والقاعدة يحتج بقوله :
[ عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ] وقوله : [ كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ]
والمرجئي يتحج بقوله : [ من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق ]
والمخالف له محتج بقوله : [ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ]
والقدري يحتج بقوله تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وبحديث : [ كل مولود يولد على الفطرة ] الحديث
والمفوض يحتج بقوله تعالى : { ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها } وبحديث : [ اعملوا فكل ميسر لما خلق له ]
والرافضة تحتج قوله عليه الصلاة و السلام : [ ليردن الحوض أقوام ثم ليتخلفن دوني فأقول : يا رب أصحابي ! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ثم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ] ويحتجون في تقديم علي رضي الله عنه ك بـ : [ أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ] و : [ من كنت مولاه فعلي مولاه ] ومخالفوهم يحتجون في تقديم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بقوله : [ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ويأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ] إلى أشباه ذلك مما يرجع إلى معناه
والجمع محومون ـ في زعمهم ـ على الانتظام في سلك الفرقة الناجية وإذا كان كذلك أشكل على المبتدع في النظر ما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه ولا يمكن أن يكون مذهبهم مقتضى هذه الظواهر فإنها متدافعة متناقضة وإنما يمكن الجمع فيها إذا جعل بعضها أصلا فيرد الآخر إلى ذلك الأصل بالتأويل
وكذلك فعل كل واحدة من تلك الفرق تستمسك ببعض تلك الأدلة وترد ما سواها إليها أو تهمل اعتبارها بالترجيح إن كان الموضع من الظنيات التي يسوغ فيها الترجيح أو تدعي أن أصلها الذي ترجع إليه قطعي والمعارض له ظني فلا يتعارضان
وإنما كانت طريقة الصحابة ظاهرة في الأزمنة المتقدمة أما وقد استقرت مآخذ الخلاف فمحال وهذا الموضع مما يتضمنه قول الله تعالى : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم }
فتأملوا ـ رحمكم الله ـ كيف صار الاتفاق محالا في العادة ليصدق العقل بصحة ما أخبر الله به
والحاصل أن تعيين هذه الفرقة الناجية في مثل زماننا صعب ومع ذلك فلا بد من النظر فيه وهو نكتة هذا الكتاب فليقع به فضل اعتناء ما هيأه الله وبالله التوفيق
ولما كان ذلك يقتضي كلاما كثيرا أرجأنا القول فيه إلى باب آخر وذكره فيه على حدته إذ ليس هذا موضع ذكره والله المستعان
المسألة الخامسة عشرة أنه قال عليه الصلاة و السلام : كلها في النار إلا واحدة فهل يدخل في الهالكة المبتدع في الجزيئات كالمبتدع في الكليات ؟
أنه قال عليه الصلاة و السلام : [ كلها في النار إلا واحدة ] وحتم ذلك وقد تقدم أنه لا يعد من الفرق إلا المخالف في أمر كلي وقاعدة عامة ولم ينتظم الحديث ـ على الخصوص ـ إلا أهل البدع المخالفين للقواعد وأما من ابتدع في الدين لكنه لم يبتدع ما ينقض أمرا كليا أو يخرم أصلا من الشرع عاما فلا دخول له في النص المذكور فينظر في حكمه : هل يلحق بمن ذكر أو لا ؟
والذي يظهر في المسألة أحد أمرين : إما أن نقول : إن الحديث لم يتعرض لتلك الواسطة بلفظ ولا معنى إلا أن ذلك يؤخذ من عموم الأدلة المتقدمة كقوله :
[ كل بدعة ضلالة ] وما أشبه ذلك وإما أن نقول : إن الحديث وإن لم يكن في لفظه دلالة ففي معناه ما يدل على قصده في الجملة وبيانه تعرض لذكر الطرفين الواضحين
أحدهما : طرف السلامة والنجدة من غير داخلة شبهة ولا إلمام بدعة وهو قوله :
[ ما أنا عليه وأصحابي ]
والثاني : طرف الإغراق في البدعة وهو الذي تكون فيه البدعة كلية أو تخرم أصلا كليا جريا على عادة الله في كتابه العزيز لأنه تعالى لما ذكر أهل الخير وأهل الشر ذكر كل فريق منهم بأهلي ما يحمل من خير أو شر ليبقى المؤمن فيها بين الطرفين خائفا راجيا إذ جعل التنبيه بالطرفين الواضحين فإن الخير على مراتب بعضها أعلى من بعض والشر على مراتب بعضها أشد من بعض فإذا ذكر أهل الخير الذين في أعلى الدرجات خاف أهل الخير الذين دونهم أن لا يلحقوا بهم أو رجوا أن يلحقوا بهم وإذا ذكر أهل الشر الذين في أسفل المراتب خاف أهل الشر الذين دونهم أن يلحقوا بهم أو رجوا أن لا يلحقوا بهم
وهذا المعنى معلوم بالاستقراء وذلك الاستقراء ـ إذ تم ـ يدل على قصد الشارع إلى ذلك المعنى ويقويه ما روى سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الرحمن بن ساباط قال : لما بلغ الناس أن أبا بكر يريد أن يستخلف عمرا قالوا : ماذا يقول لربه إذا لقيه ؟ استخلف علينا فظا غليظا ـ ةهة لا يقدر على شيء ـ فكيف لو قدر فبلغ ذلك أبا بكر فقال : أبربي تخوفوني ؟ أقول : استخلفت خير خلقك ثم أرسل إلى عمر فقال إن لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار وعملا بالنهار لا يقبله بالليل واعلم أنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن اعمالهم ! وذلك أنه رد عليهم حسنة فلم يقبل منهم حتى يقول القائل : عملي خير من هذا ألم تر أن الله أنزل الرغبة والرهبة لكي يرغب المؤمن فيعمل ويرهب فلا يلقي بيده إلى التهلكة ؟ ألم تر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وتركهم الباطل فثقل عملهم ؟ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يثقل ألم تر إنما خفت موزاين من خفت موازينه بابتاعهم الباطل وتركهم الحق ؟ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف ـ ثم قال ـ : أما إن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت وأنت لا بد لاقيه وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض غليك من الموت ولا تعجزه
وهذا الحديث وإن لم يكن هنالك ولكن معناه صحيح يشهد له الاستقراء لمن تتبع آيات القرآن الكريم ويشهد لما تقدم من أن هذا المعنى مقصود استشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمثله إذ رأى بعض أصحابه وقد اشترى لحما بدرهم : أين تذهب بكم هذه الآية : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } والآية إنما نزلت في الكفار لقوله تعالى : { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم } الآية إلى أن قال تعالى : { فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } ولم يمنعه رضي الله عنه إنزالها في الكفار من الاستشهاد بها في مواضع اعتبارا بما تقدم وهو أصل شرعي تبين في كتاب الموافقات
فالحاصل أن من عد الفرق من المبتدعة الابتداع الجزئي لا يبلغ مبلغ أهل البدع في الكليات في الذم والتصريح بالوعيد بالنار ولكنهم اشتركوا في المعنى المقتضي للذم والوعيد كما اشترك في اللفظ صاحب اللحم ـ حين تناول بعض الطيبات على وجه فيه كراهية ما في اجتهاد عمر ـ مع من أذهب طيباته في حياته الدنيا من الكفار وإن كان ما بينهما من البون البعيد والقرب والبعد من العارف المذموم بحسب ما يظهر من الأدلة للمجتهد وقد تقدم بسط ذلك في بابه والحمد لله
المسألة السادسة عشرة أن رواية من روى في تفسير الفرق الناجية هي الجماعة محتاجة إلى التفسير
أن رواية من روى في تفسير الفرق الناجية وهي الجماعة محتاجة إلى التفسير لأنه إن كان معناه بينا من جهة تفسير الرواية الأخرى ـ وهي قوله : [ ما أنا عليه وأصحابي ] ـ فمعنى لفظ : الجماعة من حيث المراد به في إطلاق الشرع محتاج إلى التفسير
فقد جاء في أحاديث كثيرة منها الحديث الذي نحن في تفسيره ومنها ما صح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شيئا فمات مات ميتة جاهليلة ]
وصح من حديث [ حذيفة قال : قلت يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ـ قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ ـ قال : نعم وفيه دخن ـ قلت : وما دخنه ؟ قال ـ قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ـ قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال ـ نعم : دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ـ قلت : يا رسول الله ! صفهم لنا قال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ـ قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ـ قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ]
وخرج الترمذي و الطبري [ عن ابن عمر قال : خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية فقال : إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا فقال : أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة لا يخلون رجل بامرأة فإنه لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان الشيطان مع الواحد وهو من الأثنين أبعد ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك هو المؤمن ]
وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار ] وخرج أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ]
وعن عرفجة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ سيكون في أمتي هنيات وهنيات فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ]
فاختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال :
إختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال أحدها : أنها السواد الأعظم
أحدها : إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام وهو الذي يدل عليه كلام أبي غالب : إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق ومن خالفهم مات ميتة جاهلية سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم فهو مخالف للحق
وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصاري وابن مسعود فروى أنه لما قتل عثمان سئل أبو مسعود الأنصاري عن الفتنة فقال : عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه و سلم على ضلالة واصبر حتى تستريح أو يستراح من فاجر وقال : إياك والفرقة فإن الفرقة هي الضلالة وقال ابن مسعود بالسمع والطاعة فإنها حبل الله الذي أمر به ثم قبض يده وقال : إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذين تحبون في الفرقة
وعن الحسين قيل له : أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : أي والذي لا إله إلا هو ما كان الله ليجمع أمة محمد على ضلالة
فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة لم يدخلوا في سوادهم بحال
الثاني أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين والثاني : إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميته جاهلية لأن جماعة الله العلماء جعلهم الله حجة على العالمين وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة و السلام : [ إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة ] وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها وإليها تفزع من النوازل وهي تبع لها فمعنى قوله : [ لن تجتمع أمتي ] لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة
وممن قال بهذا عبد الله بن المبارك و إسحاق بن راهوية وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين فقيل ل عبد الله بن المبارك : من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدي بهم ؟ قال : أبو بكر وعمر ـ فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد ـ فقيل : هؤلاء ماتوا : فمن الأحياء ؟ قال ابو حمزة السكري
وعن المسيب بن رافع قال : كانوا إذ جاءهم شيء من القضاء ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله سموه صوافي الأمراء فجمعوا له أهل العلم فما أجمع رأيهم عليه فهو الحق وعن إسحاق بن راهوية نحو مما قال ابن المبارك
فعلى هذا القول لا مدخل في السؤال لمن ليس بعالم مجتهد لأنه داخل في أهل التقليد فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية ولا يدخل أيضا أحد من المبتدعين لأن العالم أولا لا يبتدع وإنما يبتدع من ادعى لنفسه العلم وليس كذلك ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله وهذا بناء على القول بأن المبتدع لا يعتد به في الإجماع وإن قيل بالاعتداد به فيه ففي غير مسألة التي ابتدع فيها لأنهم في نفس البدعة مخالفون للاجماع : فعلى كل تقدير لا يدخلون في السواد الأعظم رأسا
الثالث أن الجماعة هي الصحابة رضي الله عنهم على الخصوص والثالث : إن الجماعة هي الصحابة على الخصوص فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلا وقد يمكن فيمن سواهم ذلك ألا ترى قوله عليه لاصلاة والسلام : [ ولا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله ] وقوله : [ لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ] فقد أخبر عليه الصلاة و السلام أن من الأزمان أزمانا يجتمعون فيها على ضلالة وكفر قالوا وممن قال بهذا القول عمر بن عبد العزيز فروى ابن وهب عن مالك قال : كان عمر بن عبد العزيز يقول : سن رسول الله صلى الله عليه و سلم وولاه الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيها ! من اهتدى بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خافها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا فقال مالك : فأعجبني عزم عمر على ذلك
فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة و السلام : [ ما أنا عليه وأصحابي ] فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق وبشهادة رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم بذلك خصوصا في قوله : [ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ] واشباهه أو لأنهم المتقلدون لكلام النبوة المهتدون للشريعة الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي من نبيه مشافهة على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال بخلاف غيرهم : فإذا كل ما سنوه فهو سنة من غير نظير فيه بخلاف غيرهم فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا للنظر ردا وقبولا فأهل البدع إذا غير داخلين في الجماعة قطعا على هذا القول
الرابع أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام والرابع : إن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم وهم الذين ضمن لنبيه عليه الصلاة و السلام أن لا يجمعهم على ضلالة فإن وقع بينهم اختلاف فواجب تعرف الصواب فيما اختلفوا فيه
قال الشافعي : الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ولا سنة ولا قياس وإنما تكون الغفلة في الفرقة
وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لا بد من كون المجتهدين فيهم وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلا فهم ـ إذا ـ الفرقة الناجية
الخامس ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير
والخامس : ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير فأمر عليه الصلاة و السلام بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم لأن فراقهم لا يعدو إحدى حالتين إما للنكير عليهم في طاعة أميرهم والطعن عليه في سيرته المرضية لغير موجب بل بالتأويل في إحداث بدعة في
الدين كالحرورية التي أمرت الأمة بقتالها وسماها النبي صلى الله عليه و سلم مارقة من الدين وإما لطلب إمارة من انعقاد البيعة لأمير الجماعة فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه
وقد قال صلى الله عليه و سلم : [ من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنا من كان ] قال الطبري : فهذا معنى الأمر بلزوم الجماعة
قال : وأما الجماعة التي إذا اجتمعت على الرضى بتقديم أمير كان المفارق لها ميتا ميتة جاهلية فهي الجماعة التي وصفها أبو مسعود الأنصاري وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين وغيرهم وهم السواد الأعظم
قال : وقد بين ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فروي عن عمر بن ميمون الأودي قال : قال عمر حين طعن لصهيب : صل بالناس ثلاثا وليدخل علي عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وليدخل ابن عمر في جانب البيت وليس له من الأمر شيء فقم يا صهيب على رؤوسهم بالسيف فإن بايع خمسة ونكص واحد فاجلد راسه بالسيف وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رأسيهما حتى يستوثقوا على رجل
قال : فالجماعة التي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقا لها نظير الجماعة الي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه وأمر صهيبا بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف فهم في معنى كثرة العدد المجتمع على بيعته وقلة العدد المنفرد عنهم
قال : وأما الخبر الذي ذكر فيه أن لا تجتمع الأمة على ضلالة فمعناه أن لا يجمعهم على إضلال الحق فيما نابهم من أمر دينهم حتى يضل جميعهم عن العلم ويخطئوه وذلك لا يكون في الأمة
هذا تمام كلامه وهو منقول بالمعنى و تحر في أكثر اللفظ
وحاصله : أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكور في الأحاديث المذكورة كالخوارج ومن جرى مجراهم
فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع وأنهم المرادون بالأحاديث فلنأخذ ذلك أصلا ويبني عليه معنى آخر وهي :
المسألة السابعة عشرة أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا
وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا فإن لم يضموا إليهم فلا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم فمن شذ عنهم فمات فميتته جاهلية وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة فلا بد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء فإنهم لو تمالأوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم لكانوا هو الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر لقلة العلماء وكثرة الجهال فلا يقول أحد : إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب وإن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث بل الأمر بالعكس وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا والعوام هو المفارقون للجماعة إن خالفوا فإن وافقوا فهو الواجب عليهم
ومن هنا لما سئل ابن المبارك عن الجماعة الذين يقتدى بهم أجاب بأن قال : ابو بكر وعمر ـ قال ـ فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد قيل : فهؤلاء ماتوا ! فمن الأحياء ؟ قال : أبو حمزة السكري وهو محمد بن ميمون المروزي فلا يمكن أن يعتبر العوام في هذه المعاني بإطلاق وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يمكن اتباع العوام لأمثالهم ولا عد سوادهم أنه السواد الأعظم المنبه عليه في الحديث الذي من خالفه فميتته جاهلية بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهد
وأيضا فاتباع نظر من لا نظر له واجتهاد من لا اجتهاد له محض ضلالة ورمي في عماية وهو مقتضى الحديث الصحيح :
[ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ] الحديث
روى أبو نعيم عن محمد بن القاسم الطوسي قال : سمعت إسحاق بن راهوية وذكر في حديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة فإذا رأيتم الإختلاف فعليكم بالسواد الأعظم ] فقال رجل يا ابا يعقوب ! من السواد الأعظم ؟ فقال محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم ثم قال : سأل رجل ابن المبارك : من السواد الأعظم ؟ قال : أبو حمزة السكري ثم قال إسحاق : في ذلك الزمان ( يعني أبا حمزة ) وفي زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه ثم قال إسحاق : لو سألت الجهال عن السواد الأعظم لقالوا : جماعة الناس ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه و سلم وطريقه فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة ثم قال إسحاق : لم أسمع عالما منذ خمسين سنة كان أشد تمسكا بأثر النبي صلى الله عليه و سلم من محمد بن أسلم
