تفسير القرطبي

ألا إنَّ رَبِّي أمرني أنْ أُعَلِّمَكُمْ ما جَهِلْتُمْ، ممَّا علَّمَني يوْمِي هذا، كُلُّ مالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حلالٌ، وإنِّي خَلَقْتُ عبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّهُم أتتْهُمُ الشياطينُ فاجْتَالَتْهُمْ عن دينِهِمْ، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحْلَلْتُ لهمْ، وأمرتهُمْ أنْ يُشْركُوا بِي ما لَمْ أُنزِلْ بهِ سُلْطَانًا، وإِنَّ اللهَ نظر إلى أهْلِ الْأَرْضِ، فمقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وعَجَمَهُمْ، إِلَّا بقَايَا من أهْلِ الْكِتَابِ، وقال: إِنَّما بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ وأَبْتَلِيَ بكَ، وأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لا يَغْسِلُهُ المَاءُ، تَقْرَؤُهُ نائِمًا ويَقْظَانَ، وإِنَّ اللهَ أمرنِي أنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: ربِّ إِذًا يَثْلَغُوا رأسِي فيدَعُوهُ خُبْزَةً، قال: اسْتَخْرِجْهُمْ كما اسْتَخْرَجُوكَ، واغْزُهُمْ نُغْزِكَ ، وأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وقَاتِلْ بِمَنْ أطاعكَ مَنْ عصَاكَ، قال : وأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، ورَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى ومُسْلِمٍ، وعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، قال : وأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الذي لا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لا يَبْتَغُونَ أهْلًا ولَا مَالًا، والخائِنُ الذي لا يَخْفَى له طَمَعٌ، وإِنْ دَقَّ إلَّا خَانَهُ، ورجُلٌ لا يُصبحُ ولا يُمْسِي إِلَّا وهو يُخَادِعُكَ عن أهْلِكَ ومالِكَ وذَكَر الْبُخْلَ أو الكَذِبَ والشِّنْظِيرُ الفَحَّاشُ عن عياض بن حمار صححه ابلالباني في صحيح الجامع وخلاصة حكم المحدث : صحيح

*

 تفسير القرطبي

Translate

السبت، 2 أبريل 2022

كتاب فاستقم كما أمرت. جهلان إسماعيل



فاستقم كما أمرت.
جهلان إسماعيل

الاستقامة على منهج الله مطلب عسير يحتاج إلى مجاهدة وصبر طويل والاستقامة من أعظم ما يمكن أن يتصف به إنسان في هذه الحياة وهي أعظم إنجاز قد يحققه المرء في حياته ولا غرابة في ذلك فإن الاستقامة في الدنيا على منهج الله منوط بها الفلاح والنجاح في الآخرة. 
 
وقد تعددت تعريفات العلماء للاستقامة ورغم اختلاف الألفاظ فكلها تصب في معنى واحد. 
 
قال ابن رجب الحنبلي الاستقامة (هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم، من غير ميل عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها، الظاهرة والباطنة)>
 
وسُئل ِصديقُ الأمة وأعظمُها استقامة – أبو بكر الصديق عن الاستقامة؟ فقال: ((أن لا تشرك بالله شيئًا)) .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب)) . 
 
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ((استقاموا: أخلصوا العمل لله )) .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((استقاموا أدوا الفرائض )) . 
 