فانظر في حكايته تتبين غلط من ظن أن الجماعة هي جماعة الناس وإن لم يكن فيهم عالم وهو وهم العوام لا فهم العلماء فليثبت الموفق في هذه المزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل ولا توفيق إلا بالله
المسألة الثامنة عشرة في بيان معنى قوله صلى الله عليه و سلم : وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء ما يتجارى الكلب بصاحبه
في بيان معنى رواية أبي داود وهي قوله عليه الصلاة و السلام : [ وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ]
وذلك أن معنى هذه الرواية أنه عليه الصلاة و السلام أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء وهو جريان لا يقبل العلاج ولا ينفع فيه الدواء فكذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه وأشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه واعتبر ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء كمعبد الجهني وعمرو بن عبيد وسواهما فإنهم كانوا حيث لقوا مطرودين من كل جهة محجوبين عن كل لسان مبعدين عند كل مسلم ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تماديا على ضلالهم ومداومة على ما هم عليه { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا }
وحاصل ما عولوا عليه تحكيم العقول مجردة فشركوها مع الشرع في التحسين والتقبيح ثم قصروا أفعال الله على ما ظهر لهم ووجهوا عليها أحكام العقل فقالوا : يجب على الله كذا ولا يجوز أن يفعل كذا فجعلوه محكوما عليه كسائر المكلفين ومنهم من لم يبلغ هذا المقدار بل استحسن شيئا يفعله واستقبح آخر وألحقها بالمشروعات ولكن الجميع بقوا على تحكيم العقول ولو وقفوا هنالك لكانت الداهية على عظمتها أيسر ولكنهم تجاوزوا هذه الحدود كلها إلى أن نصبوا المحاربة لله ورسوله باعتراضهم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم وادعائهم عليهما من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول وفساد النظم ما هم له أهل
قال العتبي : وقد اعترض على كتاب الله تعالى بالطعن ملحدون ولغوا وهجروا واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله بأفهام كليلة وأبصار عليلة ونظر مدخول فحرفوا الكلم عن مواضعه وعدلوا به عن سبيله ثم قضوا عليه بالتناقض والاستحالة واللحن وفساد النظم والاختلاف وادلوا بذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر والحديث الغر واعترضت بالشبهة في القلوب وقدحت بالشكوك في الصدور قال : ولو كان ما لحنوا إليه على تقريرهم وتأويلهم لسبق إلى الطعن فيه من لم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يحتج بالقرآن عليهم ويجعله علم نبوته والدليل على صدقه ويتحداهم في مواطن على أن يأتوا بسورة من مثله وهم الفصحاء والبلغاء والخطباء والشعراء والمخصوصون من بين جميع الأنام وبالألسنة الحداد واللدد في الخصام مع اللب والنهى وأصالة الرأي فقد وصفهم الله بذلك في غير موضع من الكتاب وكانوا يقولون مرة : هو سحر ومرة : هو شعر ومرة : هو قول الكهنة ومرة : اساطير الأولين ولم يحك الله عنهم الاعتراض على الأحاديث ودعوى التناقض والاختلاف فيها وحكى عنهم لأجل ذلك القدح في خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة رضي الله عنهم واتبعوهم بالحدس قالوا ما شان أو جروا في الطعن على الحديث جري من لا يرى عليه محتسبا في الدنيا ولا محاسبا في الآخرة
وقد بسط الكلام في الرد عليهم والجواب عما اعترضوا فيه أبو محمد بن قتيبة في كتابين صنفهما لهذا المعنى وهما من محاسن كتبه رحمه الله ولم أرو قط تلك الاعتراضات تعزيزا للمعترض فيه لم أعن بردها لأن غيري ـ والحمد لله ـ قد تجرد له ولكن أردت بالحكاية عنهم على الجملة بيان معنى قوله : [ تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ] وقبل وبعد فأهل الأهواء إذا استحكمت فيهم أهواؤهم لم يبالوا بشيء ولم يعدوا خلاف أنظارهم شيئا ولا راجعوا عقولهم مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف في موارد الإشكال ( وهو شأن المعتبرين من أهل العقول ) وهؤلاء صنف من أصناف من اتبع هواه ولم يعبأ بعذل العاذل فيه ثم أصناف أخر تجمعهم مع هؤلاء إشراب الهوى في قلوبهم حتى لا يبالوا بغير ما هو عليه
فإذا تقرر معنى الرواية بالتمثيل صرنا منه إلى معنى آخر وهي :
المسألة التاسعة عشرة أن قوله : تتجارى بهم تلك الأهواء فيه الإشارة بـ تلك فلا تكون إشارة إلى غير مذكور ولا محال بها
إن قوله : [ تتجارى بهم تلك الأهواء ] فيه الإشارة بـ تلك فلا تكون إشارة إلى غير مذكور ولا محالا بها على غير معلوم بل لا بد لها من متقدم ترجع إليه وليس إلا الأحوال التي كانت السبب في الافتراق فجاءت الزيادة في الحديث مبينة أنها الأهواء وذلك قوله : [ تتجارى بهم تلك الأهواء ] فدل على أن كل خارج عما هو عليه واصحابه إنما خرج باتباع الهوى عن الشرع وقد مر بيان هذا قبل فلا نعيده
المسألة العشرون أن قوله عليه الصلاة و السلام : أنه سيخرج من أمتي أقوام على وصف كذا يحتمل أمرين أحدهما : من يجري فيه هواه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع عنه والثاني : من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها
إن قوله عليه الصلاة و السلام : [ وأنه سيخرج في أمتي أقوام على وصف كذا ] يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها فإن هواه يجري فيه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع أبدا عن هواه ولا يتوب من بدعته
والثاني : أن يريد أن أمته من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة ومنهم من لا يكون كذلك فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها
والذي يدل على صحة الأول هو النقل المقتضى الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم كقوله عليه الصلاة و السلام :
[ يمرقون من الدين ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه ] وقوله : [ إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة ] وما أشبه ذلك ويشهد له الواقع فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها بل هو يزداد بضلالتها بصيرة
روي عن الشافعي أنه قال : مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برىء فأعقل ما يكون قد هاج
ويدل على صحة الثاني أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلا لأن العقل يجوز ذلك والشرع إن يشاء على ما ظاهره العموم فعمومه إنما يعتبر عاديا والعادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية لا نحتاج الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق وهذا مبين في الأصول
والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملا ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم ابن عباس رضي الله عنهما وكما رجع المهتدي والواثق وغيرهم ممن كان قد خرج عن السنة ثم رجع إليها وإذا جعل تخصيص بفرد لم يبق الفظ عاما وحصل الانقسام
وهذا الثاني هو الظاهر لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق من غير إشعار بإشراف أو عدمه ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء فدل أن فيهم من لا يشربها وإن كان من أهلها ويبعد أن يريد أن في مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء إذ كان يكون في الكلام نوع من التداخل الذي لا فائدة فيه فإذا بين أن المعنى أنه يخرج في الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى استقام الكلام واتسق وعند ذلك يتصور الانقسام وذلك بأن يكون في الفرقة من يتجارى به الهوى كتجارى الكلب ومن لا يتجارى به ذلك المقدار لأنه يصح أن يختلف التجاري فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد ومنه ما لا يكون كذلك
فمن القسم الأول من لا ترجى توبته الخوارج ومن القسم الثاني من ترجى توبته أهل التقبيح والتحسين على الجملة ومن عد مذهب الظاهرية من البدع
فمن القسم الأول الخوارج بشهادة الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال :
[ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] ومنه هؤلاء الذين أعرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب الله وسنة نبيه وهم بالتكفير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم
ومن القسم الثاني أهل التحسين والتقبيح على الجملة إذا لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم
ومنه ما ذهب إليه الظاهرية ـ على رأي من عدها من البدع ـ وما أشبه ذلك وذلك أنه يقول : من خرج عن الفرق ببدعته وإن كانت جزئية فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له لكن على قدرها وبذلك أيضا تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له لكن التجاري المشبه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعة من البدع ذلك الإشراب وبين من لم يبلغ ممن هو معدود في الفرق فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء
وسبب التفريق بينهما ـ والله أعلم ـ أمران : إما أن يقال : إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته فيظهر بسببها المعاداة والذي لم يشربها لا يدعو إليها ولا ينتصب للدعاء إليها ووجه ذلك أن الأول لم يدع إليها إلا وهي وقد بلغت من قلبه مبلغا عظيما بحيث يطرح ما سواها في جنبها حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها وقد أعمت بصره وأصمت سمعه واستولت على كليته وهي غاية المحبة ومن أحب شيئا من هذا النوع من المحبة وإلى بسببه وعادى ولم يبال بما لقي في طريقه بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها ونكته اهتدى إليها فهي مدخرة في خزانة حفظه يحكم بها على من وافق وخالف لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة النكال والقيام عليه بأنواع الإضرار ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شيء وهو قادر على إظهاره لم يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الاستيلاء فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها
وإما أن يقال : إن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم
ومثل ما حكى ابن العربي في العواصم قال : أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام : أنه ورد بها الأستاذ ابو القاسم عبد الكريم بن هوران القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلسا للذكر وحضر فيه كافة الخلق وقرأ القارىء : { الرحمن على العرش استوى } قال لي أخصهم : من أنت ـ يعني الحنابلة ـ يقومون في أثناء المجلس ويقولون قاعد ! بأرفع صوت وأبعده مدى وثار إليهم أهل السنة من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة وتثاور الفئتان وغلبت العامة فاحجروهم إلى مدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب فمات منهم قوم وركب زعيم الكفاة وبعض الدادية فسكنوا ثورانهم
فهذا أيضا ممن أشرب قلبه حب البدعة حتى أداه ذلك إلى القتل فكل من بلغ هذا المبلغ حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن بلغ من ذلك الحرب
وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك فأدلوا إليهم بالحجة الواهية وصغروا في أنفسهم حملة السنة وحماة الملة حتى وقفوهم مواقف البلوى وأذاقوهم مرارة البأساة والضراء وانتهى بأقوام إلى القتل حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسي في حضرة المأمون وابن أبي داؤد وغيرهما
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه كالمثال في الحديث وكم من أهل بدعة لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم بل استتروا بها جدا ولم يتعرضوا للدعاء إلبها جهارا كما فعل غيرهم ومنهم من يعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم سهرتهم بما انتحلوه
فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب وبالله التوفيق
المسألة الحادية والعشرون إن هذا الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص ؟
إن هذا الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص ؟ وذلك أنه يمكن أن بعض البدع من شأنها أن تشرب قلب صاحبها جدا ومنها ما لا يكون كذلك فالبدعة الفلانية مثلا من شأنها أن تتجارى بصاحبها كما يتجارى الكلب بصاحبه والبدعة الفلانية ليست كذلك فبدعة الخوارج مثلا في طرف الإشراب كبدعة المنكرين للقياس في الفروع الملتزمين الظاهر في الطرف الآخر ويمكن أن يتجارى ذلك في كل بدعة على العموم فيكون من أهلها من تجارت به كما يتجارى الكلب بصاحبه كعمرو بن عبيد حسبما تقدم النقل عنه أنه أنكر بسبب القول به سورة { تبت يدا أبي لهب } وقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيدا } ومنهم من لم يبلغ به الحال إلى هذا النحو كجملة من علماء المسلمين كالفارسي النحوي وابن جني
والثاني : بدعة الظاهرية فإنها تجارت بقوم حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى : { على العرش استوى } قاعد ! قاعد ! وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ولم يبلغ بقوم آخرين ذلك المقدار كداود بن علي في الفروع وأشباهه
والثالث : بدعة التزام الدعاء بإثر الصلوات دائما على الهيئة الاجتماعية فإنها بلغت بأصحابها إلى أن كان الترك لها موجبا للقتل عنده فحكى القاضي أبو الخطاب بن خليل حكاية عن أبي عبد الله بن مجاهد العابد : أن رجلا من عظماء الدولة وأهل الوجاهة فيها ـ وكان موصوفا بشدة السطو وبسط اليد ـ نزل في جوار ابن مجاهد وصلى في مسجده الذي كان يؤم فيه وكان لا يدعو في أخريات الصلوات تصميما في ذلك على المذهب ( يعني مذهب مالك ) لأنه مكروه في مذهبه وكان ابن مجاهد محافظا عليه فكره ذلك الرجل منه ترك الدعاء وأمره أن يدعو فأبى وبقي على عادته في تركه في أعقاب الصلوات فلما كان في بعض الليالي صلى ذلك الرجل العتمة في المسجد فلما انقضت وخرج ذلك الرجل إلى داره قال لمن حضره من أهل المسجد : قد قلنا لهذا الرجل يدعو إثر الصلوات فأبى فإذا كان في غدوة غد أضرب رقبته بهذا السيف وأشار في يده فخافوا على ابن مجاهد من قوله لما علموا منه فرجعت الجماعة بجملتها إلى دار ابن مجاهد فخرج إليهم وقال : ما شأنكم ؟ فقال لهم : والله لقد خفنا من هذا الرجل وقد اشتد الآن غضبه عليك في تركك الدعاء فقال لهم : لا أخرج عن عادتي فأخبروه بالقصة فقال لهم ـ وهو مبتسم ـ : انصرفوا ولا تخافوا فهو الذي تضرب رقبته في غدوة غد بذلك السيف بحول الله ودخل داره وانصرفت الجماعة على ذعر من قول ذلك الرجل فلما كان مع الصبح وصل إلى دار الرجل قوم من أهل المسجد ومن علم حال البارحة حتى وصلوا إليه إلى دار الإمامة بباب جوهر من أشبيلية وهناك أمر بضرب رقبته بسيفه فكان ذلك تحقيقا للإجابة وإثباتا للكرامة
وقد روى بعض الأشبيليين الحكاية بمعنى هذه لكن على نحو آخر
ولما رد ولد ابن الصقر على الخطيب في خطبته وذلك حين فاه باسم المهدي وعصمته اراد المرتضى من ذرية عبد المؤمن ـ وهو إذ ذاك خليفة ـ أن يسجنه على قوله فابى الأشياخ والوزراء من فرقة الموحدين إلا قتله فغلبوا على أمره فقتلوه خوفا أن يقول ذلك غيره فتختل عليهم القاعدة التي بنوا دينهم عليها
وقد لا تبلغ البدعة في الإشراب ذلك المقدار فلا يتفق الخلاف فيها بما يؤدي إلى مثل ذلك
فهذه الأمثلة بينت بالواقع مراد الحديث ـ على فرض صحته ـ فإن أخبار النبي صلى الله عليه و سلم إنما تكون ابتناء على وفق مخبره من غير تخلف البتة
ويشهد لهذا التفسير استقراء أحوال الخلق من انقسامها إلى الأعلى والأدنى والأوسط كالعلم والجهل والشجاعة والجبن والعدل والجور والجود والبخل والغنى والفقر والعز والذل غير ذلك من الأحوال والأوصاف فإنها تتردد ما بين الطرفين : فعالم في أعلى درجات العلم وآخر في أدنى درجاته وجاهل كذلك وشجاع كذلك إلى سائرها
فكذلك سقوط البدع بالنفوس إلا أن في ذكر النبي صلى الله عليه و سلم لها فائدة أخرى وهي التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابها وهي :
المسألة الثانية والعشرون أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى وكذلك البدع وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى فإن أصل الكلب واقع بالكلب ثم إذا عض ذلك الكلب أحدا صار مثله ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب إلا بالهلكة فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته بل إما أن يقع معه في مذهبه ويصير من شيعته وإما أن يثبت في قلبه شكا يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر
هذا بخلاف سائر المعاصي فإن صاحبها لا يضاره ولا يدخله فيها غالبا إلا مع طول الصحبة والأنس به والاعتياد لحضور معصيته وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم ومكالتهم وكلام مكالمهم وأغلظوا في ذلك وقد تقدم منه في الباب الثاني آثار جمة
ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود قال : من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة الشيطان ومجالسة أصحاب الأهواء فإن مجالستهم ألصق من الجرب
وعن حميد الأعرج قال : قدم غيلان مكة يجاور بها فأتى غيلان مجاهدا فقال : يا أبا الحجاج بلغني أنك تنهى الناس عني وتذكرني وأنه بلغك عني شيء لا أقوله ؟ إنما أقول كذا فجاء بشيء لا ينكر فلما قام قال مجاهد : لا تجالسوه فإنه قدري قال حميد : فإني لما كنت ذات يوم في الطواف لحقني غيلان من خلفي يجذب ردائي فالتفت فقال : كيف يقول مجاهد خرفا كذا وكذا فأخبرته فمشى معي فبصر بي مجاهد معه فأتيته فجعلت أكلمه فلا يرد علي وأسأله فلا يجيبني ـ فقال ـ فغدوت إليه فوجدته على تلك الحال فقلت : يا أبا الحجاج ! أبلغك عني شيء ؟ ما أحدثت حدثا ما لي ! قال : ألم أرك مع غيلان وقد نهيتكم أن تكلموه أو تجالسوه ؟ قال قلت : يا با الحجاج ما أنكرت قولك وما بدأته وهو بدأني قال : والله يا حميد لولا أنك عندي مصدق ما نظرت لي في وجه منبسط ما عشت ولئن عدت لا تنظر لي في وجه منبسط ما عشت
وعن أيوب قال : كنت يوما عند محمد بن سيرين إذ جاء عمرو بن عبيد فدخل فلما جلس وضع محمد يده في بطنه وقام فقلت لعمرو : انطلق بنا ـ قال ـ فخرجنا فلما مضى عمرو رجعت فقلت : يا أبا بكر ؟ قد فطنت إلى ما صنعت قال : أقد فطنت ؟ قلت : نعم ! قال : أما إنه لم يكن ليضمني معه سقف بيت
وعن بعضهم قال : كنت أمشي مع عمرو بن عبيد فرآني ابن عون فأعرض عني وقيل : دخل ابن عبيد دار ابن عون فسكت ابن عون لما رآه وسكت عمرو عنه فلم يسأله عن شيء ـ فمكثت هنيهة ثم قال ابن عون : بم استحل أن دخل داري بغير إذني ؟ ـ مرارا يرددها ـ أما إنه لو تكلم
وعن مؤمل بن إسماعيل أنه قال : قال بعض أصحابنا ل حماد بن زيد : ما لك لم ترو عن عبد الكريم إلا حديثا واحدا ؟ قال : ما أتيته إلا مرة واحدة لمساقة في هذا الحديث وما أحب أن أيوب علم بإتياني إليه وأن لي كذا وكذا وإني لأظنه لو علم لكانت الفصيلة بيني وبينه
وعن إبراهيم أنه قال ل محمد بن السائب : لا تقربنا ما دمت على رأيك هذا وكان مرجئا
وعن حماد بن زيد قال : لقيني سعيد بن جبير فقال : ألم أرك مع طلق ؟ قلت : بلى ! فما له ؟ قال : لا تجالسه فإنه مرجىء
وعن محمد بن واسع قال : رأيت صفوان بن محرز وقريب منه شيبة فرآهما يتجادلان فرأيته قائما ينفض ثيابه ويقول : إنما أنتم جرب
وعن أيوب قال : دخل رجل على ابن سيرين فقال : يا أبا بكر ! اقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد أن أقرأها ثم أخرج ؟ فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال : أعزم عليك إن كنت مسلما إلا خرجت من بيتي ـ قال ـ فقال ـ يا أبا بكر ! لا أزيد على أن أقرأ ( آية ) ثم أخرج فقام لإزاره يشده وتهيأ للقيام فأقبلنا على الرجل فقلنا : قد عزم عليك إلا خرجت أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته ؟ قال : فخرج فقلنا : يا أبا بكر ! ما عليك لو قرأ آية ثم خرج ؟ قال : إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ ولكن خفت أن يلقى في قلبي شيئا أجهد في إخراجه من قلبي فلا أستطيع
وعن الأوزاعي قال : لا تكلموا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنته
فهذه آثار تنبهك على ما تقدمت إشارة الحديث إليه إن كان مقصودا والله أعلم تأثير كلام صاحب البدعة في القلوب معلوم وثم معنى آخر قد يكون من فوائد تنبيه الحديث بمثال داء الكلب وهي :
المسألة الثالثة والعشرون التنبيه على السبب في بعد صاحب البدعة عن التوبة
وهو التنبيه على السبب في بعد صاحب البدعة عن التوبة إذ كان مثل المعاصي الواقعة بأعمال العباد قولا أو فعلا أو اعتقادا كمثل الأمراض النازلة بجسمه أو روحه فأدوية الأمراض البدنية معلومة وأدوية الأمراض العملية التوبة والأعمال الصالحة وكما أن من الأمراض البدنية ما يمكن فيه التداوي ومنه ما لا يمكن فيه التداوي أو يعسر كذلك الكلب الذي في أمراض الأعمال فمنها ما يمكن فيه التوبة عادة ومنها ما لا يمكن
فالمعاصي كلها ـ غير البدع ـ يمكن فيه التوبة من أعلاها وهي الكبائر ـ إلى أدناها ـ وهي اللمم ـ والبدع أخبرنا فيها إخبارين كلاهما يفيد أن لا توبة منها
الإخبار الأول : ما تقدم في ذم البدع من أن المبتدع لا توبة له من غير تخصيص
والآخر : ما نحن في تفسيره وهو تشبيه البدع بما لا نجح فيه من الأمراض كالكلب فأفاد أن لا نجح من ذنب البدع في الجملة من غير اقتضاء عموم بل اقتضى أن عدم التوبة مخصوص بمن تجارى به الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه وقد مر أن من أولئك من يتجارى به الهوى على ذلك الوجه وتبين الشاهد عليه ونشأ من ذلك معنى زائد هو من فوائد الحديث وهي :
المسألة الرابعة والعشرون أن من تلك الفرق من لا يشرب هوى البدعة ذلك الإشراب
وهو أن من تلك الفرق من لا يشرب هوى البدعة ذلك الإشراب فإذا يمكن فيه التوبة وإذا أمكن في أهل الفرق أمكن فيمن خرج عنهم وهم أهل البدع الجزئية
فإما أن يرجح ما تقدم من الأخبار على هذا الحديث لأن هذه الرواية في إسنادها شيء وأعلى ما يجرى في الحسان وفي الأحاديث الأخر ما هو صحيح كقوله :
[ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون كما يعود السهم على فوقه ] وما أشبه
وأما أن يجمع بينهما فتجعل النقل الأول عمدة في عموم قبول التوبة ويكون هذا الإخبار أمرا زائدا على ذلك إذ لا يتنافيان بسبب أن من شأن البدع مصاحبة الهوى وغلبة الهوى للإنسان في الشيء المفعول أو المتروك له أبدا أثر فيه والبدع كلها تصاحب الهوى ولذلك سمي أصحابها أهل الأهواء فوقعت التسمية بها وهو الغالب عليهم إذ يصاحبه دليل شرعي إنما نشأ عن الهوى مع شبهة دليل لا عن الدليل بالعرض فصار هوى يصاحبه دليل شرعي في الظاهر فكان أجرى في البدع من القلب موقع السويداء فأشرب حبه ثم إنه يتفاوت إذ ليس في رتبة واحدة ولكنه تشريع كله واستحق صاحبه أن لا توبة له عافانا الله من النار بفضله ومنه
وإما أن يعمل هذا الحديث مع الأحاديث الأول ـ على فرض العمل به ـ ونقول : إن ما تقدم من الأخبار عامة وهذا يفيد الخصوص كما تفيده أو يفيد معنى يفهم منه الخصوص وهو الإشراب في أعلى المراتب مسوقا مساق التبغيض لقوله :
[ وإنه سيخرج في أمتي أقوام ] إلى آخره فدل أن ثم أقواما أخر لا تتجارى بهم تلك الأهواء على ما قال بل هي أدنى من ذلك وقد لا تتجارى بهم ذلك
وهذا التفسير بحسب ما أعطاه الموضع وتمام المسألة قد مر في الباب الثاني والحمد لله لكن على وجه لا يكون في الأحاديث كلها تخصيص وبالله التوفيق
المسألة الخامسة والعشرون أنه جاء في بعض روايات الحديث : أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم
أنه جاء في بعض روايات الحديث :
[ أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ] فجعل أعظم تلك الفرق فتنة على الأمة أهل القياس ولا كل قياس بل القياس على غير أصل فإن أهل القياس متفقون على أنه على غير أصل يصح وإنما يكون على أصل من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع معتبر فإذا لم يكن للقياس أصل ـ وهو القياس الفاسد ـ فهو الذي لا يصح أن يوضع في الدين ـ فإنه يؤدي إلى مخالفة الشرع وأن يصير الحلال بالشرع حراما بذلك القياس والحرام حلالا فإن الرأي من حيث هو رأي لا ينضبط إلى قانون شرعي إذا لم يكن له أصل شرعي فإن العقول تستحسن ما لا يستحسن شرعا وتستقبح ما لا يستقبح شرعا وإذا كان كذلك صار القياس على غير أصل فتنة على الناس
ثم أخبر في الحديث أن المعلمين لهذا القياس أضر على الناس من سائر أهل الفرق واشد فتنة وبيانه أن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردها واستفاضت وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصة والعامة بخلاف الفتيا فإن أدلتها من الكتاب والسنة لا يعرفها إلا الأفراد ولا يميز ضعيفها من قويها إلا الخاصة وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير
حديث ليس عام إلا والذي بعد شر منه وما معناه
وقد جاء مثل معناه محفوظا من حديث ابن مسعود أنه قال : [ ليس عام إلا والذي بعده شر منه ] لا أقول : عام أمطر من عام ولاعام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن : ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم
ذهاب العلماء وقيام الجهال مقامهم في الإفتاء وهذا الذي في حديث ابن مسعود موجود في الحديث الصحيح حيث قال عليه الصلاة و السلام : [ ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون برأيهم فيضلون ويضلون ]
وقد تقدم في ذم الرأي آثار مشهورة عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين تبين فيها أن الأخذ بالرأي يحل الحرام ويحرم الحرام
القياس الهادم للإسلام ما عارض الكتاب والسنة وبيان ما عليه سلف الأمة ومعلوم أن هذه الآثار الذامة للرأي لا يمكن أن يكون المقصود بها ذم الاجتهاد على الأصول في نازلة لم توجد في كتاب ولا سنة ولا إجماع ممن يعرف الأشباه والنظائر ويفهم معاني الأحكام فيقيس قياس تشبيه وتعليل قياسا لم يعارضه ما هو أولى منه فإن هذا ليس فيه تحليل وتحريم ولا العكس وإنما القياس الهادم ما عارض الكتاب والسنة أو ما عليه سلف الأمة أو معانيها المعتبرة
مخالفة الأصول في الإفتاء قسمان أحدهما مخالفة أصل من غير استمساك بأصل آخر
ثم إن مخالفة هذه الأصول على قسمين :
أحدهما : أن يخالف أصلا مخالفة ظاهرة من غير استمساك بأصل آخر فهذا لا يقع من مفت مشهور إلا إذا كان الأصل لم يبلغه كما وقع لكثير من الأئمة حيث لم يبلغهم بعض السنن فخالفوها خطأ وأما الأصول المشهورة فلا يخالفها مسلم خلافا ظاهرا من غير معارضة بأصل آخر فضلا عن أن يخالفها بعض المشهورين بالفتيا
الثاني أن يخالف الأصل بنوع من التأويل والثاني : أن يخالف الأصل بنوع من التأويل هو فيه مخطىء بأن يضع الإسم على غير موضعه أو على بعض مواضعه أو يراعي فيه مجرد اللفظ دون اعتبار المقصودة أو غير ذلك من أنواع التأويل
والدليل على أن هذا هو المراد بالحديث وما في معناه أن تحليل الشيء إذا كان مشهورا فحرمه بغير تأويل أو التحريم مشهورا فحلله بغير تأويل كان كفرا وعنادا ومثل هذا لا تتخذه الأمة رأسا قط إلا أن تكون الأمة قد كفرت والأمة لا تكفر أبدا
وإذا بعث الله ريحا تقبض أرواح المؤمنين لم يبق حينئذ من يسأل عن حرام أو حلال وإذا كان التحليل أو التحريم غير مشهور فخالفه مخالف لم يبلغه دليله فمثل هذا لم يزل موجودا من لدن زمان أصحاب رسول الله صلى ا لله عليه وسلم هذا إنما يكون في آحاد المسائل فلا تضل الأمة ولا ينهدم الإسلام ولا يقال لهذا : إنه محدث عند قبض العلماء
فظهر أن المراد إنما هو استحلال المحرمات الظاهرة أو المعلومة عنده بنوع تأويل وهذا بين في المبتدعة الذين تركوا معظم الكتاب والذي تضافرت عليه أدلته وتواطأت على معناه شواهده وأخذوا في اتباع بعض المتشابهات وترك أم الكتاب
فإذا هذا ـ كما قا ل الله تعالى ـ زيغ وميل عن الصراط المستقيم فإن تقدموا أئمة يفتون ويقتدى بهم بأقوالهم وأعمالهم سكنت إليهم الدهماء ظنا أنهم بالغوا لهم في الاحتياط على الدين وهم يضلون بغير علم ولا شيء أعظم على الإنسان من داهية تقع به من حيث لا يحتسب فإنه لو علم طريقها لتوقاها ما استطاع فإذا جاءته على غرة فهي أدهى وأعظم على من وقعت به وهو ظاهر فكذلك البدعة إذا جاءت العامي من طريق الفتيا لأنه يستند في دينه إلى من ظهر في رتبة أهل العلم فيضل من حيث يطلب الهداية : اللهم { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم }
المسألة السادسة والعشرون أن ههنا نظرا لفظيا في الحديث هو من تمام الكلام فيه الإخبار بالمعنى عن الجثة وبالصفة عن الموصوف
إن ها هنا نظرا لفظيا في الحديث هو من تمام الكلام فيه وذلك أنه لما أخبر عليه الصلاة و السلام أن جميع الفرق في النار إلا فرقة واحدة وهي الجماعة المفسرة في الحديث الآخر فجاء في الرواية الأخرى السؤال عنها ـ سؤال التعيين ـ فقالوا : من هي يا رسول الله ؟ فأصل الجواب أن يقال : أنا وأصحابي ومن عمل مثل عملنا أو ما اشبه ذلك مما يعطي تعيين الفرقة إما بالإشارة أو بوصف من أوصافها إلا أن ذلك لم يقع وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف فلذلك أتى بما أتى فظاهرها الوقوع على غير العاقل من الأوصاف وغيرها والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله عنهم فلم يطابق السؤال الجواب في اللفظ والعذر عن هذا أن العرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى لأنهم لما سألوا عن تعيين الفرقة الناجية بين لهم الوصف الذي به صارت ناجية فقال : [ ما أنا عليه واصحابي ]
ومما جاء غير مطابق في الظاهر وهو في المعنى مطابق قول الله تعالى : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } ؟ فإن هذا الكلام معناه : هل أخبركم بما هو أفضل من متاع الدنيا ؟ فكأنه قيل : نعم ! أخبرنا فقال الله تعالى : { للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } الآية أي للذين اتقوا استقر لهم { عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } الآية فأعطى مضمون الكلام معنى الجواب على غير لفظه وهذا التقرير على قول جماعة من المفسرين
وقال تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار } الآية فقوله : مثل الجنة يقتضي المثل لا الممثل كما قال تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } ولأنه كلما كان المقصود الممثل جاء به بعينه
ويمكن أن يقال : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما ذكر الفرق وذكر أن فيها فرقة ناجية كان الأولى السؤال عن أعمال الفرقة الناجية لا عن نفس الفرقة لأن التعريف فيها من حيث هي لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نجت بها فالمتقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل فلو سألوا : ما وصفها ؟ أو ما عملها ؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ والمعنى فلما فهم عليه الصلاة و السلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك
ونقول : لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم أتى به جوابا عن سؤالهم حرصا منه عليه الصلاة و السلام على تعليمهم ما ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه
ويمكن أن يقال : إن ما سألوا عنه لا يتعين إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر إذ كانوا قد اتصفوا بوصف التأخير
ومن شأن هذا السؤال التعيين وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين وانصرف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع وهو ما كان عليه هو وأصحابه
وهذا الجواب بالنسبة إلينا كالمبهم وهو بالنسبة إلى السائل معين لأن أعمالهم كانت للحاضرين معهم رأي عين فلم يحتج إلى أكثر من ذلك لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر فأما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم ولم ينظر أعمالهم فليس مثلهم ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود والله أعلم انتهى
الباب العاشر في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الإبتداع فضلت عن الهدى بعد البيان هذا وجه أول
قد تقدم قبل هذا أن كل فرقة وكل طائفة تدعي أنها على الصراط المستقيم وأن ما سواها منحرف عن الجادة وراكب بنيات الطريق فوقع بينهم الاختلاف إذا في تعيينه وبيانه حتى أشكلت المسألة على كل من نظر فيها حتى قال من قال : كل مجتهد في العقليات أو النقليات مصيب فعدد الأقوال في تعيين هذا المطلب على عدد الفرق وذلك من أعظم الإختلاف إذ لا تكاد تجد في الشريعة مسألة يختلف العلماء فيها على بضع وسبعين قولا إلا هذه المسألة فتحرير النظر حتى تتضح الفرقة الناجية التي كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم واصحابه من أغمض المسائل
ووجه ثان : أن الصراط المستقيم لو تعين لمن بعد الصحابة لم يقع خلاف ووجه ثان : أن الصراط المستقيم لو تعين بالنسبة إلى من بعد الصحابة لم يقع اختلاف أصلا لأن الاختلاف مع تعيين محله محال والفرض أن الخلاف ليس بقصد العناد لأنه على ذلك الوجه مخرج عن الإسلام وكلامنا في الفرق
ووجه ثالث أن البدع لا تقع من راسخ في العلم ووجه ثالث : أنه قد تقدم أن البدع لا تقع من راسخ في العلم وإنما تقع ممن لم يبلغ مبلغ أهل الشريعة المتصرفين في أدلتها والشهادة بأن فلانا راسخ في العلم وفلانا غير راسخ في غاية الصعوبة فإن كل من خالف وانحاز إلى فرقة يزعم أنه الراسخ وغير قاصر النظر فإن فرض على ذلك المطلب علامة وقع النزاع إما في العلامة وإما في مناطها
ومثال ذلك أن علامة الخروج من الجماعة الفرقة المنبه عليها بقوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } والفرقة ـ بشهادة الجميع ـ إضافية فكل طائفة تزعم أنها هي الجماعة ومن سواها مفارق للجماعة
ومن العلامات اتباع ما تشابه من الأدلة وكل طائفة ترمي صاحبتها بذلك وأنها هي التي اتبعت أم الكتاب دون الأخرى فتجعل دليلها عمدة وترد إليه سائر المواضع بالتأويل على عكس الأخرى
ومنها اتباع الهوى الذي ترمي به كل فرقة صاحبتها وتبرىء نفسها منه فلا يمكن في الظاهر مع هذا أن يتفقوا على مناط هذه العلامات وإذا لم يتفقوا عليها لم يمكن ضبطهم بها بحيث يشير إليهم بتلك العلامات وأنهم في التحصيل متفقون عليها وبذلك صارت علامات : فكيف يمكن مع اختلافهم في المناط الضبط بالعلامات
ووجه رابع فهمنا من مقاصد الشرع الستر على هذه الأمة وكون تعيين الصراط المستقيم بالإجتهاد لا يقتضي الإتفاق
ووجه رابع : وهو ما تقدم من فهمنا من مقاصد الشرع في الستر على هذه الأمة وإن حصل التعيين بالاجتهاد فالاجتهاد لا يقتضي الاتفاق على محله
ألا ترى أن العلماء جزموا القول بأن النظرين لا يمكن الاتفاق عليهما عادة ؟ فلو تعينوا بالنص لم يبق إشكال بل أمر الخوارج على ما كانوا عليه وإن كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عينهم وعين علامتهم في المخدج حيث قال : [ آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ومثل البضعة تدردر ] الحديث وهم الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ لم يرجعوا عما كانوا عليه ولم ينتهوا فما الظن بمن ليس له في القتل تعيين ؟
ووجه خامس في قول الله تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة
ووجه خامس : وهو ما تقدم تقريره في قوله سبحانه وتعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } الآية ـ يشعر في هذا المطلوب أن الخلاف لا يرتفع مع ما يعضده من الحديث الذي فرغنا من بيانه وهو حديث الفرق إذ الآية لا تشعر بخصوص مواضع الخلاف لإمكان أن يبقى الخلاف في الأديان دون دين الإسلام لكن الحديث بين أنه واقع في الأمة أيضا فانتظمته الآية بلا إشكال
فإذا تقرر هذا ظهر به أن التعيين للفرقة الناجية بالنسبة إليها اجتهادي لا ينقطع الخلاف فيه وإن ادعي فيه القطع دون الظن فهو نظري لا ضروري ولكنا مع ذلك نسلك في المسألة ـ بحول الله ـ مسلكا وسطا يذعن إلى قبوله عقل الموفق ويقر بصحنه العالم بكليات الشريعة وجزئياتها والله الموفق للصواب فنقول :
لا بد من تقديم مقدمة قبل الشروع في المطلوب وذلك أن الإحداث في الشريعة إنما يقع من جهة الجهل وإما من جهة تحسين الظن بالعقل وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة وقد مر في ذلك ما يؤخذ منه شواهد المسألة إلا أن الجهات الثلاث قد تنفرد وقد تجتمع فإذا اجتمعت فتارة تجتمع منها اثنتان وتارة تجتمع الثلاث فأما جهة الجهل فتارة تتعلق بالأدوات التي بها تفهم المقاصد وتارة تتعلق بالمقاصد وأما جهة تحسين الظن فتارة يشرك في التشريع مع الشرع وتارة يقدم عليه وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد وأما جهة اتباع الهوى فمن شأنه أن يغلب الفهم حتى يغلب صاحبه الأدلة أو يستند إلى غير دليل وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد فالجميع أربعة أنواع : وهي الجهل بأدوات الفهم والجهل بالمقاصد وتحسيم الظن بالعقل واتباع الهوى فلنتكلم على كل واحد منها وبالله التوفيق
النوع الأول الجهل بأدوات المقاصد ن الله عز و جل أنزل القرآن عربيا لا يفهم إلا من ألفاظ لغة العرب وأساليبها
إن الله عز و جل أنزل القرآن عربيا لا عجمة فيه بمعنى أنه جاء في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب قال الله تعالى : { إنا جعلناه قرآنا عربيا } وقال تعالى : { قرآنا عربيا غير ذي عوج } وقال تعالى : { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } وكان المنزل عليه القرآن عربيا أفصح من نطق بالضاد وهو محمد بن عبد الله صلىالله عليه وسلم وكان الذين بعث فيهم عربا أيضا فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم فليس فيه شيء من الألفاظ والمعاني إلا وهو جار على ما اعتادوه ولم يداخله شيء بل نفي عنه أن يكون فيه شيء أعجمي فقال تعالى : { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين }
وقال تعالى في موضع آخر : { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته }
هذا وإن كان بعث للناس كافة فإن الله جعل جميع الأمم وعامة الألسنة في هذا الأمر تبعا للسان العرب وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها
أساليب العربية في العام والخاص وما يراد ظاهرا وما لا يراد أما ألفاظها فظاهرة للعيان وأما معانيها وأساليبها فكان مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به الظاهر ويستغنى بأوله عن آخره وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص ويستدل إلى هذا ببعض الكلام وعاما ظاهرا يراد به الخاص وظاهرا يعرف في سياقه أن المراد به غير ذلك الظاهر والعلم بهذا كله موجود في أول الكلام أو وسطه أو آخره
وتبتدىء الشيء من كلامها بين أول اللفظ فيه عن آخره أو بين آخره عن أوله ويتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة وهذا عندها من أفصح كلامها لانفرادها بعلمه دون غيرها ممن يجهله وتسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة وتوقع اللفظ الواحد للمعاني الكثيرة
فهذه كلها معروفة عندها وتستنكر عند غيرها إلى غير ذلك من التصرفات التي يعرفها من زوال كلامهم وكانت له به معرفة وثبت رسوخه في علم ذلك