وقال الحسن البصري رحمه الله : (( استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته))
ومن خلال هذه التعريفات والأقول يمكن القول بأن الاستقامة معنى جامع وشامل يندرج تحته استقامة الاعتقاد واستقامة الأقوال واستقامة الأعمال.
أولا: الاستقامة في الاعتقاد: وهو أن يكون الانسان صاحب اعتقاد صحيح وعقيدة سليمة وتصور واضح عن الالوهية ، فلا يشرك بالله أحدا من خلقه مهما كانت مكانته عند الله ولا يتخذ من دون الله أربابا يتوجه لهم بالعبادة، فكل هؤلاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ومن أتى شيئا من هذه الأشياء فقد أشرك بالله و الشرك هو أعظم ذنب عُصِيَ الله تعالى به؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ النساء: 116
ومما يحزن القلب أن تجد في بلاد المسلمين كثيرا من الجهلة والمغرر بهم من بعض مشايخ وعلماء السوء أو ممن ورثوا هذه العادات والاعتقادات الجاهلية وتربوا عليها حتى حسبوها دينا.
فتجد من يطوفون بالأضرحة ويلتمسون البركات من أموات مقبورين لا حيلة لهم.
وتجد منهم من ينذرون ويذبحون لغير الله .
ومنهم من يجعلون بينهم وبين الله واسطة فيدعونهم ويسألونهم الشفاعة ويتوكَّلون عليهم. قال تعالى :
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ يونس: 18.
وقال تعالى: ﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴾ الزمر: 3.
أعجب ممن يقول الله أكبر ويرددها دائما بلسانه وإذا فتشت في قلبه وجدت ألف ند لله أكبرُ عنده من الله. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا
و من أبشع الانحرافات وأبعدها عن الاستقامة أن يقول الانسان على الله بغير علم وينسب إليه سبحانه أشياء غايةً في القباحة لا تليق به جل شأنه ولا يستوعبها صاحب العقل السليم كمن ينسب لله الولد أو كالذين يدّعون أن الله حل في بعض مخلوقاته وتجسد فيهم مثل من يقول إن الله حل في علي رضي الله عنه ثم حل في أولاده من بعده واحدا بعد واحد حتى حل في الحاكم العبيدي أبي على المنصور ابن العزيز ويعتقدون بأن الحاكم الصورة الناسوتية للإله ويعتقدون أنه أي الحاكم أرسل خمسة أنبياء هم حمزة وإسماعيل ومحمد الكلمة وأبو الخير وبهاء. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ثانيا : الاستقامة في القول : بأن يقول الانسان الحق الذي يرضى الله عز وجل مهما كانت العواقب ولا يخشى في الله لومة لائم .
عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر.”
وأن يلزم ذكر الله ليل نهار .
قال تعالى : “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً”.
قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مثل الذي يذكر ربه و الذي لا يذكر ربه مثل الحي و الميت”.
وقال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم و أزكاها عند مليككم و أرفعها في درجاتكم و خير لكم من أنفاق الذهب و الورق و خير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم و يضربوا أعناقكم؟ ” قالو بلى . قال : (ذكر الله تعالى)
وأن يكون حسن الخلق في التعامل مع الناس، ينتقي أطايب الكلام.
قال الله عز وجل (وقولوا للناس حُسنا )
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء))
إن استقامة اللسان ركن مهم من أركان الاستقامة
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا أصْبَح ابن آدَم، فإن الأعضاء كلَّها تَكْفُرُ اللِّسان، تقول: اتَّقِ الله فِينَا، فإنَّما نحن بِك؛ فإن اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وإن اعْوَجَجْتاعْوَجَجْنَا)
فاللسان أشد الجوارح خطراً على الإنسان ، فإن استقام استقامت سائر جوارحه، وصلحت بقية أعماله، وإذا مال اللسان مَاَلت سائر جوارحه وفسدت بقية أعماله”
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)
فاللسان إما أن يكون مصدر سعادة لصاحبه، وإما نقمة عليه، فإن سَخَّره في طاعة الله كان سعادة له في الدنيا والآخرة، وإن أطلقه فيما لا يرضي الله -تعالى- كان حَسْرة عليه في الدنيا والآخرة.
ثالثا: الاستقامة في العمل: والاستقامة في العمل تعني عبادة الله بما شرع من عبادات وأداء الفروض وتحقيق الأركان والتقرب إلى الله بالنوافل والطاعات والبعد عن المنهيات التي نهى الله عنها .
الاستقامة في العمل لا تعني في الإسلام مجرد القيام بالعمل بل تعني أيضا اتقان العمل وتجويده وتقديمه في أحسن صورة
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ , فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى , ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : ارْجِعْ فَصَلِّ , فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ . فَرَجَعَ فَصَلَّى كَمَا صَلَّى , ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : ارْجِعْ فَصَلِّ , فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ – ثَلاثاً – فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أُحْسِنُ غَيْرَهُ , فَعَلِّمْنِي , فَقَالَ : إذَا قُمْتَ إلَى الصَّلاةِ فَكَبِّرْ , ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ معك مِنْ الْقُرْآنِ , ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً , ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِماً , ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً, ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً . وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلاتِكَ كُلِّهَا
هكذا علم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل كيف يصلي وكيف يحسِّن صلاتهويجوِّدها.وفي الحديث رسالة إلى من يصلون مثل صلاة هذا الرجل فيسرعون في صلاتهم كأنهم يريدون التخلص من عبء يثقل كواهلهم. مساكين هؤلاء لم يطمئنوا في صلاتهم ولم يستشعروا حلاوة المناجاة والوقوف بين يدي الله. أما والله لو فعلوا لما أرداو الخروج من الصلاة أبدا ولأطالوا الوقوف بين يدي الله عز وجل .
ولقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإتقان العمل مهما كان هذا العمل فقال: (إِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ، فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ). والاستدلال هنا في الحديث أنَّ على العبدِ المسلم إتقانُ العملِ، حتى وإن كانَ هذا العمل في ذبحِ الحيوانات، فمن باب أولى الإتقان في باقي الأعمال الأخرى.
إن المسلم شعاره في كل عمل يقوم به سواء كان هذا العمل عملا دنيويا من أمور المعاش أو عملا من أعمال العبادة المحضة قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ)
ولأهمية الاستقامة في حياة المسلم جاء الأمر بالاستقامة في القرآن صريحا واضحا لا لبس فيه ولا غموض.
يقول الله عز وجل (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ) سورة هود.
وقد وعد الله أهل الاستقامة بالأجر العظيم والثواب الجزيل نظير صبرهم ولزومهم منهج الاستقامة وعدم الانحراف عنه مهما كانت المغريات ومهما كانت العوائق والعراقيل.
يقول لله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32))
آمنوا بالله الواحد الأحد ثم استقاموا ..
استقاموا في عقيدتهم فلم يشركوا بالله أحدا ولم يلتفتوا إلى إله غيره من تلك الآلهة الزائفة.
واستقاموا بأقوالهم وألسنتهم..
واستقاموا في أعمالهم فأدوا الفرائض وعملوا بالأركان ولم ينقصوا منها شيئا
واستقاموا بتركهم ما نهى الله عنه من الفواحش والقبائح.
واستقاموا بقيامهم بواجبهم في الدعوة إلى هذا الدين وتبصير الناس بمبادي هذا الدين ومحاسنه والأخذ بأيدي من ضلوا الطريق وإعادتهم إلى صراط الله المستقيم.
هؤلاء لا يخافون ولا يحزنون وتتنزل عليهم الملائكة عند الموت لتبشرهم بالجنة والثواب العظيم وأنا ما هم قادمون عليه من أمر الآخرة خير لهم وأبقى من الدنيا الفانية التي تركوها وأن الله قد أعد لهم جنات فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر جزاء استقامتهم على منهج الله في الدنيا.
نسأل الله عز وجل أن نكون من أهل الاستقامة وأن نكون ممن تبشرهم الملائكة عند الممات (أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)
==========