فمثال ذلك أن الله تعالى خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل وقال تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } فهذا من العام الظاهر الذي لا خصوص فيه فإن كل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك فالله خالقه وكل دابة على الله رزقها { ويعلم مستقرها ومستودعها }
وقال الله تعالى : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } فقوله : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } إنما أريد به من أطاق ومن لم يطق فهو عام المعنى وقوله : { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } عام فيمن أطاق ومن لم يطق فهو عام المعنى
وقوله تعالى : { حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما } فهذا من العام المراد به الخاص لأنهما لم ستطعما جميع أهل القرية
وقال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } فهذا عام لم يخرج عنه أحد من الناس وقال إثر هذا : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فهذا خاص لأن التقوى إنما تكون على من عقلها من البالغين
وقال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } فالمراد بالناس الثاني الخصوص لا العموم وإلا فالمجموع لهم الناس ناس أيضا وهم قد خرجوا لكن لفظ الناس يقع على ثلاثة منهم وعلى جميع الناس وعلى ما بين ذلك فيصح أن يقال : إن الناس قد جمعوا لكم والناس الأول القائلون كانوا أربعة نفر
وقال تعالى : { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له } فالمراد بالناس هنا الذين اتخذوا من دون الله إلها دون الإطفال والمجانين والمؤمنين
وقال تعالى : { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } فظاهرا السؤال عن القرية نفسها وسياق قوله تعالى : { إذ يعدون في السبت } إلى آخر الاية يدل على أن المراد أهلها لأن القرية لا تعدو ولا تفسق
وكذلك قوله تعلى : { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة } الآية فإنه لما قال كانت ظالمة دل على أن المراد أهلها
وقال تعالى : { واسأل القرية التي كنا فيها } الآية فالمعنى بين أن المراد أهل القرية ولا يختلف أهل العلم باللسان في ذلك لأن القرية والعير لا يخبران بصدقهم
هذا كله معنى تقرير الشافعي رحمه الله في هذه التصرفات الثابتة للعرب وهو بالجملة مبين أن القرآن لا يفهم إلا عليه وإنما أتى الشافعي بالنوع الأغمض من طرائق العرب لأن سائر أنواع التصرفات العربية قد بسطها أهلها وهم أهل النحو والتصريف وأهل المعاني والبيان وأهل الاشتقاق وشرح مفردات اللغة وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال فجميعه نزل به القرآن ولذلك أطلق عليه عبارة العربي
أحدهما أن يكون عربيا أو كالعربي في لسانه فإذا ثبت هذا فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولا وفروعا أمران
أحدهما : أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب بالغا فيه مبالغ العرب أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم وجامعا كجمعهم وإنما المراد أن تصير فهمه عربيا في الجملة وبذلك امتاز المتقدمون من علماء العربية على المتأخرين إذ بهذا المعنى أخذوا أنفسهم حتى صاروا أئمة فإن لم يبلغ ذلك فحسبه في فهم معاني القرآن التقليد ولا يحسن ظنه بفهمه دون أن يسأل فيه أهل العلم به
قال الشافعي لما قرر معنى ما تقدم : فمن جهل هذا من لسانها يعني لسان العرب ـ وبلسانها نزل القرآن وجاءت السنة به ـ فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل لفظه ومن تكلف ما جهل وما لم يثبته معرفة كانت موافقته للصواب ـ إن وافقه ـ من حيث لا يعرفه غير محمودة وكان في تخطئته غير معذور إذ نظر فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه
وما قاله حق فإن القول في القرآن والسنة بغير علم تكلف ـ وقد نهينا عن التكلف ـ ودخول تحت معنى الحديث حيث قال عليه الصلاة و السلام :
[ حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا ] الحديث لأنهم إذا لم يكن لهم لسان عربي يرجعون إليه في كتاب الله وسنة نبيه رجع الأعجمي إلى فهمه وعقله المجرد عن التمسك بدليل يضل عن الجادة
وقد خرج ابن وهب عن الحسن أنه قيل له : أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويصلح بها منطقه ؟ قال : نعم ! فليتعلمها فإن الرجل يقرأ فيعيا بوجهها فيهلك
وعن الحسن قا ل : أهلكتهم العجمة يتأولون على غير تأويله
الأمر الثاني أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره من علماء العربية
والأمر الثاني : أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ أو معنى فلا يقدم على القول فيه دون أ ن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية فقد يكون إماما فيها ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات فالأولى في حقه الاحتياط إذ قد يذهب على العربي المحض بعض المعاني الخاصة حتى يسأل عنها وقد نقل شيء من هذا عن الصحابة ـ وهم العرب ـ فكيف بغيرهم
نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كنت لا أدري ما فاطر السموات وألارض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي أنا ابتدأتها
وفيما يروى عن عمر رضي الله عنه أنه سأل وهو على المنبر عن معنى قوله تعالى : { أو يأخذهم على تخوف } فأخبره رجل من هذيل أن التخوف عندهم هو التنقص وأشباه ذلك كثيرة
كلام الشافعي في فقه العربية وخفاء بعض العربية على بعض العرب قا ل الشافعي : لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا
قال : ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي ولكنه لا يذهب منه شيء على عامته حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه ـ قال ـ والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل العلم لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن وإذا فرق كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره ممن كان في طبقته وأهل علمه قال : وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها ولا يطلب عند غيرها ولا يعلمه إلا من نقله عنها ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها ومن قبله منها فهو من أهل لسانها وإنما صار غيرهم من غير أهله لتركه فإذا صار إليه صار من أهله
هذا ما قال ولا يخالف فيه أحد فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي به أديت وأن لا يحسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل علم العربية بأنه يستحق النظر وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها فإن ثبت على هذه الوصاة كان ـ إن شاء لله ـ موافقا لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه الكرام
روي [ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : قلنا يا رسول الله من خير الناس ؟ قال : ذو القلب المخموم واللسان الصادق قلنا : قد عرفنا اللسان الصادق فما ذو القلب المخموم ؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا حسد قلنا فمن على أثره ؟ قال : الذي ينسى الدنيا ويحب الآخرة قلنا : ما نعرف هذا فينا إلا رافعا مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قلنا : فمن على أثره ؟ قال : مؤمن في خلق حسن قلنا : أما هذا فإنه فينا ]
ويروي : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جاءه رجل فقال : يا رسول الله ! أيدالك الرجل امرأته ؟ قال : نعم إذا كان مفلجا فقال له أبو بكر رضي الله عنه : ما قلت وما قال لك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ؟ فقال : قال : أيماطل الرجل امرأته ؟ قلت : نعم إذا كان فقيرا فقال أبو بكر : ما رأيت الذي هو أفصح منك يا رسول الله فقال : كيف لا وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد ؟ ]
أمثلة لوقوع الخطأ في العربية في كلام الله وسنة نبيه أحدها : قول جابر الجعفي في قوله تعالى : فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي
فهذه أدلة تدل على أن بعض اللغة يعزب عن علم بعض العرب فالواجب السؤال كما سألوا فيكون على ما كانوا عليه وإلا زل فقال في الشريعة برأيه لا بلسانها
ولنذكر لذلك ستة أمثلة :
أحدها : قول جابر الجعفي في قوله تعالى : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي } أن تأويل هذه الآية لم يجىء بعد وكذب ـ فإنه أراد بذلك مذهب الرافضة فإنها تقول إن عليا في السحاب فلا يخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي علي من السماء : اخرجوا مع فلان فهذا معنى قوله تعالى : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي } الآية عند جابر حسبما فسره سفيان من قوله : لم يجىء بعد
بل هذه الآية كانت في إخوة يوسف وقع ذلك في مقدمة كتاب مسلم ومن كان ذا عقل فلا يرتاب في أن سياق القرآن دال على ما قال سفيان وأن ما قاله جابر لا ينساق
الثاني قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع والثاني : قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع من الحلائل مستلا بقوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } لأن أربعا إلى ثلاث إلى اثنتين تسع ولم يشعر بمعنى فعال ومفعل في كلام العرب وأن معنى الآية فانكحوا إن شئتم اثنتين اثنتين أو ثلاثا ثلاثا أو أربعا على التفصيل لا على ما قالوا
الثالث قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم والثالث : قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم وأما الشحم فحلال لأن القرآن إنما حرم اللحم دون الشحم ولو عرف أن اللحم يطلق على الشحم أيضا بخلاف الشحم فإنه لا يطلق على اللحم لم يقل ما قال
الرابع قول من قال : أن كل شيء فان حتى ذات الباري ما عدا الوجه والرابع : قول من قال : إن كل فان حتى ذات الله ـ تعالى عما يقولون علوا كبيرا ـ ما عدا الوجه بدليل { كل شيء هالك إلا وجهه } وإنما المراد بالوجه هنا غير ما قال فإن للمفسرين فيه تأويلات وقصد هذا القائل ما لا يتجه لغة ولا معنى وأقرب قول لقصد هذا المسكين أن يراد به ذو الوجه كما تقول : فعلت هذا لوجه فلان : أي لفلان فكان معنى الآية : كل شيء هالك إلا هو وقوله تعالى : { إنما نطعمكم لوجه الله } ومثله قوله تعالى : { كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }
الخامس قول من زعم أن لله جنبا والخامس : قول من زعم أن لله سبحانه وتعالى جنبا مستدلا بقوله : { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } وهذا لا معنى للجنب فيه لا حقيقة ولا مجازا لأن العرب تقول : هذا الأمر يصغر في جنب هذا أي يصغر بالإضافة إلى آخر فكذلك الآية معناها : يا حسرتا على مافرطت في جنب الله أي فيما بيني وبين الله إذ أضفت تفريطي إلى أمره ونهيه إياي
السادس قول من قال في قوله صلى الله عليه و سلم لا تسبوا الدهر أن فيه مذهب الدهرية
والسادس : قول من قال في قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ] إن هذا الذي في الحديث هو مذهب الدهرية ولم يعرف أن المعنى : لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب ولا تنسبوها إليه فإن الله هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر فإنكم إذا سببتم الدهر وقع السب على الفاعل لا على الدهر لأن العرب كان من عادتها في الجاهلية أن تنسب الأفعال إلى الدهر فتقول : أصابه الدهر في ماله ونابته قوارع الدهر ومصائبه فينسبون إلى كل شيء تجري به أقدار الله تعالى عليهم إلى الدهر فيقولون : لعن الله الدهر ومحا الله الدهر واشباه ذلك وإنما يسبونه لأجل الفعال المنسوبة إليه فكأنهم إنما سبوا الفاعل والفاعل هو الله وحده فكأنهم يسبونه سبحانه وتعالى
فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف يقع الخطأ في العربية في كلام الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم وأن ذلك يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه والصحابة رضوان الله عليهم برآء من ذلك لأنهم عرب لم يحتاجوا في فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تعلم ثم من جاء بعدهم ممن ليس بعربي اللسان تكلف ذلك حتى علمه وحينئذ داخل القوم في فهم الشريعة وتنزيلها على ما ينبغي فيها كسلمان الفارسي وغيره فكل من اقتدى بهم في تنزيل الكتاب والسنة على العربية ـ إن أراد أن يكون من أهل الاجتهاد فهو ـ إن شاء الله ـ داخل في سوادهم الأعظم كائن على ما كانوا عليه فانتظم في سلك الناجية
النوع الثاني الجهل بالمقاصدأن الله تعالى أنزل الشريعة فيها تبيان كل شيء
أن الله تعالى أنزل الشريعة على رسوله صلى الله عليه و سلم فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم ولم يمت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى بذلك حيث قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فكل من زعم أنه بقي في الدين شيء لم يكمل فقد كذب بقوله : اليوم أكملت لكم دينكم
فلا يقال : قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه ولا عموم ينتظمه وأن مسائل الجد في الفرائض والحرام في الطلاق ومسألة الساقط على جريح محفوف بجرحى وسائر المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها من كتاب ولا سنة فأين الكلام فيها ؟
فيقال في الجواب : أولا أن قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } إن اعتبرت فيها الجزئيات من المسائل والنوازل فهو كما أوردتم ولكن المراد كلياتها فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولا إلى نظر المجتهد فإن قاعدة الاجتهاد أيضا ثابتة في الكتاب والسنة فلا بد من إعمالها ولا يسع الناس تركها وإذا ثبت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالا للإجتهاد ولايوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل فالجزئيات لا نهاية لها فلا تنحصر بمرسوم وقد نص العلماء على هذا المعنى فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل
ثم نقول ثانيا : إن النظر في كمالها بحسب خصوص الجزئيات يؤدي إلى الإشكال والالتباس وإلا فهو الذي أدى إلى إيراد هذا السؤال إذ لو نظر السائل إلى الحالة التي وضعت عليها الشريعة وهي حالة الكلية لم يورد سؤاله لأنها موضوعة على الأبدية وإن وضعت الدنيا على الزوال والنهاية
وأما الجزئية فموضوعة على النهاية المؤدية إلى الحصر في التفصيل وإذ ذاك قد يتوهم أنها لم تكمل فيكون خلافا لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } وقوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل } الآية ولا شك أن كلام الله هو الصادق وما خالفه فهو المخالف فظاهر إذ ذاك أن الآية على عمومها وإطلاقها وأن النوازل التي لا عهد بها لا تؤثر في صحة هذا الكمال لأنها إما محتاج إليها وإما غير محتاج إليها فإن كانت محتاجا إليها فهي مسائل الاجتهاد الجارية على الأصول الشرعية فأحكامها قد تقدمت ولم يبق إلا منظر المجتهد إلى أي دليل يستند خاصة وإن كانت غير محتاج إليها فهي البدع المحدثات إذ لو كانت محتاجا إليها لما سكت عنها في الشرع لكنها مسكوت عنها بالفرض ولا دليل عليها فيه كما تقدم فليست بمحتاج إليها فعلى كل تقدير قد كمل الدين والحمد لله
ومن الدليل على أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم أنهم لم يسمع عنهم قط إيراد ذلك السؤال ولا قال أحد منهم : لم لم ينص على حكم الجد مع الإخوة ؟ وعلى حكم من قال لزوجته : أنت علي حرام ؟ واشباه ذلك مما لم يجدوا فيه عن الشارع نصا بل قالوا فيها وحكموا بالاجتهاد واعتبروا بمعان شرعية ترجع في التحصيل إلى الكتاب والسنة وإن لم يكن بالنص فإنه بالمعنى فقد ظهر إذا وجه كمال الدين على أتم الوجوه
وننتقل منه إلى معنى آخر وهو أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن مبرأ عن الإختلاف والتضاد ليحصل فيه كمال التدبر والاعتبار فقال سبحانه وتعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فدل معنى الآية على أنه بريء من الاختلاف فهو يصدق بعضه بعضا ويعضد بعضه بعضا من جهة اللفظ ومن جهة المعنى
فأما جهة اللفظ فإن الفصاحة فيه متواترة مطردة بخلاف كلام المخلوق
فإنك تراه إلى الاختلاف ما هو فيأتي بالفصل من الكلام الجزل الفصيح فلا يكاد يختمه إلا وقد عرض له في أثنائه ما نقص من منصب فصاحته وهكذا تجد القصيدة الواحدة منها ما يكون على نسق الفصاحة اللائقة ومنها ما لا يكون كذلك
وأما جهة المعنى فإن معاني القرآن على كثرتها أو على تكرارها بحسب مقتضيات الأحوال على حفظ وبلوغ غاية في إيصالها إلى غايتها من غير إخلال بشيء منها ولا تضاد ولا تعارض على وجه لا سبيل إلى البشر أن يدانوه ولذلك لما سمعته أهل البلاغة الأولى والفصاحة الأصلية ـ وهم العرب ـ لم يعارضوه ولم يغيروا في وجه إعجازه بشيء مما نفي الله تعالى عنه وهم أحرص ما كانوا على الإعتراض فيه والغض من جانبه ثم لما أسلموا وعاينوا معانيه وتفكروا في غرائبه لم يزدهم البحث إلا بصيرة في أنه لا اختلاف فيه ولا تعارض والذي نقل من ذلك يسير توقفوا فيه توقف المسترشد حتى يرشدوا إلى وجه الصواب أو توقف المتثبت في الطريق
وقد صح أن سهل بن حنيف قال يوم صفين وحكم الحكمين : يا أيها الناس اتهموا رأيكم فلقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره لرددناه وإيم الله ما وضعنا سيوفنا من على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا أمر نعرفه الحديث
فوجد الشاهد منه أمران : قوله اتهموا الرأي فإن معارضة الظواهر في غالب الأمر رأي غير مبني على أصل يرجع إليه وقوله في الحديث ـ وهو النكتة في الباب ـ : والله ما وضعنا سيوفنا إلى آخره فإن معناه : أن كل ما ورد عليهم في شرع الله مما يصادم الرأي فإنه حق يتبين على التدريج حتى يظهر فساد ذلك الرأي وأنه كان شبهة عرضت وإشكالا ينبغي أن لا يلتفت إليه بل يتهم أولا ويعتمد على ما جاء في الشرع فإنه إن لم يتبين اليوم تبين غدا ولو فرض أنه لا يتبين أبدا فلا حرج فإنه متمسك بالعروة الوثقى
وفي الصحيح [ عن عمر رضي الله عنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فكدت أساوره في الصلاة فصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ فقال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرسله اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كذلك أنزلت ـ ثم قال ـ اقرأ يا عمر ! القراءة التي أقرأني فقال ـ كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه ]
وهذه المسألة إنما هي إشكال وقع لبعض الصحابة في نقل الشرع بين لهم جوابه النبي صلى الله عليه و سلم ولم يكن ذلك دليلا على أن فيه اختلافا فإن الاختلاف بين المكلفين في بعض معانيه أو مسائله لا يستلزم أن يكون فيه نفسه اختلاف فقد اختلفت الأمم في النبوات ولم يكن ذلك دليلا على وقوع الاختلاف في نفس النبوات واختلفت في مسائل كثيرة من علوم التوحيد ولم يكن اختلافهم دليلا على وقوع الاختلاف فيما اختلفوا فيه فكذلك ما نحن فيه
وإذا ثبت هذا صح منه أن القرآن في نفسه لا اختلاف فيه ثم نبني على هذا معنى آخر وهو أنه لما تبين تنزهه عن الاختلاف صح أن يكون حكما بين جميع المختلفين لأنه إنما يقرر معنى هو الحق والحق لا يختلف في نفسه فكل اختلاف صدر من مكلف فالقرآن هو المهيمن عليه قال الله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فهذه الآية وما أشبهها صريحة في الرد إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة نبيه لأن السنة بيان الكتاب وهو دليل على أن الحق فيه واضح وأن البيان فيه شاف لا شيء بعده يقوم مقامه وهكذا فعل الصحابة رضي الله عنهم لأنهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة ردوها إلى الكتاب والسنة وقضاياهم شاهدة بهذا المعنى لا يجهلها من زوال الفقه فلا فائدة في جلبها إلى هذا الموضع لشهرتها فهو إذا مما كان عليه الصحابة
فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران أحدهما : أن ينظر إليها بعين الكمال
فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران :
أحدهما : أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان ويعتبرها اعتبارا كليا في العبادات والعادات ولا يخرج عنها البتة لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمي في عماية كيف وقد ثبت كمالها وتمامها ؟ فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق والمنحرف عن الجادة إلى بنيات الطرق
و الثاني أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن والثاني : أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر بل الجميع جار على مهيع واحد ومنتظم إلى معنى واحد فإذا أداه بادىء الرأي إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الإختلاف لأن الله قد شهد له أن لا إختلاف فيه فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع أو المسلم من غير اعتراق فإن كان الموضع مما يتعلق به حكم عملي فليلتمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين أو ليبق باحثا إلى الموت ولا عليه من ذلك فإذا اتضح له المغزى وتبينت له الواضحة فلا بد له من أن يجعلها حاكمة في كل ما يعرض له من النظر فيها ويضعها نصب عينيه في كل مطلب ديني كما فعل من تقدمنا ممن أثنى الله عليهم
فأما الأمر الأول : فهو الذي أغفله المبتدعون فدخل عليهم بسبب ذلك الاستدراك على الشرع وإليه مال كل من كان يكذب على النبي صلى الله عليه و سلم فيقال له ذلك ويحذر ما في الكذب عليه من الوعيد فيقول : لم أكذب عليه وإنما كذبت له
وحكي عن محمد بن سعيد المعروف بالأردني أنه قال : إذا كان الكلام حسنا لم أر بأسا أن أجعل له إسنادا فلذلك كان يحدث بالموضوعات وقد قتل في الزندقة وصلب
وقد تقدم لهذا القسم أمثلة كثيرة
وأما الأمر الثاني : فإن قوما أغفلوه أيضا ولم يمعنوا النظر حتى اختلف عليهم الفهم في القرآن والسنة فأحالوا بالأختلاف عليها تحسينا للظن بالنظر الأول وهذا هو الذي عاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من حال الخوارج حيث قال : [ يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ] فوصفهم بعدم الفهم للقرآن وعند ذلك خرجوا على أهل الإسلام إذ قالوا : لا حكم إلا لله وقد حكم الرجال في دين الله حتى بين لهم حبر القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما معنى قوله تعالى : { إن الحكم إلا لله } على وجه أذعن بسببه منهم ألفان أو من رجع منهم إلى الحق وتمادى الباقون على ما كانوا عليه اعتقادا ـ والله أعلم ـ على قول من قال منهم : لا تناظروه ولا تخاصموه فإنه من الذين قال الله فيهم : { بل هم قوم خصمون }
فتأملوا رحمكم الله كيف كان فهمهم في القرآن ثم لم يزل هذا الإشكال يعتري أقواما حتى اختلفت عليهم الآيات والأحاديث وتدافعت على أفهامهم فجعجعوا به قبل إمعان النظر
عشرة أمثلة امن اختلفت عليهم الآيات والأحاديث فظنوا أن في الشريعة تناقضا أحدها تناقض آية فأقبل بعضهم على بعض مع آية فإذا نفخ في الصور
ولنذكر من ذلك عشرة أمثلة :
أحدها : قول من قال : إن قوله تعالى : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } يتناقض مع قوله تعالى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون }
و الثاني تناقض آية فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان مع آية وليسئلن يومئذ عما كانوا
والثاني : قول من قال في قوله تعالى : { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } مضاد لقوله : { وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } وقوله تعالى : { ولتسألن عما كنتم تعملون }
و الثالث تناقض الآيات في مدة خلق السموات والأرض والثالث : قول من قال في قوله تعالى : { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين } إلى قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين } إن هذا صريح في أن الأرض مخلوقة قبل السماء وفي الآية الأخرى : { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها } فصرح بأن الأرض مخلوقة بعد السماء
ومن هذه الأسئلة ما أورده نافع بن الأزرق ـ أوغيره على ابن عباس رضي الله عنهما فخرج البخاري في المعلقات عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي وهي قوله تعالى : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } { ولا يكتمون الله حديثا } { والله ربنا ما كنا مشركين } فقد كتموا في هذه الآية : { أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها } إلى قوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال : { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إلى قوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } إلى قوله { طائعين } فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال : { وكان الله غفورا رحيما } { عزيزا حكيما } { سميعا بصيرا } فكأنه كان ثم مضى فقال ـ يعني ابن عباس : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } في النفخة الأولى { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله } فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ثم في النفخة الأخرى أقبل بعضهم على بعض يتساءلون
وأما قوله : { ما كنا مشركين } { ولا يكتمون الله حديثا } فإن الله عز و جل يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم وقال المشركون تعالوا نقول : لم نكن مشركين فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثا وعنده { يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض }
وقوله عز و جل : { خلق الأرض في يومين } { ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } في يومين آخرين ثم دحا الأرض ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله : دحاها وقوله تعالى : { خلق الأرض في يومين } فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السموات في يومين { وكان الله غفورا رحيما } سمى نفسه بذلك وذلك ( قوله ) أي لم يزل كذلك فإن الله عز و جل لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله
و الرابع مخالفة آية وإذ أخذ ربك من بني آدم الحديث أن الله خلق آدم
والرابع : قول من قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه فأخرج منه ذريته إلى يوم القيامة { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ] الحديث كما وقع مخالف لقول الله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ! فالحديث أنه أخذهم من ظهر آدم والكتاب يخبر أنه أخذ من ظهور آدم وهذا إذا تؤمل لا خلاف فيع لأن هيمكن الجمع بينهما بأن يخرجوا من صلب آدم عليه الصلاة و السلام دفعة واحدة على وجه لو خرجوا على الترتيب كما أخرجوا إلى الدنيا ولا محال في هذا بأن يتفطر في تلك الآخذة الأبناء عن الأبناء من غير ترتيب زمان وتكون النسبتان معا صحيحتين في الحقيقة لا على المجاز
مخالفة القضاء لحكم القرآن بالجلد والخامس : قول من قال فيما جاء في الحديث : [ أن رجلا قال : يا رسول الله نشدتك الله ! إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله فقال خصمه ـ وكان أفقه منه ـ : صدق اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي في أن أتكلم ] ثم أتى بالحديث فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما الوليدة والغنم فرد عليك وعلى ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأة هذا الرجم ] إلى آخر الحديث هو مخالف لكتاب الله لأنه قد قال : [ لأقضين بينكما بكتاب الله ] حسبما سأله السائل ثم قضى بالرجم والتغريب وليس لهما ذكر في كتاب الله
الجواب : إن الذي أوجب الإشكال في المسألة اللفظ المشترك في كتاب الله فكما يطلق على القرآن يطلق على ما كتب الله تعالى عنده مما هو حكمه وفرضه على العباد كان مسطورا في القرآن أو لا كما قال تعالى : { كتاب الله عليكم } أي حكم الله فرضه وكل ما جاء في القرآن من قوله : { كتاب الله عليكم } فمعناه فرضه وحكم به ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم في القرآن
و السادس لزوم تجزئة حد الرجم بحق الإماء والسادس : قول من زعم أن قوله تعالى في الإماء { أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من } لا يعقل مع ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم رجم ورجمت الأئمة بعده لأنه يقتضي أن الرجم ينتصف وهذا غير معقول فكيف يكون نصفه على الإماء ؟ ذهابا منهم إلى أن المحصنات هن ذوات الأزواج وليس كذلك بل المحصنات هنا المراد بهن الحرائر بدليل قوله أول الآية : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } وليس المراد هنا إلا الحرائر لأن ذوات الأزواج لا تنكح
منع نكاح المرأة على عمتها وخالتها وكون ما يحرم بالرضاع يحرم بالنسب مع عدم ذكره في القرآن في محرمات النكاح
والسابع : قولهم : إن الحديث :
[ جاء بأن المرأة لا تنكح على عمتها ولا على خالتها وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] والله تعالى لما ذكر المحرمات لم يذكر من الرضاع إلا الأم والأخت ومن الجمع إلا الجمع بين الأختين وقال بعد ذلك : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فاقتضى أن المرأة تنكح على عمتها وعلى خالتها وإن كان رضاع سوى الأم والأخت حلالا
وهذه الأشياء من باب تخصيص العموم لا تعارض فيه على حال
و الثامن تناقض حديث صلة الرحم تزيد من العمر مع آية فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
والثامن : قول من قال : إن قوله عليه الصلاة و السلام :
[ غسل الجمعة واجب على كل محتلم ] مخالف
لقوله : [ من توضأ يوم الجمعة فبها نعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل ]
والمراد بالوجوب هنا التأكيد خاصة بحيث لا يكون تركا للفرض وبه يتفق معنى الحديثين فلا اختلاف
والتاسع : قولهم جاء في الحديث :
[ صلة الرحم تزيد العمر ] والله تعالى يقول : { إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } فكيف تزيد صلة الرحم في أجل لا يؤخر ولا يقدم البتة
وأجيب عنه بأجوبة ( منها ) : أن يكون في علم الله أن هذا الرجل إن وصل رحمه عاش مائة سنة وإلا عاش ثمانين سنة مع أن في علمه أنه يفعل بلا بد أو أنه لا يفعل أصلا
وعلى كلا الوجهين إذا جاء أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم قاله ابن قتيبة وتبعه عليه القرافي
و العاشر تدافع حديث توضئته صلى الله عليه و سلم وهو جنب لأجل النوم وحديث نومه وهو جنب
والعاشر : قال في الحديث :
[ إنه عليه الصلاة و السلام كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة ] ثم فيه :
[ كان عليه الصلاة و السلام ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء ] وهذا تدافع والحديثان معا لعائشة رضي الله عنها
والجواب سهل فالحديثان يدلان على أن الأمرين موسع فيهما لأنه إذا فعل أحد الأمرين وأكثر منه وفعل الآخر أيضا وأكثر منه على ما تقتضيه كان يفعل حصل منهما أنه كان يفعل ويترك وهذا شأن المستحب فلا تعارض بينهما
فهذه عشرة أمثلة تبين لك مواقع الإشكال وإني رتبتها مع ثلج اليقين فإن الذي عليه كل موقن بالشريعة أنه لا تناقض فيها ولا اختلاف فمن توهم ذلك فيها فهو لم ينعم النظر ولا أعطى وحي الله حقه ولذلك قال الله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن } ؟ فحضهم على التدبر أولا ثم أعقبه : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فبين أنه لا اختلاف فيه وأن التدبر يعين على تصديق ما أخبر به
فصل النوع الثالث أي من مناشئ الإبتداع وهو تحسين الظن بالعقل أن الله جعل للعقول في إدراكها حدا
النوع الثالث :
أن الله جعل للعقول في إداركها حدا تنتهي إليه لا تتعداه ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون إذ لو كان كيف كان يكون ؟ فمعلومات الله لا تتناهى ومعلومات العبد متناهية والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى
وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلا وصفاتها وأحوالها وأفعالها وأحكامها جملة وتفصيلا فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أحواله ولا في أحكامه بخلاف العبد فإن علمه بذلك الشيء قاصر ناقص سواء كان في تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه وهو في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فيه عاقل تخرجه التجربة إذا اعتبرها الإنسان في نفسه
انقسام المعلومات إلى ضروري ونظري وواسطة بينهما ومكان الشرع منها ووجه توقفه على الأخبار
وأيضا : فأنت ترى المعلومات عند العلماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
قسم ضروري لا يمكن التشكيك فيه كعلم الإنسان بوجوده وعلمه بأن الاثنين أكثر من الواحد وأن الضدين لا يجتمعان
وقسم لا يعلمه البتة إلا أن يعلم به أو يجعل له طريق إلى العلم به وذلك كعلم المغيبات عنه كانت من قبيل ما يعتاد علم العبد به أو لا كعلمه بما تحت رجليه إلا أن مغيبه عنه تحت الأرض بمقدار شبر وعلمه بالبلد القاصي عنه الذي لم يتقدم له به عهد فضلا عم علمه بما في السموات وما في البحار وما في الجنة أو النار على التفصيل فعلمه لما لم يجعل له عليه دليل غير ممكن
وقسم نظري يمكن العلم به ويمكن أن لا يعلم به ـ وهي النظريات ـ وذلك القسم النظري هو الممكنات التي تعلم بواسطة لا بأنفسها إلا أن يعلم بها إخبارا
وقد زعم أهل العقول أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة لاختلاف القرائح والأنظار فإذا وقع الاختلاف فيها لم يكن بد من مخبر بحقيقتها في أنفسها إن احتيج إليها لأته لو لم تفتقر إلى الإخبار لم يصح العلم بها لأن المعلومات لا تختلف باختلاف الأنظار لأتها حقائق في أنفسها فلا يمكن أن يكون كل مجتهد فيها مصيبا ـ كما هو معلوم في الأصول ـ وإنما المصيب فيها واحد وهو لا يتعين إلا بالدليل
وقد تعارضت الأدلة في نظر الناظر فنحن نقطع بأن أحد الدليلين دليل حقيقة والآخر شبهة ولا يعين فلا بد من إخبار بالتعيين
ولا يقال : إن هذا قول الإمامية : لأنا نقول : بل هو يلزم الجميع فإن القول بالمعصوم غير النبي صلى الله عليه و سلم يفتقر إلى دليل لأنه لم ينص عليه الشارع نصا يقطع العذر
فالقول بإثباته نظري فهو مما وقع الخلاف فيه فكيف يخرج عن الخلاف بأمر فيه خلاف ؟ هذا لا يمكن
فإذا ثبت هذا رجعنا إلى مسألتنا فنقول : الأحكام الشرعية من حيث تقع على أفعال المكلفين من قبيل الضروريات في الجملة وإن اختلفوا في بعض التفاصيل فلتماسها ( ؟ )
ونرجع إلى ما بقي من الأقسام فإنهم قد أقروا في الجملة ـ أعني القائلين بالتشريع العقلي ـ أن منه نظريا ومنه ما لا يعلم بضرورة ولا نظر وهما القسمان الباقيان مما لا يعلم له أصل إلا من جهة الإخبار فلا بد فيه من الإخبار لأن العقل غير مستقل فيه وهذا إذا راعينا قولهم وساعدناهم عليه فإنا إن لم نلتزم ذلك على مذاهب أهل السنة فعندنا أن لا نحكم العقل أصلا فضلا عن أن يكون له قسم لا حكم له وعندهم أنه لا بد من حكم فلأجل ذلك نقول : لا بد من الافتقار إلى الخبر وحينئذ يكون العقل غير مستقل بالتفريع فإن قالوا : بل هو مستقل لأن ما لم يقض فيه فإما أن يقولوا فيه بالوقف ـ كما هو مذهب بعضهم ـ أو بأنه على الحظر أو الإباحة ـ كما ذهب إليه آخرون
فإن قالوا : بالثاني فهو مستقل وإن قالوا بالأول فكذلك أيضا لأنه قد ثبت استقلاله بالبعض فافتقاره في بعض الأشياء لا يدل على افتقاره مطلقا قلنا : بل هو مفتقر على الإطلاق لأن القائلين بالوقف اعترفوا بعدم استقلاله في البعض وإذا ثبت الافتقار في صورة ثبت مطلقا إذ وقف فيه العقل قد ثبت فيه ذلك وما لم يقف فيه فإنه نظري : فيرجع إلى ما تقدم في النظر وقد مر أنه لا بد من حكم ولا يمكن إلا من جهة الإخبار
وأما القائلون بعدم الوقف فراجعة أقوالهم أيضا إلية أن المسألة نظرية فلا بد من الإخبار وذلك معنى كون العقل لا يستقل بإدراك الأحكام حتى يأتي المصدق للعقل أو المكذب له
فإن قالوا : فقد ثبت قسم ضروري فيثبت الإستقلال قلنا : إن ساعدناكم على ذلك فلا يضرنا في دعوى الافتقار لأن الأخبار قد تأتي بما يدركه الإنسان بعقله تنبيها لغافل أو إرشادا لقاصر أو إيقاظا لمغمور بالعوائد يغفل عن كونه ضروريا فهو إذا محتاج إليه ولا بد للعقل من التنبيه من خارج وهي فائدة بعث الرسل فإنكم تقولون : إن حسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب أيضا والكفران معلوم ضرورة وقد جاء الشرع بمدح هذا وذم ذلك وأمر بهذا ونهى عن ذلك
فلو كان العقل غير مفتقر إلى التنبيه لزم المحال وهو الإخبار بما لا فا ئدة فيه لكنه أتى بذلك فدلنا على أنه نبه على أمر يفتقر العقل إلى التنبيه عليه هذا وجه
ووجه آخر : هو أن العقل لما ثبت أنه قاصر ووجه آخر : وهو أن العقل لما ثبت أنه قاصر الإدراك في علمه فما ادعى علمه لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التي زعم أنه أدركها لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه وعلى حال دون حال والبرهان على ذلك أحوال أهل الفترات فإنهم وضعوا أحكاما على العباد يمقتضى السياسات لا تجد فيها أصلا منتظما وقاعدة مطردة على الشرع بعد ما جاء بل استحسنوا أمورا تجد العقول بعد تنويرهابالشعر تنكرها وترميها بالجهل والضلال والبهتان والحمق مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم أشياء قد وافقت وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها ومع أنهم كانوا أهل عقول باهرة وأنظار صافية وتدبيرات لدنياهم غامضة لكنها بالنسبة إلى ما يصيبوا فيه قليلة فلأجل هذا كله وقع الإعذار والإنذار وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولله الحجة البالغة والنعمة السابغة
فالإنسان وإن زعم في الأمر أنه أدركه وقتله علما ـ لا يأتي عليه الزمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن عقل وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عيانا ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم ولا بذات دون ذات ولا بصفة دون صفة ولا فعل دون حكم فكيف يصح دعوى الاستقلال في الأحكام الشرعية وهي نوع من أنواع ما يتعلق به علم العبد ؟ لا سبيل له إلى دعوى الاستقلال البتة حتى يستظهر في مسألته بالشرع ـ إن كانت شرعية ـ لأن أوصاف الشارع لا تختلف فيها البتة ولا قصور ولا نقص بل مبادئها موضوعة على وفق الغايات وهي من الحكمة
ووجه ثالث إنقسام العلم إلى البديهي والضروري وغيره ووجه ثالث : وهو أن ما ندعي علمه في الحياة ينقسم ـ كما تقدم ـ إلى البديهي الضروري وغيره إلا من طريق ضروري إما بواسطة أو بغير واسطة إذ قد اعترف الجميع أن العلوم المكتسبة لا بد في تحصيلها من توسيط مقدمتين معترف بهما فإن كانتا ضروريتين فذاك وإن كانت مكتسبتين فلا بد في اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتين وينظر فيهما كما تقدم وكذلك إن كانت واحدة ضرورية وأخرى مكتسبة فلا بد للمكتسبة من مقدمتين فإن انتهينا إلى ضروريتين فهو المطلوب وإلا لزم التسلسل أو الدور وكلاهما محال فإذا لا يمكن أن نعرف غير الضروري إلا بالضروري
وحاصل الأمر أنه لا بد من معرفتها بمقدمتين حصلت لنا كل واحدة منهما مما عقلناه وعلمناه من مشاهد باطنة كالألم واللذة أو بدعي للعقل كعلمنا بوجودنا وبأن الاثنين أكثر من الواحد وبأن الضدين لا يمكن اجتماعهما وما أشبه ذلك مما هو لنا معتاد في هذه الدار فإنا لم يتقدم لنا علم إلا بما هو معتاد في هذا الدار وأما ما ليس بمعتاد فقبل النبوات لم يتقدم لنا به معرفة فلو بقينا على ذلك لم نحل ما لم نعرف إلا على ما عرفنا وأنكرنا من ادعى جواز قلب الشجر حيوانا والحيوان حجرا وما أشبه ذلك لأن الذي نعرفه من المعتادات المتقدمة خلاف هذه الدعوى
بحث خوارق العادات وإنكار المصرين على العادات لها فلما جاءت النبوات بخوارق العادات أنكرها من أصر على الأمور العادية واعتقادها سحرا أو غير ذلك كقلب العصا ثعبانا وفرق البحر وإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ونبع الماء من بين أصابع اليد وتكليم الحجر والشجر وانشقاق القمر إلى غير ذلك مما تبين به أن تلك العوائد اللازمة في العادات ليست بعقلية بحيث لا يمكن تخلفها بل يمكن أن تتخلف كما يجوز على كل مخلوق أن يصير من الوجود إلى العدم كما خرج من العدم إلى الوجود
فمبادىء العادات إذا يمكن عقلا تخلفها إذ لو كان عدم التخلف لها عقليا لم يمكن أن تتخلف لا لنبي ولا لغيره ولذلك لم يدع أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الجمع بين النقيضين ولا تحدى أحد بكون الاثنين أكثر من الواحد مع أن الجميع فعل الله تعالى وهو متفق عليه بين أهل الإسلام وإذا أمكن في العصا والبحر والأكمة والأبرص والأصابع والشجر وغير ذلك أمكن في جميع الممكنات لأن ما وجب للشيء وجب لمثله
وأيضا فقد جاءنا الشرع بأوصاف من أهل الجنة وأهل النار خارجة عن المعتاد الذي عندنا فإن كون الإنسان في الجنة يأكل ويشرب ثم لا يغوط ولا يبول غير معتاد وكون عرقه كرائحة المسك غير معتاد وكون الأزواج مطهرة من الحيض مع كونهن في حالة الصبا وسن من يحيض غير معتاد وكون الإنسان فيها لا ينام ولا يصيبه جوع ولا عطش وإن فرض لا يأكل ولايشرب أبد الدهر غير معتاد وكون الثمر فيها إذا قطف أخلف في الحال ويتدانى إلى يد القاطف إذا اشتهاه غير معتاد وكون اللبن والخمر والعسل فيها أنهارا من غير حلاب ولا عصر ولا نحل وكون الخمر لا تسكر غير معتاد وكون ذلك كله بحيث لو استعمله الإنسان دائما لا يمتلىء ولا يصيبه كظة ولا تخمة ولا يخرج من جسده لا من أذنه ولا أنفه ولا ارفاغه ولا سائر جسده أوساخ ولا أقذار غير معتاد وكون أحد من أهل الجنة لا يهرم ولا يشيخ ولا يموت ولا يمرض غير معتاد
وكذلك إذا نظرت أهل النار ـ عياذا بالله ـ وجدت من ذلك كثيرا ككون النار لا تأتي عليه حتى يموت كما قال تعالى : { لا يموت فيها ولا يحيا } وسائر أنواع الأحوال التي هم عليها كلها خارق للعادة
فهذان نوعان شاهدان لتلك العوائد وأشباهها بأنها ليست بعقلية وإنما هي وضعية يمكن تخلفها وإنما لم نحتج بالكرامات لأن أكثر المعتزلة ينكرونها رأسا وقد أقر بها بعضهم وإن ملنا إلى التعريف فلو اعتبر الناظر في هذا العالم لوجد لذلك نظائر جارية على غير معتاد
مناظرة شعيب بن أبي سعيد لراهب في الشام واسمع في ذلك أثرا غريبا حكاه ابن وهب من طريق إبراهيم بن نشيط :
قال : سمعت شعيب بن أبي سعيد يحدث : أن راهبا كان بالشام من علمائهم وكان ينزل مرة في السنة فتجتمع إليه الرهبان ليعلمهم ما أشكل عليهم من دينهم فأتاه خالد بن يزيد بن معاوية فيمن جاءه فقال له الراهب : أمن علمائهم أنت ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني قال الراهب : أليس تقولون : إنكم تأكلون في الجنة وتشربون ثم لا يخرج منكم أذى ؟ قال خالد : بلى ! قال الراهب : افلهذا مثل تعرفونه في الدنيا ؟ قال : نعم ! الصبي يأكل في بطن أمه من طعامها ويشرب من شرابها ثم لا يخرج منه أذى قال الراهب لخالد : أليس تقول إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني : قال : افليس تقولون : إن في الجنة فواكه تأكلون منها لا ينقص منها شيء ؟ قال خالد : بلى ! أفلهذا مثل في الدنيا تعرفونه ؟ قال خالد : نعم ! الكتاب يكتب منه كل شيء أحد ثم لا ينقص منه شيء قال الراهب : أليس تقول : إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني قال خالد : فتمعر وجهه ثم قال : إن هذا من أمة بسط لها في الحسنات ما لم يبسط لأحد انتهى المقصود من الخبر
وهو ينبه على أن ذلك الأصل الذي يظهر من أول الأمر أنه غير معتاد له أصل في المعتاد و هو تنزل للمنكر غير لازم ولكنه مقرب لفهم من قصر فهمه عن إدراك الحقائق الواضحات
فعلى هذا يصح قضاء العقل في عادي بانخرافه مع أن كون العادي عاديا مطردا غير صحيح أيضا فكل عادي يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار إذ قد ثبت في بعض الأنواع التي اختص الباري باختراعها والعقل لا يفرق بين خلق وخلق فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان على كل مخلوق ولذلك قال بعض المحققين من أهل الاعتبار : سبحان من ربط الأسباب بمسبباتها وخرق العوائد ليتفطن العارفون تنبيها على هذا المعنى المقرر
حكمة ربط الأسباب بالمسببات وحكمة خرق العوائد فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين :
أحدهما : أن لا يجعل العقل حاكما بإطلاق وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع بل الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم ـ وهو الشرع ـ ويؤخر ما حقه التأخير ـ وهو نظر العقل ـ لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل لأنه خلاف المعقول والمنقول بل ضد القضية هو الموافق للأدلة فلا معدل عنه ولذلك قال : اجعل الشرع في يمينك والعقل في يسارك تنبيها على تقدم الشرع على العقل
العقل غير حاكم بإطلاق والشرع حاكم عليه بإطلاق خرق العوائد لا ينبغي للعقل إنكاره بإطلاق
والثاني : أنه إذا وجد في الشرع أخبارا تقتضي ظاهرا خرق لعادة الجارية المعتادة فلا ينبغي له أن يقدم بين يديه الإنكار يإطلاق بل له سعة في أحد أمرين : إما أن يصدق به على حسب ما جاء ويكل علمه إلى عالمه وهو ظاهر قوله تعالى : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } يعني الواضح المحكم والمتشابه المجمل إذ لا يلزمه العلم به ولو لزم العلم به لجعل له طريق إلى معرفته وإلا كان تكليفا بما لا يطاق وإما أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر لأن إنكاره إنكار لخرق العادة فيه
وعلى هذا السبيل يجري حكم الصفات التي وصفت الباري بها نفسه لأن من نفاها نفى شبه صفات المخلوقين وهذا منفي عند الجمهور فبقي الخلاف في نفي عين الصفة أو إثباتها فالمثبت أثبتها على شرط نفي التشبيه والمنكر لأن يكون ثم صفة غير شبيهة بصفات المخلوقين منكر لأن يثبت أمر إلا على وفق المعتاد
فإن قالوا : هذا لازم فيما تنكره العقول بديهة كقوله :
[ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] فإن الجميع أنكروا ظاهره إذ العقل والحس يشهدان بأنها غير مرفوعة وأنت تقول : اعتقدوا أنها مرفوعة وتأولوا الكلام
إيضاح مطلب تحكيم العقل في الشرع بعشرة أمثلة قيل : لم نعن ما هو منكر ببداهة العقول وإنما عنينا ما للنظر فيه شك وارتياب كما نقول : إن الصراط ثابت والجواز عليه قد أخبر الشارع به فنحن نصدق به لأنه إن كان كحد السيف وشبهه لا يمكن استقرار الإنسان فوقه عادة فكيف يمشي عليه ؟ فالعادة قد تخرق حتى يمكن المشي والاستقرار والذين ينكرونه يقفون مع العوائد وينكرون أصل الصراط ولا يلتفتون إلى إمكان انخراق العوائد فإن فرقوا صار ذلك تحكما لأنه ترجيح في أحد المثلين دون الآخر من غير مرجح عقلي وقد صادفهم النقل فالحق الإقرار دون الإنكار
ولنشرح هذا المطلب بأمثلة عشرة :
الأول والثاني مسألتا الصراط والميزان أحدها : مسألة الصراط وقد تقدمت :
والثاني : مسألة الميزان إذ يمكن إثباته ميزانا صحيحا على ما يليق بالدار الآخرة وتوزن فيه الأعمال على وجه غيرعادي نعم يقر العقل بأن أنفس الأعراض ـ وهي الأعمال ـ لا توزن الموزونات عندنا في العادات ـ وهي الأجسام ولم يأت في النقل ما يعين أنه كميزاننا من كل وجه أو أنه عبارة عن الثقل أو أنفس الأعمال توزن بعينها فالأخلق الحمل إما على التسليم وهذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم إذ لم يثبت عنهم إلا مجرد التصديق من غير بحث عن نفس الميزان أو كيفية الوزن كما أنه لم يثبت عنهم في الصراط إلا ما ثبت عنهم في الميزان فعليك به فهو مذهب الصحابة رضي الله عنهم
فإن قيل : فالتأويل إذا خارج عن طريقتهم فأصحاب التأويل على هذا من الفرق الخارجة
قيل : لا لأن الأصل في ذلك التصديق بما جاء التسليم محضا أو مع التأويل نظر ( ؟ ) لا يبعد : إذ قد يحتاج إليه في بعض المواضع بخلاف من جعل أصله في تلك الأمور التكذيب بها فإنه مخالف لهم للسلك في الأحاديث مسلك التأويل أو عدمه لا أثر له لأنه تابع على كلتا الطريقتين لكن التسليم أسلم
والثالث مسألة عذاب القبر والثالث : مسألة عذاب القبر وهي أسهل ولا بعد ولا نكير في كون الميت يعذب برد الروح إليه عارية ثم تعذيبه على وجه لا يقدر البشر على رؤيته لذلك ولا سماعه فنحن نرى الميت يعالج سكرات الموت ويخبر بآلام لا مزيد عليها ولا نرى عليه من ذلك أثرا وكذلك أهل الأمراض المؤلفة وأشباه ذلك مما نحن فيه مثلها فلماذا يجعل استبعاد العقل صادا في وجه التصديق بأقوال الرسول الله صلى الله عليه و سلم ؟
والرابع مسألة سؤال الملكين للميت والرابع : مسألة سؤال الملكين للميت وإقعاده في قبره فإنه إنما يشكل إذا حكمنا المعتاد في الدنيا وقد تقدم أن تحكيمه بإطلاق غير صحيح لقصوره وإمكان خرق العوائد إما بفتح القبر حتى يمكن إقعاده أو بغير ذلك من الأمور التي لا تحيط بمعرفتها العقول
والخامس مسألة تطاير الصحف والسادس إنطاق الجوارح و السابع رؤية الله في الآخرة
والخامس : مسألة تطاير الصحف وقراءة من لم يقرأ قط وقراءته إياه وهو خلف ظهره كل ذلك يمكن فيه خرق العوائد فيتصوره العقل على وجه منها
والسادس : مسألة إنطاق الجوارح شاهدة على صاحبها لا فرق بينها وبين الأحجار والشجار التي شهدت لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالرسالة
والسابع : رؤية الله في الآخرة جائزة إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة ليس فيها اتصال أشعة ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا فضل جسم شفاف ولا غير ذلك والعقل لا يجزم بامتناع ذلك بديهة وهو إلى القصور في النظر أميل والشرع قد جاء بإثباتها فلا معدل عن التصديق
والثامن كلام الباري والتاسع إثبات الصفات والثامن : كلام الباري تعالى إنما نفاه من نفاه وقوفا مع الكلام الملازم للصوت والحرف وهو في حق الباري محال ولم يقف مع إمكان أن يكون كلامه تعالى خارجا عن مشابهة المعتاد على وجه صحيح لائق بالرب إذ لا ينحصر الكلام فيه عقلا ولا يجزم العقل بأن الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد محال فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الأخبار مجردا
والتاسع : إثبات الصفات كالكلام إنما نفاه من نفاه للزوم التركيب عنده في ذات الباري تعالى ـ على القول بإثباتها ـ فلا يمكن أن يكون واحدا مع إثباتها وهذا قطع من العقل الذي ثبت قصور إدراكه في المخلوقات فكيف لا يثبت قصوره في إدراكه إذا دعي التركيب بالنسبة إلى صفات الباري ؟ فكان من الصواب في حقه أن يثبت من الصفات ما أثبته الله لنفسه ويقر مع ذلك بالوحدانية له على الإطلاق والعموم
والعاشر تحكيم العقل على الله تعالى وبيان فساد ذلك وكون الله تعالى له الحجة البالغة والمشيئة المطلقة
والعاشر : تحكيم العقل على الله تعالى بحيث يقول : يجب عليه بعثة الرسل ويجب عليه الصلاح والأصلح ويجب عليه اللطف ويجب عليه كذا ـ إلى آخر ما ينطق به في تلك الأشياء ـ وهذا إنما نشأ من ذلك الأصل المتقدم وهو الاعتياد في الإيجاب على العباد ومن أجل الباري وعظمه لم يجترىء على إطلاق هذه العبارة ولا ألم بمعناها في حقه لأن ذلك المعتاد إنما حسن في المخلوق من حيث هو عبد محصور ممنوع والله تعالى ما يمنعه شيء ولا يعارض أحكامه حكم فالواجب الوقوف مع قوله : { قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } وقوله تعالى : { يفعل ما يشاء } وقوله تعالى : { إن الله يحكم ما يريد } { والله يحكم لا معقب لحكمه } { ذو العرش المجيد * فعال لما يريد }
السلف ـ آثارهم في عدم تحكيم عقولهم في صفات الله وعقائد دينه فالحاصل من هذه القصة أنه لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله بل يكون ملبيا من وراء وراء
ثم نقول : إن هذا هو المذهب للصحابة رضي الله عنهم وعليه دأبوا وإياه اتخذوا طريقا إلى الجنة فوصلوا ودل على ذلك من سيرهم أشياء :
منها : أنه لم ينكر أحد مهنم ما جاء من ذلك بل أقروا وأذعنوا لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم ولم يصادموه ولا عارضوه بإشكال ولو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر سيرهم وما جرى بينهم من القضايا والمناظرات في الأحكام الشرعية فلما لم ينقل إلينا شيء من ذلك دل على أنهم آمنوا به وأقروه كما جاء من غير بحث ولا نظر
كان مالك بن أنس يقول : الكلام في الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل فأما الكلام في الدين وفي الله عز و جل فالسكوت أحب إلي لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل
قال ابن عبد البر : قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو مباح عنده وعند أهل بلده ـ يعني العلماء منهم وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه وضرب مثلا نحو رأي جهم والقدر ـ قال ـ والذي قاله مالك عليه جماعة الفقهاء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى وإنما خالف في ذلك أهل البدع ـ وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع في درء الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه وخشي ضلالة عامة أو نحو هذا
وقال يونس بن عبد الأعلى : سمعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد قال لي : يا أبا موسى ! لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه
وقال أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في المسائل إلا وفي قلبه دغل
( وقال ) عن الحسن بن زياد الؤلؤي ـ وقال له رجل في زفر بن الهذيل ـ أكان ينظر في الكلام ؟ فقال : سبحان الله ما أحمقك ! ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وابا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم ـ همهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم
وقال ابن عبد البر : أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في الأمصار في جميع طبقات العلماء وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالاتفاق والميز والفهم
وعن أبي الزناد أنه قال : وايم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة ونتعلمها شبيها بتعلمنا آي القرآن وما برح من أدركنا من أهل الفقه والفضل من خيار أولية الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالرأي وينهون عن لقائهم ومجالستهم ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف لتأويل كتاب الله وسنن رسوله وما توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث وزجر عن ذلك وحذره المسلمين في غير موطن حتى كان من قوله كراهية لذلك
[ ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم ]
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : اتقوا الله في دينكم قال سحنون : يعني الانتهاء عن الجدل فيه وخرج ابن وهب عن عمر أيضا : إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم قال أبو بكر بن أبي داود : أهل الرأي هم أهل البدع وهو القائل في قصيدته في السنة :
( ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح )
وعن الحسن قال : إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا
وعن مسروق قال : من رغب برأيه عن أمر الله يضل وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول : السنن السنن إن السنن قوام الدين وعن هشام بن عروة قال : إن بني إسرائيل لم يزل أمرهم معتدلا حتى نشأ فيهم مولدون سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا
فهذه الآثار وأشباهها تشير إلى ذم إيثار نظر العقل على آثار النبي صلى الله عليه و سلم
وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بالرأي المذموم في هذه الأخبار البدع المحدثة في الاعتقاد كرأي جهم وغيره من أهل الكلام لأنهم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم في رد الأحاديث فقالوا : لا يجوز أن يرى الله في الآخرة أنه تعالى يقول : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف } الآية
فردوا قوله عليه الصلاة و السلام : [ إنكم ترون ربكم يوم القيامة ] وتأولوا قول اله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } وقالوا : لا يجوز أن يسأل الميت في قبره لقول الله تعالى : { أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } فردوا الأحاديث المتواترة في عذاب القبر وفتنته وردوا الأحاديث في الشفاعة على تواترها وقالوا : لن يخرج من النار من دخل فيها : وقالوا : لا نعرف حوضا ولا ميزانا ولا نعقل ما هذا وردوا السنن في ذلك كله ـ برأيهم وقياسهم ـ إلى أشياء يطول ذكرها من كلامهم في صفة الباري وقالوا : العلم محدث في حال حدوث المعلوم لأنه لا يقع علم إلا على معلوم فرارا من قدم العالم ـ في زعمهم ـ
وقال جماعة : الرأي المذموم المراد به الرأي المبتدع وشبهه من ضروب البدع وهذا القول أعم من الأول لأن الأول خاص بالاعتقاد وهذا عام في العمليات وغيرها
وقال آخرون ـ قال ابن عبد البر : وهم الجمهور ـ إن المراد به القول في الشرع بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصولها فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل قالوا : وفي الاشتغال بهذا تعطيل السنن والتذرع إلى جهلها
وهذا القول غير خارج عما تقدم وإنما الفرق بينهما أن هذا منهي عنه للذريعة إلى الرأي المذموم وهو معارضة المنصوص لأنه إذا لم يبحث عن السنن جهلها فاحتاج إلى الرأي فلحق بالأولين الذين عارضوا السنن حقيقة فجميع ذلك راجع إلى معنى واحد وهو إعمال النظر العقلي مع طرح السنن إما قصدا أو غلطا وجهلا والرأي إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة
فالحاصل من مجموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم لم يعارضوا ما جاء في السنن بآرائهم علموا معناه أو جهلوه جرى لهم على معهودهم أو لا وهو المطلوب من نقله وليعتبر فيه من قدم الناقص ـ وهو العقل ـ على الكامل ـ وهو الشرع ـ ورحم الله الربيع بن خثيم حيث يقول : يا عبد الله ! ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه لا تتكلف فإن الله يقول لنبيه : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين }
وعن معمر بن سليمان عن جعفر عن رجل من علماء أهل المدينة قال : إن الله علم علما علمه العباد وعلم علما لم يعلمه العباد فمن تكلف العلم الذي لم يعلمه العباد لم يزدد منه إلا بعدا قال : والقدر منه
وقال الأوزاعي : كان مكحول و الزهري يقولان : أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تتناظروا فيها : ومثله عن مالك و الأوزاعي و سفيان بن سعيد و سفيان بن عيينة و معمر بن راشد في الأحاديث في الصفات أنهم أمرواها كما جاءت نحو الحديث :
[ التنزل ]
[ وخلق آدم على صورته وشبههما ] وحديث مالك في السؤال عن الاستواء مشهور
وجميع ما قالوه مستمد من معنى قول الله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } الآية ثم قال : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } فإنها صريحة في هذا الذي قررناه فإن كل ما لم يجر على المعتاد في الفهم متشابه فالوقف عنه هو الأحرى بما كان عليه الصحابة المتبعون لرسول الله صلى الله عليه و سلم إذ لو كان من شأنهم اتباع الرأي لم يذموه ولم ينهوا عنه لأن أحدا لا يرتضي طريقا ثم ينهى عن سلوكه كيف وهم قدوة الأمة باتفاق المسلمين !