قدرة الله جل جلاله/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

قدرة الله جل جلاله

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:

فمن أسماء الله عز وجل الحسنى: القدير، والمقتدر، والقادر، وتدل جميعها على ثبوت القدرة صفةً لله سبحانه وتعالى؛ قال جل وعلا: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾: أي: يوجِد المعدوم، ويعدم الموجود بدون عجز؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44]، وقال الله عز وجل: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ [الكهف: 45]، فالله سبحانه وتعالى قادر على فعل أي شيء، إيجادًا وإعدامًا، وليس بين الإيجاد والعدم إلا كلمة: (كُن)؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]؛ قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: "كل أمر يريده فَعَلَه لا يتعاصى عليه شيء، ولا يعارضه أحد، وليس له ظهير، ولا عوين، ولا مساعد على أي أمر يكون، بل إذا أراد أمرًا، قال له: كن فيكون".

وقال سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام: 65]، فالله جلت قدرته قادر على إرسال العذاب على العباد من فوقهم، ومن تحتهم؛ قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: "عنى بالعذاب من فوقهم: الرجم أو الطوفان وما أشبه ذلك مما ينزل عليهم من فوق رؤوسهم، ومن تحت أرجلهم: الخسف وما أشبهه".

وقال الله عز وجل: ﴿ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ﴾ [النساء: 133]؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "أي: هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه؛ كما قال: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]؛ قال بعض السلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره، وقال: ﴿ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [إبراهيم: 19]؛ أي: وما هو ممتنع عليه".

فالعباد مهما بلغت قدرتهم عددًا ومددًا، فلن تغنيهم من الله شيئًا، فقدرة الله سبحانه وتعالى ما زالت تُرِي عجيبًا، وتبدي غريبًا، لمن كان فطنًا لبيبًا، وتوقظ بزواجرها سالمًا ومربيًّا.