وروي عن الحسن كان في مجلس فذكر فيه أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فقال : إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة تبيه صلى الله عليه و سلم فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم ـ ورب الكعبة ـ على الهدي المستقيم
وعن حذيفة أنه كان يقول : اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم فلعمري لئن اتبعتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا أو شمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا
وعن ابن مسعود : من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها خلالا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه و سلم وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم
والآثار في هذا المعنى كثيرة جميعها يدل على الاقتداء بهم والاتباع لطريقهم على كل حال وهو طريق النجاة حسبما نبه عليه حديث الفرق في قوله : [ ما أنا عليه وأصحابي ]
فصل النوع الرابع أي من مناشئ الإبتداع وهو إتباع الهوى النوع الرابع :
أن الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله وهذا أصل قد تقرر في قسم المقاصد من كتاب الموافقات لكن على وجه كلي يليق بالأصول فمن أراد الإطلاع عليه فليطالعه من هنالك
ولما كانت طرق الحق متشعبة لم يمكن أن يؤتى عليها بالاستيفاء فلنذكر منها شعبة واحدة تكون كالطريق لمعرفة ما سواها
تشعب طرق الحق وبيان كون الشريعة حجة على الخلق فاعلموا أن الله تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم مطيعهم وعاصيهم برهم وفاجرهم لم يختص بها أحدا دون أحد وكذلك سائر الشرائع إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأمم التي تنزل فيهم تلك الشريعة حتى إن المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها
فأنت ترى أن نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته مما اختص بد دون أمته أو كان عاما له ولأمته كقوله تعالى : { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك } إلى قوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } إلى قوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج } وقوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } وقوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } إلى سائر التكاليف التي وردت على كل مكلف والنبي فيهم فالسريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلفين وهي الطرق الموصل والهادي الأعظم
ألا ترى إلى قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فهو عليه الصلاة و السلام أول من هداه الله بالكتاب والإيمان ثم من اتبعه فيه والكتاب هو الهادي والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدي والخلق مهتدون بالجميع ولما استنار قلبه وجوارحه ـ عليه الصلاة و السلام ـ وباطنه وظاهره بنور الحق علما وعملا صار هو الهادي الأول لهذه الأمة والمرشد الأعظم حيث خصه الله دون الخلق بإنزال ذلك النور عليه واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشرية اصطفاء أوليا لا من جهة كونه بشرا عاقلا ـ مثلا ـ لاشتراكه مع غيره في هذه الأوصاف ولا لكونه من قريش ـ مثلا ـ دون غيرهم وإلا لزم ذلك في كل قرشي ولا لكونه من بني عبد المطلب ولا لكونه عربيا ولا لغير ذلك بل من جهة اختصاصه بالوحي الذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن حتى نزل فيه : { وإنك لعلى خلق عظيم } وإنما كان خلقه القرآن لأنه حكم الوحي على نفسه حتى صار في علمه وعمله على وفقه فكان الوحي حاكما وافقا قائلا وكان هو عليه الصلاة و السلام مذعنا ملبيا نداءه واقفا عند حكمه وهذه الخاصية كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به إذ قد جاء بالأمر وهو مؤتمر وبالنهي وهو منته وبالوعظ وهو متعظ وبالتخوف وهو أول الخائفين وبالترجية وهو سائق دابة الراجين
وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه ودلالة له على الصراط المستقيم الذي سار عليه السلام ولذلك صار عبد الله حقا وهو أشرف اسم تسمى به العباد فقال الله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } وما أشبه ذلك من الآيات التي وقع مدحه بصحة العبودية
وإذا كان كذلك فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومنارا يهتدون بها إلى الحق وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها والعمل بها قولا واعتقادا وعملا لا بحسب عقولهم فقط ولا بحسب شرفهم في قومهم فقط لأن الله تعالى إنما اثبت الشرف لا غيرها لقوله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فمن كان أشد محافظة على اتباع الشريعة فهو أولى بالشرف والكرم ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشرف مبلغ الأعلى في اتباعها فالشرف إذا إنما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشريعة
تفضيل علوم الشريعة على سائر العلوم ثم نقول بعد هذا : إن الله سبحانه شرف أهل العلم ورفع أقدارهم وعظم مقدارهم ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع بل قد اتفق العقلاء على فضيلة العلم وأهله وأنهم المستحقون شرف المنازل وهو مما لا ينازع فيه عاقل
واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة افضل العلوم وأعظمها أجرا عند الله يوم القيامة ولا علينا أسامحنا بعض الفرق في تعيين العلوم ـ أعني العلوم التي نبه الشارع على مزيتها وفضليتها ـ أم لم نسامحهم بعد الاتفاق على الأفضلية وإثبات الحرية
وأيضا فإن علوم الشريعة منها ما يجري محرى الوسائل بالنسبة إلى السعادة الأخروية ومنها ما يجري مجرى المقاصد والذي يجري المقاصد أعلى مما ليس كذلك ـ بلا نزاع بين العقلاء أيضا ـ كعلم العربية بالنسبة إلى علم الفقه فإنه كالوسيلة فعلم الفقه أعلى
وإذا ثبت هذا فأهل العلم أشرف الناس وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع وإنما وقع الثناء في الشريعة على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم لا من جهة أخرى ودل على ذلك وقوع الثناء عيهم مقيدا بالاتصاف به فهو إذا العلة في الثناء ولولا ذلك الاتصاف لم يكن لهم مزية على غيرهم ومن ذلك صار العلماء حكاما على الخلائق أجمعين قضاء أو فتيا أو إرشادا لأنهم اتصفوا بالعلم الشرعي الذي هو حاكم بإطلاق فليسوا بحكام من جهة ما اتصفوا بوصف يشتركون فيه مع غيرهم كالقدرة والإرادة والعقل وغير ذلك إذ لا مزية في ذلك من حيث القدر المشترك لاشتراك الجميع فيها وإنما صاروا حكاما على الخلق مرجوعا إليهم بسبب جملهم للعلم الحاكم فلزم من ذلك أنهم لا يكونون حكاما على الخلق إلا من ذلك كما أنهم ممدحون من ذلك الوجه أيضا فلا يمكن أن يتصفوا بوصف الحكم مع فرض خروجهم عن صوت العلم الحاكم إذ ليسوا حجة إلا من جهته فإذا خرجوا عن جهته فكيف يتصور أن يكونوا أحكاما ؟ هذا محال
وكما أنه لا يقال في العالم بالعربية مهندس ولا في العالم بالهندسة عربي فكذلك لا يقال في الزائغ عن الحكم الشرعي حاكم بالشرع بل يطلق عليه أنه حاكم بعقله أو برأيه أو نحو ذلك فلا يصح أن يجعل حجة في العلم الحاكم لأن العلم الحاكم يكذبه ويرد عليه وهذا المعنى أيضا في الجملة متفق عليه لا يخالف فيه أحد من العقلاء
ثم نصير من هذا إلى معنى آخر مرتب عليه وهو أن العالم بالشريعة إذ اتبع في قوله وانقاد إليه الناس في حكمه فإنما اتبع من حيث هو عالم وحاكم بها وحاكم بمقتضاها لا من جهة أخرى فهو في الحقيقة مبلغ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم المبلغ عن الله عز و جل فيتلقى منه ما بلغ على العلم بأنه بلغ أو على غلبة الظن بأنه بلغ لا من جهة كونه منتصب للحكم مطلقا إذ لا يثبت ذلك لأحد على الحقيقة وإنما هو ثابت للشريعة المنزلة على رسول الله صلى الله عليه و سلم وثبت ذلك له عليه الصلاة و السلام وحده دون الخلق من جهة دليل العصمة والبرهان أن جميع ما يقوله أو يفعله حق فإن الرسالة المقترنة بالمعجزة على ذلك دلت فغيره لم يثبت له عصمة بالمعجزة بحيث بمقتضاها حتى يساوي النبي صلى الله عليه و سلم في الانتصاب للحكم بإطلاق بل إنما يكون منتصبا على شرط الحكم بمقتضى الشريعة بحيث إذا وجد الحكم في الشرع بخلاف ما حكم لم يكن حاكما إذا كان ـ بالفرقـ خارجا عن مقتضى الشريعة الحاكمة وهو أمر متفق عليه بين العلماء ولذلك إذا وقع النزاع في مسألة شرعية وجب ردها إلى الشريعة حيث يثبت الحق فيها لقوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }
المكلف بأمور الشريعة لا يخلو من أحد أمور ثلاثة أحدها أن يكون مجتهدا فيها حكمه ما أداه إليه إجتهاده
فإذا المكلف بأحكامها لا يخلو من أحد أمور ثلاثة :
أحدها : أن يكون مجتهدا فيها فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها لأن اجتهاده في الأمور التي ليست دلالتها واضحة إنما يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو الأقرب إلى قصد الشارع والأولى بأدلة الشريعة دون ما ظهر لغيره من المجتهدين فيجب عليه اتباع ما هو الأقرب بدليل أنه لا يسعه فيما اتضح فيه الدليل إلا اتباع الدليل دون ما أداه إليه اجتهاده ويعد ما ظهر له لغوا كالعدم لأنه على غير صوب الشريعة الحاكمة فإذا ليس قوله بشيء يعتد به في الحكم
الثاني أن يكون مقلدا صرفا والثاني : أن يكون مقلدا صرفا خليا من العلم الحاكم جملة فلا بد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه وعالم يقتدي به ومعلوم أنه لا يقتدى به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم والدليل على ذلك أنه لو علم أو غلب على ظنه أنه ليس من أهل ذلك العلم لم يحل له اتباعه ولا الانقياد لحكمه بل لا يصح أن يخطر بخاطر العامي ولا غيره تقليد الغير في أمر مع علمه بأنه ليس من أهل ذلك الأمر كما أنه لا يمكن أن يسلم المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب إلا ان يكون فاقد العقل وإذا كان كذلك فإنما ينقاد إلى المفتي من جهة ما هو عالم بالعلم الذي يجب الانقياد إليه لا من جهة كونه فلانا أيضا وهذه الجملة أيضا لا يسع الخلاف فيها عقلا ولا شرعا
الثالث أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين والثالث : أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين لكنه يفهم الدليل وموقعه ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتبرة فيه تحقيق المناط ونحوه فلا يخلو إما أن يعتبر ترجيحه أو نظره أو لا فإن اعتبرناه صار مثل المجتهد في ذلك الوجه والمجتهد إنما هو تابع للعلم الحاكم ناظر نحوه متوجه شطره : فالذي يشبهه كذلك وإن لم نعتبره فلا بد من رجوعه إلى درجة العامي والعامي إنما اتبع المجتهد من جهة توجهه إلى صوب العلم الحاكم فكذلك من نزل منزلته
ثم نقول : إن هذا مذهب الصحابة : أما النبي صلى الله عليه و سلم فاتباعه للوحي أشهر من أن يذكر وأما أصحابه فاتباعهم له في ذلك من غير اعتبار بمؤالف أو مخالف شهير عنهم فلا نطيل الاستدلال عليه
فعلى كل تقدير لا يتبع أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة قائم بحجتها حاكم بأحكامها جملة وتفصيلا وأنه من وجد متوجها غير تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع لم يكن حاكما ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة
فيجب إذا على الناظر في هذا الموضع أمران إذا كان عير مجتهد :
أحدهما : أن لا يتبع العالم إلا من جهة ما هو عالم بالعلم المحتاج إليه ومن حيث هو طريق إلى استفادة ذلك العلم إذ ليس لصاحبه منه إلا كونه مودعا له ومأخوذا بأداء تلك الأمانة حتى إذا علم أو غلب على الظن أنه مخطىء فيما يلقى أو تارك لإلقاء تلك الوديعة على ما هي عليه أو منحرف عن صوبها بوجه من وجوه الانحراف توقف ولم يصر على الاتباع إلا بعد التبيين إذ ليس كل ما يلقيه العالم يكون حقا على الإطلاق لإمكان الزلل والخطأ وغلبة الظن في بعض الأمور وما اشبه ذلك
أما إذا كان هذا المتبع ناظرا في العلم ومتبصرا فيما يلقى إليه كأهل العلم في زماننا فإن توصله إلى الحق سهل لأن المنقولات في الكتب إما تحت حفظه وإما معدة لأن يحققها بالمطالعة أو المذاكرة
اجتهاد العامي في اختيار من يقلد وأما إن كان عاميا صرفا فيظهر له الإشكال عند ما يرى الاختلاف بين الناقلين للشريعة فلا بد له ها هنا من الرجوع آخرا إلى تقليد بعضهم إذ لا يمكن في المسألة الواحدة تقليد مختلفين في زمان واحد لأنه محال وخرق للإجماع فلا يخلو أن يمكنه الجمع بينهما في العمل أو لا يمكته فإن لم يمكنه بهما كان عمله بهما معا محالا وإن أمكنه صار عمله ليس على قول واحد منهما بل هو قول ثالث لا قائل به ويعضد ذلك أنه لا نجد صورة ذلك العمل معمولا بها في المتقدمين من السلف الصالح فهو مخالف للإجماع
وإذا ثبت أنه لا يقلد إلا واحدا فكل واحد منهما يدعي أنه أقرب إلى الحق من صاحبه ولذلك خالفه وإلا لم يخالفه والعامي جاهل بمواقع الاجتهاد فلا بد له ممن يرشده إلى من هو أقرب منهما وذلك إنما يثبت للعامي بطريق جملي وهو ترجيح أحدهما على الآخر بالأعلمية والأفضلية ويظهر ذلك من جمهور العلماء والطالبين لا يخفى عليهم مثل ذلك لأن الأعلمية تغلب على ظن العامي أن صاحبها أقرب إلى صوب العلم الحاكم لا من جهة أخرى فإذا لا يقلد إلا باعتبار كونه حاكما بالعلم الحاكم
والأمر الثاني : أن لا يصمم على تقليد من تبين له في تقليده الخطأ شرعا وذلك أن العامي ومن جرى مجراه قد يكون متبعا لبعض العلماء إما لكونه أرجح من غيره أو عند أهل قطره وإما لأنه هو الذي اعتمده أهل قطره في التفقه في مذهبه دون مذهب غيره
وعلى كل تقدير فإذا تبين له في بعض مسائل متنوعة الخطأ والخروج عن صوب العلم الحاكم فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادي على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه لأن تعصبه يؤدي إلى مخالفة الشرع أولا ثم إلى مخالفة متبوعة أما خلافه للشرع فبالعرض وأما خلافه لمتبوعه فلخروجه عن شرط الاتباع لأن كل عالم يصرح أو يعرض بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا بغيرها فإذا ظهر أنه حاكم بخلاف الشريعة خرج عن شرط متبوعه بالتصميم على تقليده
أمر مالك و الشافعي بالإتباع دون تقليدهما ومن معنى كلام مالك رحمه الله : ما كان من كلامي موافقا للكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه هذا معنى كلامه دون لفظه
ومن كلام الشافعي رحمه الله : الحديث مذهبي فما خالفه فاضربوا به الحائط أو كما قال قال العلماء : وهذا لسان حال الجميع ومعناه أنكل ما تتكلمون به على تحري أنه طابق الشريعة الحاكمة فإن كان كذلك فبها ونعمت وما لا فليس بمنسوب إلى الشريعة ولا هم أيضا ممن يرضى أن تنسب إليهم مخالفتها
لكن يتصور في هذا المقام وجهان : أن يكون المتبوع مجتهدا فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى ما اجتهد فيه وهو الشريعة وأن يكون مقلدا لبعض العلماء كالمتأخرين الذين من شأنهم تقليد المتقدمين بالنقل من كتبهم والتفقه في مذاهبهم فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى صحة النقل عمن نقلوا عنه وموافقتهم لمن قلدوا أو خلاف ذلك لأن هذا القسم مقلدون بالعرض فلا يسعهم الاجتهاد في استنباط الأحكام إذ لم يبلغوا درجته فلا يصح تعرضهم للإجتهاد في الشريعة مع قصورهم عن درجته فإن فرض انتصابه للإجتهاد فهو مخطىء آثم أصاب أم لم يصب لأنه أتى الأمر من غيره وانتهك حرمة الدرجة وقفا ما ليس له به علم فإصابته ـ إن أصاب ـ من حيث لا يدري وخطؤه هو المعتاد فلا يصح ابتاعه كسائر العوام إذا راموا الاجتهاد في أحكام الله ولاخلاف أن مثل هذا الاجتهاد غير معتبر وأن مخالفة العامي كالعدم وأنه في مخالفته لأهل العلم آثم مخطىء فكيف يصح ـ مع هذا التقرير ـ تقليد غير مجتهد في مسألة أتى فيها باجتهاده ؟
ولقد زل ـ بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال ـ اقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل
عشرة أمثلة لاتباع الهوى والتقليد أحدها : قول من جعل إتباع الآباء في أصل الدين هو الرجوع إليه
ولنذكر عشرة أمثلة :
أحدها : وهو أشدها قول من جعل اتباع الآباء في أصل الدين هو المرجوع إليه دون غيره حتى ردوا بذلك براهين الرسالة وحجة القرآن ودليل العقل فقالوا : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } فحين نبهوا على وجه الحجة بقوله تعالى : { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } لم يكن لهم جواب إلا الإنكار اعتمادا على اتباع الآباء واطراحا لما سواه ولم يزل مثل هذا مذموما في الشرائع كما حكى الله عن قوم نوح عليه السلام بقوله : { ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } وعن قوم إبراهيم عليه الصلاة و السلام بقوله تعالى : { قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } إلى آخر ذلك مما في معناه فكان الجميع مذمومين حين اعتبروا واعتقدوا أن الحق تابع لهم ولم يلتفتوا إلى أن الحق هو المقدم
والثاني رأي الإمامية و الثالث مذهب الفرقة المهدوية و الرابع رأي بعض المقلدة لمذهب إمام
والثاني : رأي الإمامية في اتباع الإمام المعصوم ـ في زعمهم ـ وإن خالف ما جاء يه النبي المعصوم حقا وهو محمد صلى الله عليه و سلم فحكموا الرجال على الشريعة ولم يحكموا الشريعة على الرجال وإنما أنزل الكتاب ليكون حكما على الخلق على الإطلاق والعموم
والثالث : لاحق بالثاني وهو مذهب الفرقة المهدوية التي جعلت أفعال مهديهم حجة وافقت حكم الشريعة أو خالفت بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة ( ؟ ) في عقد إيمانهم من خالفها كفروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي وقد تقدم من ذلك أمثلة
والرابع : رأي المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير وفوقوا إليه سهام النقد وعدوه من الخارجين عن الجادة والمفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل بل بمجرد الاعتياد العامي
ولقد لقي الإمام بقي بن مخلد حين دخل الأندلس آتيا من المشرق من هذا الصنف الأمرين حتى أصاروه مهجور الفناء مهتضم الجانب لأنه من العلم بما لا يدي لهم به إذ لقي بالمشرق الإمام أحمد بن حنبل وأخذ عنه مصنفه وتفقه عليه ولقي أيضا غيره حتى صنف المسند المصنف الذي لم يصنف في الإسلام مثله وكان هؤلاء المقلدة قد صمموا على مذهب مالك بحيث أنكروا ما عداه وهذا تحكيم الرجال على الحق والغلو في محبة المذهب وعين الإنصاف ترى أن الجميع أئمة فضلاء فمن كان متبعا لمذهب مجتهد لكونه لم يبلغ درجة الاجتهاد فلا يضره مخالفة غير إمامه لإمامه لأن الجميع سالك على الطريق المكلف به فقد يؤدي التغالي في التقليد إلى إنكار لما أجمع الناس على ترك إنكاره
والخامس : رأي نابتة متأخرة الزمان من المتصوفة والخامس : رأي نابتة متأخرة الزمان ممن يدعي التخلق بخلق أهل التصوف المتقدمين أو يروم الدخول فيهم يعمدون إلى ما نقل عنهم في الكتب من الأحوال الجارية عليهم أو الأقوال الصادرة عنهم فيتخذونها دينا وشريعة لأهل الطريقة وإن كانت مخالفة للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة أو مخالفة لما جاء عن السلف الصالح لا يلتفتون إلى فتيا مفت ولا نظر عالم بل يقولون : إن صاحب هذا الكلام ثبتت ولايته فكل ما يفعله أو يقلوه حق وإن كان مخالفا فهو أيضا ممن يقتدى به والفقه للعموم وهذه طريقة الخصوص !
فتراهم يحسنون الظن بتلك الأقوال والأفعال ولا يحسنون الظن بشريعة محمد صلى الله عليه و سلم وهو عين اتباع الرجال وترك الحق مع أن أولئك المتصوفة الذين ينقل عنهم لم يثبت أن ما نقل عنهم كان في النهاية دون البداية ولا علم أنهم كانوا مقرين بصحة ما صدر عنهم أم لا وأيضا فقد يكون من أئمة التصوف وغيرهم من زل زلة يجب سترها عليه فينقلها عنه من لا يعلم حاله ممن لم يتأدب بطريق كل التأدب
وقد حذر السلف الصالح من زلة العالم وجعلوها من الأمور التي تهدم الدين فإنه ربما ظهرت فتطير في الناس كل مطار فيعدونها دينا وهي ضد الدين فتكون الزلة حجة في الدين
فكذلك أهل التصوف لا بد في الاقتداء بالصوفي من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يحكم عليها : هل هي من جملة ما يتخذ دينا أم لا ؟ والحاكم هو الشرع وأقوال العالم تعرض على الشرع أيضا وأقل ذلك في الصوفي أن نسأله عن تلك الأعمال إن كان عالما بالفقه كالجنيد وغيره رحمهم الله
ولكن هؤلاء الرجال النابتة لا يفعلون ذلك فصاروا متبعين الرجال من حيث هم رجال لا من حيث هم راجحون بالحاكم الحق وهو خلاف ما عليه السلف الصالح وما عليه المتصوفة أيضا إذ قال إمامهم سهل بن عبد الله التستري : مذهبنا مبني على ثلاثة أصول : الاقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم في الأخلاق والأفعال والأكل من الحلال وإخلاص النية في جميع الأعمال ولم يثبت في طريقهم اتباع الرجال على انحراف وحاشاهم من ذلك بل اتباع الرجال شأن أهل ا لضلال
والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر في العلم الذي هم أرادوا الكلام فيه والعمل بحسبه ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ الذين أخذوا عنهم في زمان الصبا الذي هو مظنة لعدم التثبت من الآخذ أو التغافل من المأخوذ عنه ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات الكمال ونسبوا إليهم ما نسبوا به من خطأ أو فهموا عنهم على غير تثبت ولا سؤال عن تحقيق المسألة المروية وردوا جميع ما نقل عن الأولين مما هو الحق والصواب كمسألة الباء الواقعة في هذه الأزمنة فإن طائفة ممن تظاهر بالانتصاب للإقراء زعم أنها الرخوة التي اتفق القراء ـ وهم أهل صناعة الأداء والنحويون ايضا ـ وهم الناقلون عن العرب ـ على أنها لم تأت إلا في لغة مرذولة لا يؤخذ بها ولا يقرأ بها القرآن ولا نقلت القراءة بها عن أحد من العلماء بذلك الشأن وإنما الباء التي يقرأ بها ـ وهي الموجودة في كل لغة فصيحة ـ الباء الشديدة فأبى هؤلاء من القراءة والإقراء بها بناء على أن التي قرؤوا بها على الشيوخ الذين لقوهم هي تلك لا هذه محتجين بأنهم كانوا علماء وفضلاء فلو كانت خطأ لردوها علينا وأسقطوا النظر والبحث عن أقوال المتقدمين فيها رأسا تحسين ظن الرجال وتهمة للعلم فصارت بدعة جارية ـ أعني القراءة بالباء الرخوة ـ مصرحا بأنها الحق الصريح فتعوذ بالله من المخالفة
ولقد لج بعضهم حين وجهوا بالنصيحة فلم يرجعوا فكان القرشي المقرىء أقرب مراما منهم حكي عن يوسف بن عبد الله بن مغيث أنه قال : أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي وكان لا يحسن النحو فقرأ عليه قارىء يوما : { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } فرد عليه القرشي تحيد بالتنوين فراجعه القارىء ـ وكان يحسن النحو ـ فلج عليه المقرىء وثبت على التنوين فانتشر الخير إلى أن بلغ يحيى بن مجاهد الألبيري الزاهد ـ وكان صديقا لهذا المقرىء ـ فنهض إليه فلما سلم عليه وسأله عن حاله قال له ابن مجاهد : إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرىء فأردت تجديد ذلك عليك فأجابه إليه فقال : أريد أن أبتدىء بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات فقال المقرىء : ما شئت فقرأ عليه من أول المفصل فلما بلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين فقال له ابن مجاهد : لا تفعل ما هي إلا غير منونة بلا شك فلج المقرىء فلما رأى ابن مجاهد تصميمه قال له : يا أخي إني لم يحملني على القراءة عليك إلا لتراجع الحق في لطف وهذه عظيمة أوقعك يها قلة علمك بالنحو فإن الأفعال لا يدخلها التنوين فتحير المقرىء إلا أنه لم يقنع بهذا فقال له ابن مجاهد : بين وبينك المصاحف فأحصر منه جملة فوجدوها مشكولة بغير تنوين فرجع المقرىء إلى الحق انتهت الحكاية ويا ليت مسألتنا مثل هذه ولكنهم عفا الله عنهم أبوا الانقياد إلى الصواب
والسابع رأي نابتة أن ما عليه الجمهور اليوم صحيح بإطلاق كإلزام الدعاء بالإجتماع عقب الصلوات
والسابع : رأي نابتة أيضا يرون أن عمل الجمهور اليوم ـ من التزام الدعاء بهيئة الإجتماع بإثر الصلوات والتزام المؤذنين التثويب بعد الآذان ـ صحيح بإطلاق من غير اعتبار بمخالفة الشريعة أو موافقتها وأن من خالفهم بدليل شرعي اجتهادي أو تقليدي خارج عن سنة المسلمين بناء منهم على أمور تخبطوا فيها من غير دليل معتبر فنهم من يميل إلى أن هذا العمل المعمول به في الجمهور ثابت عن فضلاء وصالحين علماء
فلو كان خطأ لم يعملوا به
وهذا مما نحن فيه اليوم تتم الأدلة وأقوال العلماء المتقدمين ويحسن الظن بمن تأخر وربما نوزع بأقوال من تقدم فيرميها الرامي بالظنون واحتمال الخطأ ولا يرمي بذلك المتأخرين الذين هم أولى به بإجماع المسلمين وإذا سئل عن أصل هذا العمل المتأخر : هل عليه دليل من الشريعة ؟ لم يأت بشيء أو يأتي بأدلة محتملة لا علم له بتفصيلها كقوله هذا خير أو حسن وقد قال تعالى : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } أو يقول : هذا بر وقال تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } فإذا سئل عن أصل كونه خيرا أو برا وقف وميله إلى أنه ظهر له بعقله أنه خير وبر فجعل التحسين عقليا وهو مذهب أهل الزيغ وثابت عند أهل السنة أنه من البدع المحدثات
ومنهم من طالع كلام القرافي و ابن عبد السلام في أن البدع خمسة أقسام فنقول : هذا من المحدث المستحسن وربما رشح ذلك بما جاء في الحديث :
[ ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ] وقد مر ما فيه وأما الحديث فإنما معناه عند العلماء أن علماء الإسلام إذا نظروا في مسألة مجتهد فيها فما رأوه فيها حسنا فهو عند الله حسن لأنه جار على أصول الشريعة والدليل على ذلك الاتفاق على أن العوام لو نظروا فأداهم اجتهادهم إلى استحسان حكم شرعي لم يكن عند الله حسنا حتى يوافق الشريعة والذين نتكلم معهم في هذه المسألة ليسوا من المجتهدين بإتفاق منا ومنهم فلا اعتبار بالإحتجاج بالحديث على استحسان شيء واستقباحه بغير دليل شرعي
ومنهم من ترقى في الدعوى حتى يدعي فيها الإجماع من أهل الأقطار وهو لم يبرح من قطره ولا بحث عن علماء أهل الأقطار ولا عن تبيانهم فيما عليه الجمهور ولا عرف من أخبار الأقطار خبرا فهو ممن يسأل عن ذلك يوم القيامة
وهذا الإضطراب كله منشؤه تحسين الظن بأعمال المتأخرين ـ وإن جاءت الشريعة بخلاف ذلك ـ والوقوف مع الرجال دون التحري للحق
والثامن رأي قوم ممن تقدم زمان المصنف ومن أهله اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم
والثامن : رأي قوم ممن تقدم زماننا هذا ـ فضلا عن زماننا ـ اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم وأهواء من داناهم ومن رغب إليهم في ذلك فإذا عرفوا غرض بعض هؤلاء في حكم حاكم أو فتيا تعبدا وغير ذلك بحثوا عن أقوال العلماء في المسألة المسؤول عنها حتى يجدوا القول الموافق للسائل فأفتوا به زاعمين أن الحجة في ذلك لهم قول من قال : اختلاف العلماء رحمة ثم ما زال هذا الشر يستطير في الأتباع وأتباعهم حتى لقد حكى الخطابي عن بعضهم أنه يقول : كل مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز ـ شذ عن الجماعة أو لا ـ فالمسألة جائزة وقد تقررت هذه المسألة على وجهها في كتاب الموافقات والحمد لله
والتاسع ما حكى الله عن الأحبار والرهبان في قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا أي العمل بأقوالهم في الحلال والحرام
والتاسع : ما حكى الله عن الأحبار والرهبان قوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } فخرج الترمذي عن [ عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم ـ وفي عنقي صليب من ذهب ـ فقال : يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة : { ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } قال : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكن إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه ] حديث غريب
وفي تفسير سعيد ين منصور قيل لحذيفة أرأيت قول الله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } ؟ قال حذيفة : أما أنهم لم يصلوا لهم ولكنهم كانوا ما أحلوا لهم من حرام استحلوه وما حرموا عليهم من حلال حرموه فتلك ربوبيتهم
وحكى الطبري عن عدي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو قول ابن عباس أيضا وأبي العالية
فتأملوا يا أولي الألباب ! كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرجال من غير تحر للدليل الشرعي بل لمجرد العرض العاجل عافانا الله من ذلك بفضله
العاشر رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين والعاشر : رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين بحيث إن الشرع إن وافق آراءهم قبلوه وإلا ردوه
فالحاصل مما تقدم أن تحيكم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال
فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال وما توفيقي إلا بالله وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غير
مذهب الصحابة في الإتباع وتحكيمه في النزاع وشواهد ذلك ثم نقول : إن هذا مذهب الصحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم علم ذلك علما يقينا ألا ترى أصحاب السقيفة لما تنازعوا في الإمارة حتى قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن :
[ الأئمة من قريش ] أذعنوا لطاعة الله ورسوله ولم يعبؤوا برأي من رأى غير ذلك لعلمهم بأن الحق هو المتقدم على آارء الرجال
التنازع على الإمارة وقتال مانعي الزكاة ولما أراد أبو بكر رضي الله عنه قتال مانعي الزكاة احتجوا عليه بالحديث المشهور فرد عليهم ما استدلوا به بغير ما استدلوا به وذلك قوله : [ إلا بحقها ] فقال : الزكاة حق المال ثم قال : والله منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليه
فتأملوا هذا المعنى فإن فيه نكتتين مما نحن فيه :
أحداهما : أنه لم يجعل لأحد سبيلا إلى جريان الأمر في زمانه على غير ما كان يجري في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن كان بتأويل لأن من لم يرتد من المانعين إنما منع تأويلا وفي القسم وقع النزاع بين الصحابة لا فيمن ارتد رأسا ولكن أبا بكر لم يعذر بالتأويل والجهل ونظر إلى حقيقة ما كان الأمر عليه فطلبه إلى أقصاه حتى قال : والله لو منعوني عقالا إلى آخره مع أن الذين أشاروا عليه بترك قتالهم إنما أشاروا عليه بأمر مصلحتي ظاهر تعضده مسائل شرعية وقواعد أصولية لكن الدليل الشرعي الصريح كان عنده ظاهرا فلم تقو عنده آراء الرجال أن تعارض الدليل الظاهر فالتزمه ثم رجع المشيرون عليه بالترك إلى صحة دليله تقديما للحاكم الحق وهو الشرع
بعث أسامة والثانية : أن ابا بكر رضي الله عنه لم يلتفت إلى ما يلقى هو والمسلمون في طريق طلب الزكاة من مانعيها من المشقة إذ لما امتنعوا صار مظنة للقتال وهلاك من شاء من الفرقتين ودخول المشقة على المسلمين في الأنفس والأموال والأولاد ولكنه رضي الله عنه لم يعتبر إلا إقامة الملة على حسب ما كانت قبل فكان ذلك أصلا في أنه لا يعتبر العوارض الطارئة في إقامة الدين وشعائر الإسلام نظير ما قال الله تعالى : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } فإن الله لم يعذرهم في ترك منع المشركين خوف العيلة فكذلك لم يعد أبو بكر ما يلقى المسلمون من المشقة عذرا يترك به المطالبة بإقامة شعائر الدين حسبما كانت في زمان النبي صلى الله عليه و سلم وجاء في القصة أن الصحابة أشاروا عليه برد البعث الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أسامة بن زيد ـ ولم يكونوا بعد مضوا لوجهتهم ـ ليكونوا معه عونا على قتال أهل الردة فأبى من ذلك وقال : ما كنت لأرد بعثا أنفذه رسول الله صلى الله عليه و سلم فوقف مع شرع الله ولم يحكم غيره
وعن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إني أخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليكم من زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع ]
وإنما زلة العالم بأن يخرج عن طريق الشرع فإذا كان ممن يخرج عنه فكيف يجعل حجة على الشرع ؟ هذا مضاد لذلك
قول عمر في الثلاث الهادمات الدين ولقد كان كافيا من ذلك خطاب الله لنبيه وأصحابه : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية مع أنه قال تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وقوله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول : اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك قال ابن وهب : فسألت سفيان عن الإمعة فقال : الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال
نصيحة علي لكميل بن زياد وعن كميل بن زياد أن عليا رضي الله عنه قال : يا كميل : إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير والناس ثلاثة : فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق الحديث إلى أن قال فيه : أف لحامل حق لا بصيرة له ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق إن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر مشغوف بما لا يدري حقيقته فهو فتنة لمن فتن به وإن من الخير كله فاعرف الله دينه وكفى أن لا يعرف دينه
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ألا لا يقلدون أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر وهذا الكلام من ابن مسعود بين مراد ما تقدم ذكره من كلام السلف وهو النهي عن اتباع السلف من غير التفات إلى غير ذلك
وفي الصحيح عن أبي وائل قال : جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال : جلس إلي عمر في مجلسك هذا قال : هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت : ما أنت بفاعل قال : لم ؟ قلت : لم يفعله صاحباك قال : هما المرءان أهتدي بهما يعني النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر رضي الله عنه
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث عيينة بن حصن حين استؤذن له على عمر قال فيه : فلما دخل قال : يابن الخطاب ! والله ما تعطينا الجزل وما تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم بأن يقع فيه فقال الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين : إن الله قال لنبيه عليه الصلاة و السلام : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } فوالله ما جاوز عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله
وحديث فتنة القبور حيث قال عليه الصلاة و السلام : [ فأما المؤمن ـ أو المسلم ـ فيقول : محمد جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا فيقال : نم صالحا قد علمنا أنك موقن وأما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ]
وحديث مخاصمة علي والعباس عمر في ميراث رسول الله صلى الله عليه و سلم وقوله لرهط الحاضرين : هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ لا نورث ما تركناه صدقة ] فأقروا بذلك ـ إلى أن قال لعلي والعباس : [ أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ] ـ إلى آخر الحديث
ترجمة البخاري لباب العمل بالشورى وترجم البخاري في هذا المعنى ترجمة تقتضي أن حكم الشارع إذا وقع وظهر فلا خيرة للرجال ولا اعتبار بهم وأن المشاورة إنما تكون قبل التبيين فقال : باب قول الله تعالى : { وأمرهم شورى بينهم } { وشاورهم في الأمر } وأن المشاورة قبل العزم والتبيين لقوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } فإذا عزم الرسول لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله وشاور النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه يوم أحد في المقام والخروج فرأوا له الخروج فلما لبس لأمته قالوا أقم فلم يمل إليهم بعد العزم وقال :
[ لا ينبغي لنبي يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله ] وشاور عليا وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة رضي الله عنها ( فسمع منهما ) حتى نزل القرآن فجلد الرامين ولم يلتفت إلى تنازعهم ولكن حكم بما أمره الله
وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه و سلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وقع في الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر : كيف تقاتل وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا : ( لا إله إلا الله ) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ] ؟ ثم تابعه بعد عمر فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثابتا في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولا كانوا أو شبانا وكتن وقافا عند كتاب الله
هذا جملة ما قال في جملة تلك الترجمة مما يليق بهذا الموضع مما يدل على أن الصحابة لم يأخذوا أقوال الرجال في طريق الحق إلا من حيث هم وسائل للتوصل إلى شرع الله لا من حيث هم أصحاب رتب أو كذا أو كذا أو كذا وهو ما تقدم
وذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك أنه قال : ليس كل ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عز و جل : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه }
فصل إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق أيضا لا يعرف دون وسائطهم بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاء على طريقه
انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى
جميع الحقوق متاحة لجميع
المسلمين