فما من زمان إلا ويظهر فيه من قدرة الله ما يبهر العقول، فمن زلازل مزلزلة كانت للجبال مقلقلة، ومن خسوف وكسوف متتالية، ومن رياح عاصفة، ومن صواعق مدمرة، ومن براكين مهلكة، ومن فيضانات مغرقة، ومن أوبئة قاتلة - تدل على قدرة الله الخالق، وما ظلم الله عباده؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 182]، فالعباد هم الذين يظلمون أنفسهم؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 117]، والعباد إذا ظلموا أنفسهم بالذنوب والعصيان، أراهم الله عز وجل قدرته، فصاروا حيارى على ما أصابهم، سكارى على ما وقع بهم، فالعقول ذاهبة، والقلوب ذاهلة، والعيون باكية، والدموع منسكبة، والغموم في الصدور مقيمة، والهموم على الفؤاد مخيمة، وليس عما قضاه الله محيد، نسأل الله العفو والرحمة.

ومع قدرة الله عز وجل التامة على إنزال العقاب بمختلف أنواعه على عباده إذا هم عصَوه، فإنه سبحانه وتعالى عَفُوٌّ؛ قال عز وجل: ﴿ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾ [النساء: 149]؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: "إذا علمنا أن الله عفو، وأنه قدير، أوجب لنا ذلك أن نسأله العفو دائمًا، وأن نرجو منه العفو عما حصل منا من التقصير".

فلنكثر من الدعاء بأن يعفو الله عنا؛ قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: ((أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعفُ عني))؛ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "العفوُّ من أسماء الله تعالى، وهو يتجاوز عن سيئات عباده، الماحي لآثارها عنهم، وهو يحب العفو، فيحب أن يعفو من عباده، ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض، وإذا عفا بعضهم عن بعض، عاملهم بعفوه، وعفوه أحب إليه من عقوبته".

إن ما يجري من حوادث وكوارث آياتٌ من الله لعباده منذرة، ومن سِنةِ الغفلة موقظة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59]، فهي عبرة للحصيف العاقل، وتنبيه لسرعة التوبة من الغافل، وتذكير للمتباطئ عن الطاعة والمتثاقل ليسابق ويبادر، وحسرة على المصر المتغافل؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 60]، نسأل الله السلامة من حالهم، كما نسأل الله الكريم الرحيم أن يعفو عنا، وأن يرحمنا، وأن يتجاوز عنا، وأن يرفع عنا كل بلاء ومكروه، إنه سميع مجيب، هو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.  كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

============

كتاب رسالة إلى الموسرين من المسلمين في وباء كورونا || لفهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

رسالة إلى الموسرين من المسلمين في وباء كورونا

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..أما بعد:

فقد حثَّ الله عز وجل عباده في أكثر من آية في كتابه على الإنفاق في سبيله؛ قال الله جل جلاله: ﴿ منْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245].

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: سمى الإنفاق قرضًا؛ حثًّا للنفوس، وبعثًا لها على البذل؛ لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بدَّ، طوَّعت له نفسه بذله، وسهُل عليه إخراجه، فإن علم أن المستقرض مليٌّ وفيٌّ محسن، كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه، فإن علم أنَّ المستقرض يتَّجر له بما أقرضه، وينميه له، ويثمِّره حتى يصير أضعاف ما بذله، كان بالقرض أسمح وأسمح، فإن علم أنه مع ذلك كلِّه يزيده من فضله وعطائه أجرًا آخر من غير جنس القرض، وأن ذلك الأجر حظ عظيم، وعطاء كريم، فإنه لا يتخلف عن قرضه، إلا لآفة في نفسه من البخل والشح، أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه، ولهذا كانت الصدقة برهانًا لصاحبها.

وقال رحمه الله: في الصدقة فوائد ومنافع لا يحصيها إلا الله، فمنها: أنها تقي مصارع السوء، وتدفع البلاء، حتى إنها لتدفع عن الظالم، وتطفئ الخطيئة، وتحفظ المال، وتجلب الرزق، وتفرح القلب، وتوجب الثقة بالله، وحسن الظن به، وترغم الشيطان، وتزكِّي النفس وتنميها، وتُحبب العبد إلى الله، وإلى خلقه، وتستُر عليه كل عيب، وتزيد في العمر، وتستجلب أدعية الناس ومحبتهم، وتدفع عن صاحبها عذاب القبر، وتكون عليه ظلًّا يوم القيامة، وتشفع له عند الله، وتهون عليه شدائد الدنيا والآخرة، وتدعوه إلى سائر أعمال البر، فلا تستعصي عليه، وفوائدها ومنافعها أضعاف ذلك.

نعيش هذه الأيام في شهر رمضان شهود الجود، وهو سَعة العطاء وكثرته، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: كان جوده صلى الله عليه وسلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه يتضاعف فيه أيضًا، فإن الله جبَله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة، وفي تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة: منها: شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه، ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة.

ومنها: أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا، واتِّقاء جهنم والمباعدة عنها، وخصوصًا إن ضُمَّ إلى ذلك قيامُ الليل، ومنها: أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، ولا سيما في ليلة القدر، والله تعالى يرحم من عباده الرحماء، فمن جاد على عباد الله، جاد الله عليه بالعطاء والفضل، والجزاء من جنس العمل.

ومنها: أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقصٌ، وتكفير الصيام لذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه، وعامة صيام الناس لا يجتمع في صومه التحفظ كما ينبغي، فالصدقة تجبر ما فيه من النقص والخلل".

ولهذا استحبَّ أهلُ العلم أن يزيد المسلم من جوده في شهر رمضان، قال الإمام الشافعي رحمه الله: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

في هذا العام (1441هـ) وبسبب جائحة كورونا، صار البعض من المسلمين بحاجة إلى من يساعدهم ويخفِّف عليهم من آثار هذه الجائحة، وقد منَّ الله عليك بالمال، فالمال الذي بيدك مال الله؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ [النور: 33]؛ قال العلامة السعدي رحمه الله: المال مال الله، وإنما الذي بأيديكم عطية من الله لكم، ومحض منه، فأحسنوا لعباد الله، كما أحسن إليكم، فأحسن رعاك الله لعباد الله في هذه الجائحة من مال الله الذي أعطاك، وأجل مطالبة الفقراء بدَينك مهما طالت المدة، وجاهد نفسك للتصدق عليهم بالدين أو بعضه، خصوصًا لمن كان بحاجة ماسة منهم، فذلك فضل ستجد ثوابه يوم القيامة عند الله الكريم؛ قال عز وجل: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280].

وأحسن إليهم كذلك بالتصدق عليهم بما يحتاجون من مؤن ونحوها، وما يدريك أن هذه الصدقات تقيك من أهوالٍ عظيمة، يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق في يوم القيامة، فتكون ظلًّا لك؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الصدقة يجعلها الله سبحانه وتعالى شيئًا محسوسًا يظلُّ صاحبه وحدثني رجل أنه كان بخيلًا ولا يأذن لامرأته أن تتصدق بشيء من ماله، فرأى في المنام كأنه في يوم القيامة وكأن الشمس قريبة من الناس والناس يموج بعضهم في بعض، وهم في حرٍّ شديد ومشقة، فجاء شيء مثل الكساء، فظلل عليه، لكن فيه ثلاثة خروق تدخل منه الشمس، يقول: فرأى شيئًا يشبه التمرات جاءت وسدت هذه الخروق، فانتبه وهو متأثر من الرؤيا، فقصُّها على زوجته، فقالت: الذي رأيته حق جاءني فقير وأعطيته ثوبًا وجاء بعده فقير فأعطيته ثلاث تمرات، سبحان الله الثوب الكساء، والتمرات هي التي جاءت ورقعت الشقوق الثلاثة التي في الثوب.

وتذكر أن العبد المفرط عند موته يتمنى الرجوع إلى الدنيا ليتصدق؛ قال عز وجل: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10، 11].

وهذا السؤال والتمني قد فات وقته، ولا يمكن تداركُه، أما اليوم فيمكنك التصدق والإحسان، فبادر واحذَر من وساوس الشيطان، فهو ماكر خبيث يخوِّفك بالفقر؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّـهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:268]، فأنت بين داعيين: داعي الرحمن الذي يدعوك إلى الإنفاق والإحسان، ويعدك عليه الفضل والثواب في العاجل والآجل، وبين داعي الشيطان الذي يزيِّن لك إمساك المال، ويخوفك بالفقر، فاجعَل داعي الرحمن ينتصر على داعي الشيطان تفز بالجنان والحور الحسان والنعيم المقيم، وفَّقك الله لكل خير.

كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

===========

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ) كلَّ عذابٍ وبلاءٍ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ )

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:

فالعذاب أنواع، منه ما يكون في الدنيا، ومنه ما يكون عند الموت وخروج الروح، ومنه ما يكون في القبر، ومنه ما يكون في الآخرة، ومنه ما يكون فيها جميعًا، نسأل الله الكريم الرحيم لنا، ولعموم المسلمين السلامة من جميع أنواع العذاب.

والعذاب في الدنيا، قد يكون حسيًّا في البدن، وقد يكون معنويًّا في القلب والنفس، والعذاب الدنيوي له أسباب متعددة؛ منها: استعجال العذاب، فالمكذبون للرسل لجهلهم وظلمهم وعنادهم، يطلبون تعجيل العذاب لهم في الدنيا؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾ [العنكبوت: 53]؛ قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: يستعجلون بالعذاب لا أنهم يريدون العذاب، بل يستعجلونه تحديًا.

فقوم نوح، دعاهم نبيهم نوح عليه الصلاة والسلام إلى عبادة الله وحده لا شريك، وخاف عليهم نزول العذاب؛ قال الله عز وجل: ﴿ لقَد أَرسَلنا نوحًا إِلى قَومِهِ فَقالَ يا قَومِ اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ إِنّي أَخافُ عَلَيكُم عَذابَ يَومٍ عَظيمٍ ﴾ [الأعراف: 59]، وبعد دعوتهم بالترغيب والترهيب، طلبوا منه أن يأتيهم بما وعدهم به من العذاب؛ قال سبحانه وتعالى عنهم: ﴿ قالوا يا نوحُ قَد جادَلتَنا فَأَكثَرتَ جِدالَنا فَأتِنا بِما تَعِدُنا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقينَ ﴾ [هود: 32]، قالوا ذلك تعنتًا وتكبرًا، فجاءهم العذاب الذي أهلكهم وأغرقهم؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 14]، وقال جل وعلا: ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ [القمر: 11-12]، قال العلامة السعدي رحمه الله: فجُعلت السماء ينزل منها الماء، شيء خارق للعادة، وتفجرت الأرض كلها، حتى التنور الذي لم تجر العادة بوجود الماء فيه، فضلًا عن كونه منبعًا للماء؛ لأنه موضع النار، ﴿ فَالْتَقَى الْمَاءُ ﴾؛ أي: ماء السماء والأرض، ﴿ عَلَى أَمْرٍ ﴾ من الله له بذلك، ﴿ قَدْ قُدِرَ ﴾؛ أي: كتبه الله في الأزل وقضاه عقوبةً لهؤلاء الظالمين الطاغين.

وقوم عاد أنذَرهم نبيُّهم هود عليه الصلاة السلام، بوقوع العذاب إن لم يستجيبوا له في عبادة الله وحده لا شريك له، فطلبوا منه أن يأتيهم به؛ كما قال الله عز وجل عنهم: ﴿ واذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّـهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الأحقاف: 21-22]، فأرسل الله الريح التي دمَّرتهم وأهلكتهم، فأصبحوا صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، وهم الذين كانوا يقولون: ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾[فصلت: 15]، قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: أهلكهم الله بالريح التي هي من ألطفِ الأشياء، فدل هذا على كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه مهما بلغ الناس من القوة، فليست قوتهم بشيءٍ بالنسبة إلى قوة الله.

وقوم ثمود، دعاهم نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال عز وجل: ﴿ وَإِلى ثَمودَ أَخاهُم صالِحًا قالَ يا قَومِ اعبُدُوا اللَّـهَ ما لَكُم مِن إِلـهٍ غَيرُهُ ﴾ [الأعراف: 73]، وقد أرسل الله لهم آية تدل على صدق نبيهم، كما طلبوا، وهي الناقة التي خرجت من الصخرة، وطلب منهم ألا يتعرضوا لها بسوء، فنحروها، وطلبوا من صالح أن يأتيهم بالعذاب إن كان من رسل الله حقًّا؛ قال الله عز وجل: ﴿ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوا عَن أَمرِ رَبِّهِم وَقالوا يا صالِحُ ائتِنا بِما تَعِدُنا إِن كُنتَ مِنَ المُرسَلينَ ﴾ [الأعراف: 77]، فجاءهم العذاب، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَأَخَذَتهُمُ الرَّجفَةُ فَأَصبَحُوا في دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [الأعراف: 78]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: .. فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنَّطوا، وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه، عياذًا بالله من ذلك، لا يدرون ماذا يفعل بهم، ولا كيف يأتيهم العذاب، وأشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحة، ﴿ فَأَصبَحوا في دارِهِم جاثِمين ﴾؛ أي: صرعى لا أرواح فيهم، ولم يفلت منهم أحد، لا صغير ولا كبير، ولا ذكر ولا أنثى.

وقوم لوط، وعَظهم نبيُّهم لوط عليه السلام، وحذَّرهم من فاحشة اللواط، وبدل أن يستجيبوا له، ويتركوا هذه الفاحشة الشنعاء، طلبوا منه أن يأتيهم بالعذاب، قال الله عز وجل: ﴿ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّـهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [العنكبوت: 28-29]، فقلَب الله جلَّت قدرته عليهم ديارَهم، فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم من السماء حجارة من سجيل متتابعة، حتى أبادتهم وأهلكتهم.

وقوم شعيب، وعَظهم نبيُّهم شعيب عليه السلام، وأمرهم بإتمام الكيل عند بيعهم للناس، وعدم الإفساد في الأرض بالمعاصي، فطلبوا منه أن يسقط عليهم حجارة من السماء، قال الله عز وجل: ﴿ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾[الشعراء: 185-187]، فلما قال هؤلاء الجهلة ما قالوا، وكذبوا رسولهم، جاءهم العذاب، قال الله عز وجل:﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الشعراء: 189]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حرٌّ عظيم لمدة سبعة أيام لا يكنهم منه شيء، ثم أقبلت عليهم سحابة أظلتهم، فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بها من الحرِّ، فلما اجتمعوا كلهم تحتها أرسل الله تعالى عليهم منها شررًا من نار ولهبًا ووهجًا عظيمًا، ورجفت بهم الأرض، وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم، ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾.

وقوم قريش، طلبوا من رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، إن كان صادقًا أن تمطر السماء عليهم حجارة، قال عز وجل: ﴿ وَإِذ قالُوا اللَّـهُمَّ إِن كانَ هـذا هُوَ الحَقَّ مِن عِندِكَ فَأَمطِر عَلَينا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائتِنا بِعَذابٍ أَليمٍ﴾ [الأنفال: 32]، قالوا ذلك مبالغة في الإنكار، وقد دفع الله عنهم العذاب لوجود الرسول عليه الصلاة والسلام بينهم، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَما كانَ اللَّـهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فيهِم وَما كانَ اللَّـهُ مُعَذِّبَهُم وَهُم يَستَغفِرونَ ﴾ [الأنفال: 33]، والله عز وجل عندما أخبرنا في القرآن الكريم بعذاب الأمم السابقة، وسبب عقوباتهم، كان الغرض أخذ العبرة والعظة، والبعض من الناس قد يستعجل نزول العذاب به، بلسان حاله، وليس بلسان مقاله، فالمعاصي والذنوب من أسباب العذاب والهلاك الذي يحل بالعباد والبلاد، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾ [الأنعام: 6]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم.

فلنكن على حذر ووجلٍ، ولنتجنب كلَّ ما يستوجب نزول عذاب الله وعقابه، قال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.

فينبغي عدم الأمن من عذاب الله جل جلاله وعقابه الذي قد يأتي فجأة؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾[العنكبوت: 53]، وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ أَفَأَمِنَ أَهلُ القُرى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنا بَياتًا وَهُم نائِمونَ*أَوَأَمِنَ أَهلُ القُرى أَن يَأتِيَهُم بَأسُنا ضُحًى وَهُم يَلعَبونَ * أَفَأَمِنوا مَكرَ اللَّـهِ فَلا يَأمَنُ مَكرَ اللَّـهِ إِلَّا القَومُ الخاسِرونَ ﴾ [الأعراف 97-99]

نسأل الله الرحيم أن يعفوَ عنا، وأن يرحمَنا، وأن يقيَنا كلَّ عذابٍ وبلاءٍ  فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ    

=======

ح ن

أ لا إنَّ رَبِّي أمرني أنْ أُعَلِّمَكُمْ ما جَهِلْتُمْ، ممَّا علَّمَني يوْمِي هذا، كُلُّ مالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حلالٌ، وإنِّي خَلَقْتُ ...